وظيفة المسلمين إذا ظُلموا: إن الشريعة الإسلامية رسمت للمسلمين خطتين إذا ظُلموا: خطة ضد استبداد الحكومة الإسلامية، وخطة ضد استبداد الحكومة الأجنبية - والأولى تنحصر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإعلان الحق وتقبيح الظلم من استطاع إليه سبيلاً - أما الثانية فليست إلا السيف والحرب العوان وضرب الرقاب. وفي كلتيهما أُمر المسلمون بأن يضحوا نفوسهم ويرحبوا بالموت صابرين ثابتين شاكرين، راجين رحمة ربهم وفلاح الدنيا والآخرة. ولذا تجدهم كما تجرعوا كؤوس المنايا بين الولاة الظلمة من أنفسهم في سبيل الحق، كذلك باعوا رءوسهم بيد الأجانب في إعلاء كلمة الحق، وقد سبقوا سائر الأمم في هذا المضمار، فلا يوجد (لسعيهم الحربي) مثال، ولا يوجد (لسعيهم المدني) مثال. ولقد كان يجب على مسلمي الهند الآن أن يتخذوا الخطة الثانية فيحاربوا الحكومة الإنجليزية بالسلاح ويتفانوا في جهادها، غير أنهم آثروا الأولى، وأعلنوا أنهم لا يرفعون عليها السلاح، ولا يسفكون الدماء، بل يظلون متمسكين بعُرَى الأمن والسلم، وإنما يقاطعونها، وينفضون أيديهم من التعاون معها ويشهرون سوءاتها، ويطلبون تغييرها (بالسعي المدني) أي يعاملونها كما كانوا يعاملون الحكومات الإسلامية الجائرة. أجل إن فيهم ضعفًا ووهنًا، ولا يستطيعون محاربة الدولة البريطانية القوية، إلا أنهم لم يكونوا عاجزين عن إلقاء أنفسهم في أفواه مدافعها وسد طريقها بجثثهم الممزقة، ولكنهم مع قدرتهم عليه اختاروا الخطة الأولى، ولم يضيقوا عليها السبل، فهلا كان يجب عليها أن تفكر في صنيعهم وتسامُحِهم معها؟ فحسبها أنهم يعاملونها كمعاملتهم لحكوماتهم الإسلامية! انقلاب الحال: وإني أقول حقًّا: إنه لا يؤلمني أن أرى الحكومة عازمة على معاقبتي، وأنها لا تحاكمني إلا لأن تزجني في السجون؛ إذ هذا أمر لا بد منه، وإنما الذي يؤلمني فيفتت كبدي هو أن أرى الحالة تنقلب انقلابًا تامًّا، فبدلاً من أن ينتظر من المسلم صدق اللهجة والقول الحق، يطلب منه السكوت عنه وكتمان الشهادة، وأن لا يقول للظالم: (إنك ظالم) لأن قانون ١٢٤ يعاقب عليه. ولقد كان المسلم في العهد الأول يوقف بين يدي ملك جبار لقوله له: (إنك ظالم) فيصب عليه العذاب إلى أن تتشقق له القصب، ثم يمدون قصبة قصبة حتى يذهب لحمه كله، فلا يسمعونه يستغيث أو يندم أو يتألم، بل لا ينفك لسانه يقول ما قاله أولاً [١] فوازنوا بين هذا وبين قانونكم (١٢٤) . ولست أنكر أن الحقيقة المحزنة هي أن المسلمين أنفسهم مسئولون عن هذا الانقلاب المُخْزِي وتسلُّط الأجانب عليهم حتى أصبحوا بحالتهم الحاضرة أكبر فتنة للإسلام - أقول هذا وقلبي يذوب حزنًا وكمدًا على وجود أناس من المسلمين في هذه البلاد يتخذون أربابًا من دون الله ويعبدون الظلم والظلمة جهرًا وعلنًا، فإلى الله المشتكى ثم إلى الله المشتكى. الحرية أو الموت: ولكن سوء حال المسلمين لا يسوِّد ناصية تعاليم الإسلام الحق البيضاء المصونة بين دفتي الكتاب الحكيم. وهي لا تبيح للمسلمين في حال من الأحوال أن يعيشوا عبيدًا وخولاً للأجانب والمستبدين بل توجب عليهم أن يحيوا أحرارًا، أو يموتوا كِرَامًا، وليس بينهما سبيل. وهذا الذي حملني قبل اليوم باثنتي عشرة سنة على أن أُذَكِّر المسلمين في الهلال [٢] بأن الجهاد في سبيل الحرية، وبيع الرءوس لإعلاء كلمة الحق هو إرثهم الإسلامي القديم الذي ورثوه عن أجدادهم العظام، وأنه يجب أن يحافظوا عليها بكل قوة، وأن دينهم يحتم عليهم أن يسبقوا جميع أبناء وطنهم في الجهاد الوطني، فلا يكونوا فيه أذنابًا؛ بل رءوسًا وأعلامًا يُهْتَدَى بهم. ولقد كان من فضل الله أن دعوتي لم تذهب أدراج الرياح، بل لقيت القبول والإجابة منهم، وها نحن أولاء نراهم اليوم قد شمروا عن ساعديهم وعزموا عزمًا شديدًا على السعي والعمل مع إخوانهم الوطنيين من الهندوس والنصارى والمجوس لتحرير وطنهم من ربقة العبودية الأجنبية، ولا يقر لهم قرار إلا بعد نيل المرام. مسألة الخلافة: وإني لا أذكر ههنا مظالم الحكومة حيال الخلافة الإسلامية؛ لأنها أشهر من أن تُذْكَر، ولكن الذي أريد التصريح به هو أنه لم يمض عليَّ يوم ولا ليلة في خلال السنتين الماضيتين إلا وأعلنت تلكم المظالم على رءوس الأشهاد، وصرخت بأعلى صوتي قائلاً: (إن الدولة التي تدوس الخلافة الإسلامية تحت أقدامها ولا تندم على ما اقترفته في الهند من الفظائع والمنكرات لا تستحق أن يخلص لها أحد من أبناء هذه البلاد؛ لأنها بأعمالها قد أصبحت عدوًّا ألد للإسلام والمسلمين ولسكان هذا القطر!) . ولا تلومن الحكومة أحدًا غير نفسها على سقوطها في هذا المأزق الذي يصعب عليها الخروج منه؛ لأنني قد نبهتها سنة ١٩١٨ من معتقلي في كتاب مِنِّي إلى (اللورد جيمس فورد) الوالي السابق فصَّلْتُ لها فيه الأحكام الإسلامية التي تتعلق بالخلافة وجزيرة العرب، وصارحتها بأن الدولة البريطانية إذا نقضت عهودها، واستولت على الخلافة والبلاد الإسلامية تُوقِع المسلمين في حالة حرجة جدًّا ولا يبقى لهم إذ ذاك إلا أن يكونوا مع الإسلام أو مع البريطانية، ومعلوم أنهم يؤثرون الإسلام عليها. ولكنها لكبرها وعجرفتها لم تُبَالِ بما كتبتُ، فألقت كتابي ظِهْرِيًّا، ونكثت أيمانها من بعد توكيدها، فاحتلت دار الخلافة الإسلامية واستولت على العراق والشام وفلسطين، وبسطت نفوذها على جزيرة العرب، فعادت الإسلام والمسلمين علنًا، واضطرتهم إلى مقاطعتها ونبذ معونتها والتبري من طاعتها (وهو أقل ما توحيه الشريعة في مثل هذه الحالة كما مر) ثم إنها بإصرارها على غيها وإعراضها عنهم واستنكافها من الإنصات إليهم أَيْأَسَتْهُمْ من نفسها، حتى أيقنوا أن لا سبيل إلى الحياة ونيل حقوقهم المغصوبة إلا بإسقاط هذه الحكومة وإقامة حكومة وطنية بحتة، وهي التي يسمونها في لغتهم (بالسوارج) . أعدل هذا أم ظلم؟ والحاصل أن اعترافاتي في هذا الباب جلية وصريحة، فإني لا أعد الحكومة الحاضرة إلا (بيوو كريسيا) غير شرعي وعدمًا محضًا في عين الحق والقانون ولرضا مئات (؟) الملايين من أبناء البلاد، فهم يمقتونها أشد المقت، ويطلبون زوالها وسقوطها بأسرع ما يمكن؛ لأنهم ألفوها دائمًا تؤثر الرهبة والشدة في أعمالها على العدل والحق، وتبيح سفك الدماء البريئة بدون رحمة ولا شفقة في (جليانوا لاباغ) [٣] وتجلد الصبيان الذين ما عرفوا الذنوب بعدُ لأن ينحنوا أمام العلم البريطاني المثلث. ثم إنهم وجدوها لا ترتدع عن دوس الخلافة الإسلامية، ولا تسمع الصيحات المتوالية التي تعلو من أفواه المسلمين وغيرهم، وتسلم أزمير وتراقية إلى اليونان ظلمًا وجورًا، وتسمح لهم بإراقة دماء المسلمين أنهارًا في سهول الأناضول. ولقد رأوا جرأتها في سحق الحق غير قليلة، وهمتها في لبس الصدق بالإفك غير كليلة، ولسانها في تكذيب الحقائق غير عيي ولا متلعثم، فمع أنه يوجد في ولاية أزمير ٧٠ في المائة من المسلمين، يعلن رئيس وزرائها بدون أدنى لَكْنَة أن الأكثرية للنصارى. ولقد وضع اليونانيون السيف في رقاب المسلمين وذبحوهم ذبح الأنعام، هو يقلب الحقيقة فيتهم العثمانيين بالقتل وسفك الدماء، ويشهر المظالم التركية المخترعة في العالم بلا مبالاة، ويخفى بكل وقاحة تقرير لجنة التفتيش الأمريكية التي ندبتها حكومته بنفسها، ويؤلب على الأحرار العثمانيين الدول الغربية كلها، ويدعوها إلى محاربتهم واستئصالهم. ثم إنهم وجدوها لا تخجل ولا تندم على هذه الفضائح والمنكرات، ولا ترغب في تلافيها وإصلاح عوجها، بل تعود، فتستبد أكثر من قبل، وتقهر البلاد وتكبح سعيها الشرعي السلمي، وتعمل كل ما عملته في السنة الماضية، وما تعمله منذ ١٨ نوفمبر إلى الآن، من الأعمال الشنيعة التي تشمئز منها الإنسانية وتعافها. فيا ليت شِعْرِي إن لم أقل لمثل هذه الحكومة (إنك ظالمة، فإما أن تتوبي وإما أن تزولي) فماذا أقول؟ أفأكذب وأقول لها: لا بل إنك عادلة فلا تتوبي ولا تزولي؟ لعمر الله إن هذا لا يكون أبدًا! . وهل يستحق الظلم أن يبدل اسمه ويسمى بغير اسمه؛ لأنه يملك القوة والسجون والمشانق؟ كلا بل أقول كما قال صالح إيطالية وبطل الحرية (ميزني) : إننا لا نسكت عن سيئاتكم؛ لأنكم تملكون قوة عما قليل تزول! قرة عيني في (هذه الجناية) : إني لأعجب كيف تقدم الحكومة هاتين الخطبتين الناقصتين ضدي؟ أفما كانت تجد غيرهما؟ ألا توجد هذه الأقوال بعينها وأكثر منها في الألوف المؤلفة من الصحائف التي حبَّرتُها، وفي جميع خطبي التي خطبتها في سائر أنحاء الهند؟ فلو أنها رجعت إليها لوجدتها ممتلئة من هذه الأفكار الثوروية. الحكومة تعلم أني لست حديث عهد (بمبادئ الثورة) كما سمتها فلقد مارستها وأنا صغير، وباشرت الخطابة والكتابة فيها وأنا ابن ثماني عشرة سنة، وأفنيت شبابي في عشقها والهيمان بها، ودعوت أمتي إليها جهرًا على مسمع من الحكومة وحرضتها على المطالبة بحقوقها منها؛ ولذا اعتقلتني أربع سنوات، ولكن الاعتقال لم يكن ليمنعني من أداء واجباتي فظللت تحت المراقبة الشديدة أرفع صوتي بها وأدعو الناس إليها، لا سرًّا بل علنًا في رابعة النهار! وكيف لا، وفيها قرة عيني، وهي مقصدي من الحياة، إن أعش: أعش لأجلها، وإن أمت: أمت عليها {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} (الأنعام: ١٦٢) . الحركة الإسلامية الأخيرة: كيف أستطيع التبري من هذه (الجناية) وأنا الذي قمت بهذه (الحركة الإسلامية) التي أحدثت انقلابًا عظيمًا في أفكار المسلمين السياسية، وأوصلتهم إلى حيث نراهم الآن، فإنهم بقبولهم أفكاري أصبحوا شركائي في الجريمة واستحقوا العقاب الذي تشرفني به الحكومة. ولقد أصدرت سنة ١٩١٢ صحيفة باسم (الهلال) بَثَثْتُ فيها جراثيم هذا الذنب في المسلمين، فَعَلِقَتْ بقلوبهم وسَمَّمتْ أفكارهم، فبعد أن كانوا أعداء لإخوانهم الهندوس وعقبة كئودًا في جهادهم الوطني، وآلة صماء بيد الحكومة، يعتقدون أن البلاد إذا استقلت تغلب عليهم الهندوس وأسسوا دولتهم؛ لأنهم أكثر عددًا منهم - أصبحوا بدعوة (الهلال) يرجحون قوة الإيمان والحق على قوة العُدد والعَدَد، وَدَعَتْهُمْ إلى مساهمة الهندوس في الجهاد الوطني، فأصبحوا متحدين معهم وقاموا جميعًا بالحركة الحاضرة. وغني عن البيان أن الحكومة لم تكن لتتحمل الحركة التي أحدثتها (الهلال) فعمدت إلى منعها وإقفال مطبعتها؛ ثم لما أنشأتُ جريدة أخرى باسم (البلاغ) اعتقلتني. وإني أصرح هنا بأن (الهلال) لم تكن إلا دعوة للحرية أو الموت، وإن ما يعمله الآن (مهاتما غاندهي) من بث الروح الدينية في الهندوس، كانت (الهلال) قد فرغت منه سنة ١٩١٤ وإن من المصادفات العجيبة أن المسلمين والهندوس ما قاموا بالحركة الجديدة إلا بعد أن حلت فيهم الروحانية الدينية محل المدنية الغربية المادية. مؤتمر الخلافة بكلكتا: ثم إني منذ خرجت من الاعتقال الطويل ما برحت أنشر هذه المبادئ بين الناس وأدعوهم إليها: ففي مؤتمر الخلافة الذي انعقد في ٢٨ و ٢٩ فبراير بكلكتا نفسها، والذي رَأَسْتُ جلساته، حَمَلْتُ المسلمين على أن يعلنوا القرار الآتي: (إن أصرت الحكومة على غوايتها، ولم تُصْغِ لمطالبنا في مسألة الخلافة، يضطر المسلمون بأوامر دينهم أن يصرموا جميع أواصر الولاء التي تربطهم بها!) . وألقيت في هذا المؤتمر خطبة طويلة بَيَّنْتُ فيها جميع تلك الأمور بيانًا تامًّا، وهي توجد في هاتين الخطبتين ناقصة. التعاون والخدمة العسكرية: ولقد شرحت في هذه الخطبة أن الشريعة توجب على المسلمين في الحالة الحاضرة أن يكفوا عن التعاون مع الحكومة وأن يقاطعوها مقاطعة تامة - وهذا هو (اللاتعاون) الذي أطلق عليه بعد اسم cooperation Nen وتولى (مهاتما غاندهي) قيادته. وفي نفس هذا المؤتمر أعلن: أنه لا يحل للمسلمين أن ينسلكوا في الخدمة العسكرية لهذه الحكومة؛ لأنها تحارب الخلافة والدولة الإسلامية! وإن من أعجب العجب أن تؤاخذ الحكومة أناسًا [٤] وتعاقبهم لإعلانهم هذا الحكم في مدينة كراجي ولا تؤاخذني به، مع أني صرحت مرارًا على صفحات الجرائد وفي خطبي أن أول من قدم هذا الاقتراح وأعلن هذا الحكم الديني، هو أنا بعيني، فقد قرر وصدق عليه في ثلاثة مؤتمرات تحت رياستي: أولاً في كلكتا ثم في بريلي، ثم في لاهور. وقد أعلنته مرارًا في غير هذه المؤتمرات، ودعوت الحكومة إلى معاقبتي فلم تُجِبْنِي، مع أني كنت أحق الناس وأولاهم بالعقاب عليه. وقد طبعت خطبة مؤتمر كلكتا بعد زيادات فيها، ونشرت مع الترجمة الإنجليزية مرارًا، وهي بمثابة جدول مكتوب لجرائمي وذنوبي. (حياتي كلها جناية) : إنني قد طفت البلاد الهندية كلها عدة مرات في خلال السنتين الماضيتين، وحدي ومع (مهاتما غاندهي) ولا توجد بلدة إلا وقد خطبت فيها على مسألة الخلافة وبنجاب (وسوراج) واللا تعاون. وبينت جميع تلك الأمور التي تحتوي عليها هاتان الخطبتان. ولقد انعقدت جمعية الخلافة الكبرى في ديسمبر سنة ١٩٢٠ مع الجمعية الوطنية العامة (بناغبور) وجمعية العلماء في إبريل سنة ١٩٢١ (بيريلي) وجمعية الخلافة لمقاطعة (أورهر) في أكتوبر (بآغره) وجمعية العلماء العامة في نوفمبر (بلاهور) وقد رأست هذه الجمعيات كلها، وخطبت فيها خطبًا طويلة، قلت فيها ما قلت في هاتين الخطبتين، بل أكثر منه وأشد. فإن كانت مطالب هاتين الخطبتين لا تلائم الحكومة، وتراني أستحق العقاب لأجلها تحت قانون ١٢٤، فلم لا تعاقبني على جميع خطبي وهي كلها مثلهما، بل أشد وطأة على الاستبداد منهما؟ بل إني مضطر إلى التصريح بأني ارتكبت هذه الجناية مرارًا يستحيل عَدُّهَا، بل ما عملت في السنتين الماضيتين غير هذه الجناية! اللاتعاون السلمي: إننا قد وضعنا لجهادنا الحق خطة (اللاتعاون السلمي) أجل، إن القوات المادية واقفة أمامنا بجميع أسلحتها القتالة، وموادها العظيمة، تريد أن تسحقنا سحقًا، وتمحق الحرية والحق محقًا، ولكن هذا لا يهولنا؛ لأننا لا نثق بالمادة والأسلحة المادية، إنما اتكالنا على الله الواحد القهار، وثقتنا بالضحايا المتوالية التي نقدمها، والثبات القوي الذي نُظْهِرُه في هذه المعمعة القائمة بين الحق والباطل والحرية والاستبداد. وإني لا أرى مثل (مهاتما غاندهي) أن استعمال السلاح لا يجوز بحال، فإني مسلم وأعتقد أن استعماله مباح في المواقع التي أباحه الإسلام فيها. ولكني مع هذا أسلم بجميع دلائل (مهاتما غاندهي) في المسألة الحاضرة وأعتقد صحتها، وإني لعلى يقين من ربي في أن الهند ستفوز في قضيتها بخطة (اللاتعاون السلمي) ويكون فوزها مثالاً عظيمًا لفوز القوة الروحانية والأخلاقية والحق على الباطل والمادة. الحالة الحاضرة طبيعية: وإني أكرر أخيرًا ما قلته أولاً، وهو أن ما تعمله الحكومة معنا ليس بأمر عجيب ولا غير منتظر فنلومها عليه أو نتبرم منه، فإن القهر والعنف لقمع الحرية والحق دأب الحكومات الجائرة وطبعها منذ الأيام الخالية إلى اليوم، ولا ينبغي لنا أن نُمَنِّي أنفسنا بتغير الطبيعة لأجلنا. وهذا الضعف الطبيعي كما يوجد في الآحاد، يوجد في الجماعات، فكم من الناس من يرد النزر اليسير المغصوب لأنه لا حق له فيه؟ وكيف ننتظر من دولة أن تتخلى عن قارة تسلطت عليها ووجدتها تدر كالبقرة الحلوب؟ والقوة لا تقبل شيئًا لأنه حق وعدل، بل تنتظر قوة مقاومة مثلها، فإذا تصادمت بها خضعت لكل طلب مهما كان فاحشًا، فالحرب التي نشبت الآن بين البلاد والحكومة فلا بد من طولها وامتدادها، ولا تأتي النتيجة إلا بعد شق الأنفس، وإن هذا لواضح جلي لكل بصير، بل عادي مثل سائر أحوالنا العادية، فلا ينبغي أن نعجب معه أو نضجر. وإني أسلم بأننا لم يصبنا ما أصاب الأمم قبلنا في هذه السبيل من العسف والظلم ونقص الأموال والأنفس، ولا أدري أهذا لضعف في مطالبتنا بالحقوق ووهن في سعينا وجهادنا؟ أم لأن ظلم الحكومة لم يبلغ منتهاه بعد؟ المستقبل رهين بكشفه وبيانه. وقد علمنا التاريخ أن هذا التزاحم كما يبتدئ في كل زمن متشابهًا، كذلك ينتهي دائمًا متشابهًا، فالحرية والحق ينتصران ويغلبان، والاستبداد والباطل يخذلان ويسقطان، فإذا كنا صادقين في قضيتنا وصابرين في ابتلائنا ننجح ونفوز بلا ريب، وتضطر هذه الحكومة التي تعاملنا اليوم كالمجرمين، إلى أن ترحب بنا غدًا كالأبطال والفاتحين. الثورة: إني قد اتُّهِمْتُ (بالثورة) مهلاً، ذروني أفهم معنى (الثورة) أهي ذلك السعي الذي لم ينجح بعد؟ إن كان هذا هو الثورة، فنعم إني (لثائر) ومتمثل بين يديكم، عاقبوني بأي عقاب شئتم؛ ولكن اعلموا أن هذا السعي إذا تكلل بالنجاح فإنه يسمى (بحب الوطن) و (جهاد الحرية) فقد كنتم بالأمس تسمون قادة أيرلندة (ثوارًا وعصاة) ولكن أي اسم تختاره اليوم الدولة البريطانية لديوليرا وغريفت؟ أهم ثوار الآن أم أبطال الحرية؟ ولقد قال مرة قائد أيرلندة بارنل: ما زال عملنا هذا يسمى في البداية (ثورة) وفي النهاية (جهادًا وحربًا مقدسة للحرية والوطن!) . ناموس القضاء بالحق: إنني مسلم، وحسب المسلم يقينًا كتابه الذي يؤمن به، فالقرآن يدل على أن ناموس (انتخاب الطبيعة وبقاء الأصلح) ناموس عام، كما يعمل عمله في الأجسام والمادة، فيبقى منها الأصح والأصلح للبقاء كذلك يعمل في العقائد والأعمال، فالأعمال الصالحة تخلُدُ وتثمر، والأعمال السيئة تفنَى وتصير هباء منثورًا وإذا وقع بينهما نزاع غلبت الأولى وحلت محل الثانية: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد: ١٧) . ولذا يسمي القرآن العمل الصالح (بالحق) الذي معناه الثبوت والقيام، ويسمي الشر والسوء (بالباطل) الذي من شأنه أن يزول {إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: ٨١) . فالتدافع الذي نراه قائمًا بين الحزبين سينتهي غدًا بفوز الحق والصدق، وبخسران الباطل والظلم. تلك سنة الله {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: ٦٢) {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: ٤٣) . وأني لا أدري قريب يوم الفصل أم بعيد؟ ولكنني أرى الجو قد اكفهر وتلبد بالغيوم، واجتمعت الآيات على سقوط الأمطار، والويل كل الويل لمن يرى الآيات والنذر ثم لا يأخذ أهبته، ولا يرتق فتقه، ولا يسد ثغره، وإني لأرى الحكومة من أولئك الذين لا تغنيهم الآيات والنذر فإنها لا تزال متمادية في تيهها وخنزوانتها. وقد قلت في هاتين الخطبتين: إن الحرية لا ينبت نبتها ولا تستوي على سوقها إلا إذا سُقِيَتْ بماء الظلم والقهر. فها هي ذي الحكومة قد أخذت تسقيها بظلمها وقهرها! وكذلك قلت فيهما: إخواني لا تحزنوا على من حُبِسَ منكم، بل إن كنتم تطلبون الحق والحرية حقًّا، فهلموا إلى السجون واملأوها! فها نحن أولاء نرى السجون قد ازدحمت وامتلأت حُجُرها حتى لم يبق فيها محل للصوص والقتلة واضطرت الحكومة إلى تشييد سجون جديدة! وكيل الدعوى، البوليس، والقاضي: وفي الختام أريد أن أسوق كلمة إلى هذا النفر من بني جِلْدَتِى الذين يعملون ضدي في هذه القضية فأقول: أصحابي ثِقُوا بأني لا أغضب ولا أحقد عليكم، بل لا أتهمكم بالكذب والزور عليَّ؛ لأن كل ما قلتموه في الشهادة حق وصدق، ولكني أراكم قد عصيتم الله ربكم بمساعدة الحكومة في استبدادها وظلمها ومحاربتها للإسلام والإنسانية. إني أعلم أن صوت الضمير يوبخكم في أعماق سرائركم على ما تعملونه، ولكنكم إنما اضطررتم إليه اضطرارًا؛ لأنكم لا تملكون ما تسدون به عوزكم، وترزقون به أهليكم، وليس فيكم قوة لتحمل البأساء والضراء في سبيل الحق، فلذا لا أحنق عليكم ولا أعذلكم بل أعفو عنكم وأستغفر لكم الله. وأما وكيل الدعوى فهو أيضًا أحد أبناء وطني، ولا علم لي بسريرته وإنما أرى علانيته، وهي تشهد أنه لا حظ له في هذه القضية غير ما يُنْقَدُهُ من النقود، فإنه أجير يعمل لأجرته فلذا لا أسخط ولا أحتمي عليه، بل أدعو لجميع هؤلاء بدعوة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم لقومه: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون) . فاقض ما أنت قاضٍ! وأنت أيها القاضي ماذا عسى أن أقول لك؟ إن أقول إلا ما قاله المؤمنون قبلي في مثل موقفي هذا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا} (طه: ٧٢) فإني لا أحس بأدنى هَمٍّ ولا ألم، مهما تبالغ في العقاب؛ لأن خطابي مع الحكومة لا مع شخص واحد. وما دامت الحكومة فاسدة فلا رجاء في إصلاح أعمالنا. وأني لأختم خطابي بكلمات لفقيد إيطالية وشهيد الحق (غارينيو برونو) الذي كان أُوقِف مثلي أمام المحاكم فقال: (عاقبوني بأكثر ما يمكنكم أن تعاقبوني به فإني أؤكد لكم أن ما يشعر به قلبكم من العطف والحنان عند كتابتكم الجزاء لا يشعر قلبي في مقابله بذرة من الفزع والهلع عند سماعي هذا الجزاء) . الخاتمة: أيها القاضي، لقد طال الحديث وآن أوان الوداع، فليودع كل منا صاحبه، وإن ما يدور الآن بيننا سيسجله التاريخ بين دفاتره ويعتبر به المعتبرون، ولقد تَشَارَكنا في ترتيبه على سواء: أنا من هذا القفص للجناة، وأنت من ذلك الكرسي للقضاة، وإني عالم بأنه لا بد من هذا الكرسي، وكذلك لا بد من هذا القفص، فهلم بنا نفرغ من هذا العمل الذي سيكون عبرة وتذكرة للآتين، فالمؤرخ ينتظرنا، والمستقبل يترقب فراغنا، لنسرع إلى المجيء إليك ولتسرع أنت في القضاء علينا، وإن هذا العمل لا يطول قليلاً حتى يفتح باب لمحكمة أخرى، وتلك المحكمة محكمة قانون الله الحق، الزمان يقضي فيها، ويكون قضاؤه حقًّا وحكمه نافذًا. ا. هـ.