ومن حق الأخ على أخيه وصديقه في اللسان أن يسكت عن إفشاء سره الذي استودعه إياه، وله أن ينكره وإن كان كاذبًا، فليس الصدق واجبًا في كل مقام، فإنه كما يجوز للرجل أن يخفي عيوب نفسه وأسراره وإن احتاج إلى الكذب، فله أن يفعل ذلك في حق أخيه [١] فإن أخاه نازل منزلته، وهما شخص واحد لا يختلفان إلا بالبدن، هذه حقيقة الأخوة، وكذلك لا يكون بالعمل بين يديه مرائيًا وخارجًا عن أعمال السر إلى أعمال العلانية، فإن معرفة أخيه لعمله كمعرفته بنفسه من غير فرق، وقد قال عليه السلام: من ستر عورة أخيه ستره الله في الدنيا والآخرة [٢] وفي خبر آخر: فكأنما أحيا موءودة. رواه أبو داود والنسائي وغيرهما، وقال عليه السلام: إذا حدّث الرجل بحديث ثم التفت فهو أمانة [٣] . وقال: المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس: مجلس يسفك فيه دم حرام، ومجلس يستحل فيه فرج حرام، ومجلس يستحل فيه مال من غير حله [٤] . وقال صلى الله عليه وسلم: المتجالسان بالأمانة ولا يحل لأحدهما أن يفشي على الآخر ما يكره (هو مرفوعًا ضعيف، مرسلاً جيد) وقيل لبعض الأدباء: كيف حفظك للسر؟ قال: أنا قبره، وقد قيل: (صدورالأحرار قبور الأسرار) ، وقيل: إن قلب الأحمق في فيهِ، ولسان العاقل في قلبه، أي لا يستطيع الأحمق إخفاء ما في نفسه فيبديه من حيث لا يدري، فمن ههنا يجب مقاطعة الحمقى والتوقي عن صحبتهم، بل عن مشاهدتهم. وقد قيل لآخر: كيف تحفظ السر؟ قال: أجحد المخبر وأحلف للمستخبر، وقال آخر: أستره، وأستر أني أستره، وعَبَّر عنه ابن المعتز فقال: ومستودعي سرًّا تبوأت كتمه ... فأودعته صدري فكان له قبرًا وقال آخر وأراد الزيادة عليه: وما السر في قلبي كثاوٍ بقبره ... فإني أرى المقبور ينتظر النشرا ولكنني أنساه حتى كأنني ... بما كان منه لم أُحط ساعة خُبرا ولو جاز كتم السر بيني وبينه ... عن السر والأحشاء لم أعلم السرا وأفشى بعضهم سرًّا له إلى أخيه ثم قال له: حفظت؟ فقال: بل نسيت، وكان أبو سعيد الثوري يقول: إذا أردت أن تواخي رجلاً فأغضبه، ثم دس عليه من يسأله عنك وعن أسرارك، فإن قال خيرًا أو كتم سرك فاصحبه، وقيل لأبي يزيد: مَن أصحبُ مِن الناس؟ قال: مَن يعلم مِنك كما يعلم الله، ثم يستر عليك كما يستر الله. وقال ذو النون: لا خير في صحبة من لا يحب أن يراك إلا معصومًا، ومن أفشى السر عند الغضب فهو اللئيم؛ لأن إخفاءه عند الرضا تقتضيه الطباع السليمة كلها، وقال بعض الحكماء: لا تصحب مَن يتغير عليك عند أربع: عند غضبه ورضاه، وعند طمعه وهواه، بل ينبغي أن يكون صدق الأخوة ثابتًا على اختلاف هذه الأحوال، ولذلك قيل: وترى الكريم إذا تصرم وصله ... يُخفي القبيح ويُظهر الإحسانا وترى اللئيم إذا تقضى وصله ... يُخفي الجميل ويُظهر البهتانا وقال العباس لابنه عبد الله: إني أرى هذا الرجل (يعني عمر) يقدمك على الأشياخ، فاحفظ عني خمسًا: لا تفشين له سرًّا، ولا تغتابن عنده أحدًا، ولا يجربن عليك كذبًا، ولا تعصين له أمرًا، ولا يطلعن منك على خيانة، فقال الشعبي: كل كلمة من هذه الخمس خير من ألف. ومن ذلك السكوت عن المماراة والمدافعة في كل ما يتكلم به أخوك، قال ابن عباس: لا تُمارِ سفيهًا فيؤذيك، ولا حليمًا فيقليك، وقال صلى الله عليه وسلم: (من ترك المراء وهو مبطل بنى الله له بيتًا في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو محق بنى الله له بيتًا في أعلى الجنة) (حسنه الترمذي) هذا مع أن تركه مبطلاً واجب، وقد جعل ثواب النفل أعظم؛ لأن السكوت على الحق أشد على النفس من السكوت على الباطل، وإنما الأجر على قدر النصب، وأشد الأسباب لإثارة نار الحقد بين الإخوان المماراة والمناقشة؛ فإنها عين التدابر والتقاطع، فإن التناطع يقع أولاً بالآراء، ثم بالأقوال، ثم بالأبدان، وقد قال صلى الله عليه وسلم: لا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تقاطعوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يحرمه، ولا يخذله، بحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم [٥] . وأشد الاحتقار المماراة، فإن من رد على غيره كلامه فقد نسبه إلى الجهل والحمق، أو إلى الغفلة والسهو عن فهم الشيء على ما هو عليه، وكل ذلك استحقار وإيغار للصدر وإيحاش، وفي حديث أبي أمامة الباهلي قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتمارى، فغضب وقال: ذروا المراء لقلة خيره، وذروا المراء فإن نفعه قليل، وإنه يهيج العداوة بين الإخوان [٦] . وقال بعض السلف: مَن لاحى (خاصم) الإخوان وماراهم، قلَّت مروءته وذهبت كرامته وقال عبد الله بن الحسن: إياك ومماراة الرجال، فإنك لن تعدم مكر حليم، أو مفاجأة لئيم، وقال بعض السلف: أعجز الناس من قصر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم، وكثرة المماراة توجب التضييع والقطيعة وتورث العداوة، وقد قال الحسن: لا تَشْتَرِ عداوة رجل بمودة ألف رجل. وعلى الجملة: فلا باعث على المماراة إلا إظهار التمييز بمزيد العقل والفضل واحتقار المردود عليه بإظهار جهله، وهذا يشتمل على التكبر والاحتقار، والإيذاء والشتم بالحمق والجهل [٧] ولا معنى للمعاداة إلا هذا، فكيف تضامَّه الأخوة والمصافاة، فقد روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تمارِ أخاك ولا تمازحه، ولا تعده موعدًا فتخلفه (رواه الترمذي بسند ضعيف) وقال عليه السلام إنكم لا تسعون الناس بأموالكم، ولكن ليسعهم منكم بَسطَُ وَجهٍ وحُسْنُ خُلُقٍ (حسنه أبو يعلى، وصححه الحاكم، وضعفه ابن عدي) وقد انتهى السلف في الحذر من المماراة، والحض على المساعدة إلى حد لم يروا السؤال أيضًا، وقالوا: إذا قلت لأخيك: قم، فقال: إلى أين؟ فلا تصحبه، وقالوا: بل ينبغي أن يقوم ولا يسأل، وقال أبو سليمان الداراني: كان لي أخ بالعراق فكنت أجيئه في النوائب، فأقول: أعطني من مالك، فكان يلقي إليّ كيسه فآخذ منه ما أريد، فجئته ذات يوم، فقلت: أحتاج إلى شيء، فقال: كم تريد؟ فخرجت حلاوة إخائه من قلبي، وقال آخر: إذا طلبت من أخيك مالاً، فقال: ماذا تصنع به؟ فقد ترك حق الإخاء، واعلم أن قِوام الأخوة بالموافقة في الكلام والفعل والشفقة، قال أبو عثمان الحيري: موافقة الإخوان خير من الشفقة عليهم، وهو كما قال. اهـ بتصرف نقول: إن بُعدنا عن أخلاق ديننا وآدابه، صَيَّر سيرة سلفِنا في نظرنا من الأعاجيب التي لا تكاد تصدق، وأين الذين يُنسَبون للإسلام اليوم؟ وأحدهم يعادي أخاه في النسب، بل يقتل الأم والأب لأجل قليل من الحُطام - من أولئك الذين كانت (الجامعة الإسلامية) كافية عندهم لأن يلقي أحدهم كيسه للآخر يأخذ منه ما شاء، فلنرجع إلى الآداب، ولنُرَبِّ أولادنا عليها؛ يرجع إلينا مجد آبائنا الأولين، وإلا فإن الأماني ودعوى الإسلام لا تغني عنا شيئًا، والسلام.