أمير وأميرة من الأسرة الخديوية البحر هادئ والهواء عليل. وقد قرب الغروب واليوم آخر أيام السفر، وأنا محبوس في هذا المكان الضيق لتحرير هذه الأحرف إجابة لطلب بعض الناس، وبودي لو أستنشق الهواء لكن بقيت عليَّ قصة أقصها ولو تركتها اليوم، لم يعد إليها القلم في يوم. صعدت إلى المركب من مسينا وجلست أنتظر مسيره، وبينا أنا كذلك وإذا بأمير من أعضاء العائلة الخديوية يصعد من السلم إلى السطح فنهضت للسلام عليه وتساءلنا عن مراحل أسفارنا، وفهمت منه أن معه حرمه، وهي من أعضاء العائلة الخديوية كذلك. فقلت: أمير جليل رُبِّي على الطريقة الأوربية، وتعود السفر إلى بلاد أوربا مع حَرَمِهِ وهي كذلك قد ربيت على العظمة والحرية فلا ريب أن نرى الأميرة مع الأمير، ولا يقدح ذلك في كرامة واحد منهما فإن الأميرات المصونات قد يرين الناس من حيث لا يراهن الناس لا لأنهن من عالم غير عالمهم، ولكن لأن الناس يغضون الطرف احترامًا لهن، ولا حظر عليهن في رؤية من لا يراهن. لكني مكثت مع الأمير إلى وقت العصر، ثم تركته وذهبت إلى محل الأكل لأتناول شيئًا مما يتناول في هذا الوقت فكان جلوسي مع بعض أرباب البيوت من الفرنسيين المقيمين في الإسكندرية. فبدؤوني بالكلام فتكلمت، وامتد بي وبهم الحديث إلى حالة المركب وازدحامه بالركاب وضيقه عنهم , فقال قائل أو قالت قائلة: ما أسوأ ما صنعت الشركة مع البرنسيس فإنها وضعتها في قُمْرَةٍ ضيقة لا شباك لها، وهي ملازمة لها ليلها ونهارها، ولو كانت ممن يخرجن ويستنشقن الهواء لسهل الأمر، ولكن الأميرة لا تخرج أبدًا؛ لأنها لم تخرج قط من يوم ركبت المركب، ومن القُمرات ما هو أفضل من قُمْرَتِها وأوسع. فسألت: هل بها شيء تألم له لو خرجت؟ فقيل لي: لا , الظاهر أنها في غاية الصحة، وكمال العافية غير أنها لا تحب أن تخرج، والقُمرة مقفلة في جميع الأوقات. أمكنني بعد ذلك أن أسأل حتى يتم سروري بما فرحت لأوله فعلمت أن الأميرة كانت في أوربا تسدل على وجهها نقابًا أزرق على نحو ما يسدل نساء الآستانة أو سوريا بحيث لا يميز الناظر شيئًا من وجهها، ومتى ركبت المركب لزمت قُمرتها , وأغلقتها عليها إلى أن تصل إلى غاية سفرها، وكل ذلك تفعله حرصًا منها على كرامتها، ومحافظة على المعروف من عوائدها من حيث هي أميرة مسلمة. فقلت: مَثَلٌ صالح لا بد من ذكره، والثناء عليه، حتى يتعلم أولئك المقلدون أن من أمرائهم وأميراتهم من هم أَوْلَى بتقليده، وأن خيرًا لهم أن يقلدوا أميرًا مصريًّا من العائلة الخديوية الكريمة من أن يقلدوا جماعة من الأوربيين غير معروفين لهم، ولا يحسون بتقليدهم، ولا يستفيدون من حذوهم إلا تجردهم مما يميزهم من حيث هم مصريون أو مسلمون، واختفاءهم في غمرة أولئك الأوربيين لا يتميزون عن عامتهم في شيء، وسريان ما يشكو منه القوم من الفساد إلى أنفسهم أو أنفس نسائهم فبارك الله في الأمير والأميرة، وأرشد الله شبابنا إلى التأسي بهما إن كان لا بد لنسائهم أن يذهبن إلى أوربا لمداواة علة، أو إيناس في غربة. لعلك تسأل: مَنْ هذا الأمير، ومَنْ هذه الأميرة؟ فإني أقول لك: الأمير هو: الأمير عباس باشا حليم والأميرة هي: الأميرة خديجة أخت أفندينا الخديوي عباس باشا حلمي ومما يسرك - إن كنت مثلي تحب العفة، ووضع الشيء موضعه - أن الأمير لا ينفق في سفره إن كان وحده أكثر من ثلاث مائة وخمسين جنيهًا، وإذا كان مع الأميرة فلا ينفق أكثر من ستمائة جنيه في مدة شهرين ونصف، وهو يعيش عيشة الأمراء. تقول: لعله يقتصد ليكتنز، ويوفر ليستكثر، فأقول لك: إني علمت أنه ينفق من ماله في تربية تلامذة في مصر، وفي الآستانة وفي إنكلترا يتعلمون العلوم العالية في المدارس الحربية أو مدارس الطب أو الزراعة. فما قولك في نفقة مثل هذه بدل النفقة في الشهوات وفوائت اللذات؟ ألست توافقني على أنه من أفضل الأمراء عملاً، ومن أنبلهم قصدًا فإنه يربي أناسًا يقومون بشئون بيوتهم أعرف بعضهم وأجهل بعضًا، ألا يكسب بهذا حسن الأحدوثه وتخليد الذكر خصوصًا إذا استزاد من هذا الخير فإنه بذلك يقوي عناصر العلم في البلاد , وهو الأصل الذي نحتاج إليه، لا سيما إذا انضم إليه حُسن التربية كما هو مقصد الأمير. ولو اقتدى به الأمراء لأصبحنا في ثروة من العلم، ولم تصب حضراتهم بالإفلاس من المال. بعد الإفلاس من الكمال، وفقه الله وأرشدهم , والسلام. اهـ (المنار) تمت ملاحظات السائح البصير في تعريجه على صقلية وقد كتبت النبذة الرابعة في الجزء الـ ٢٤ من السنة الماضية ثالثة (٣) ولعله يتكرم علينا بشيء من ملاحظاته النافعة في البلاد الأخرى التي ساح فيها ليعلم السائحين الكثيرين من أمته كيف ينتفع البصير بالسياحة، وكيف يأمن مضرتها ومن أجدر من سائحنا بهذا الإرشاد.