للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مستقبل سورية وسائر البلاد العربية

١- البلاد المحررة
هذا إعلان رسمي من قِبل الحكومتين البريطانية والفرنسوية، نُشر بهذا
العنوان في الجرائد المصرية اليومية في يوم الجمعة ٨ نوفمبر سنة ١٩١٨ -٤ صفر
سنة ١٣٣٧:
إن الغرض الذي ترمي إليه فرنسة وبريطانية العظمى بمواصلتهما في
الشرق تلك الحرب التي أثارها الطمع الألماني - هو تحرير الشعوب التي طالما ظلمها
الترك تحريرًا نهائيًّا، وتأسيس حكومات ومصالح أهلية تُبنى سلطتها على اختيار
الأهالي الوطنيين لها اختيارًا حرًّا، وقيامهم بذلك من تلقاء أنفسهم. وتنفيذًا لهذه
النيات قد وقع الاتفاق على تشجيع العمل لتأسيس حكومات ومصالح أهلية في
سورية والعراق اللتين أتم الحلفاء تحريرهما , وفي البلاد التي يواصلون العمل
لتحريرها، وعلى مساعدة هذه الهيئات والاعتراف بها عند تأسيسها فعلاً،
والحلفاء بعيدون عن أن يرغموا سكان هذه الجهات على قبول نظام معين من
النظامات , وإنما همهم أن يحققوا بعونهم ومساعدتهم النافعة حركة الحكومات
والمصالح التي ينشئها الأهالي لأنفسهم مختارين حركةً منتظمةً , وأن يضمنوا لهم
قضاءً عادلاً واحدًا للجميع , وأن يسهلوا انتشار العلم في البلاد، وتقدمها اقتصاديًّا
وذلك بتحريك همم الأهالي وتشجيعها , وأن يزيلوا الخلاف والتفرق الذي طالما
استخدمته السياسة التركية. ذلك هو ما أخذت الحكومتان المحاربتان على نفسيهما
مسئولية القيام به في البلاد المحررة.
***
٢- البر بالمواثيق
نشر المقطم يوم الاثنين ٢٣ ديسمبر ١٩١٨، و١٩ ربيع الأول ١٣٣٧ ما
نصه:
تلقينا في الأسبوع الماضي العدد ١١ من جريدة المستقبل الغراء الصادر في
باريس يوم ٣٠ سبتمبر الماضي، فقرأنا فيه ما يأتي: (جاء في برقية رسمية من
لندن هذا النبأ الذي طربت له أفئدة أبناء سورية، ولبنان) :
لندن في ٣٥ سبتمبر: إن الجيوش البريطانية التي تؤازرها جنود فرنسية قد
وصلت الآن إلى حدود البقاع الراجع أمر تهيئة سكانها للحكم الذاتي إلى فرنسة طبقًا
للاتفاق الإفرنسي البريطاني المبرم عام ١٩١٦.
فبرًّا بالمواثيق ترى الحكومة البريطانية والحكومة الإفرنسية أيضًا أنه من
اللازم تنظيم الإدارة المؤقتة في هذه البقاع طبقًا لاتفاق عام ١٩١٦, وأن السلطة
العسكرية البريطانية الموجودة هناك تبر بالمواثيق بر الحكومة البريطانية بها
وستوضع قريبًا هنا على بساط البحث مسألة إدخال هذا الاتفاق في طور العمل)
انتهى بحروفه.
***
٣- إعلان اتفاق سنة ١٩١٦ المذكور في باريس
إن جريدة المستقبل التي تصدر في باريس لخدمة فرنسة في مستعمراتها
الأفريقية وسائر البلاد العربية، ويديرها أفراد من مسيحيي لبنان وسورية يعبرون
عن أنفسهم باسم (الجمعية السورية المركزية) قد بينت أمر هذا الاتفاق الذي أشار
إليه فيما نقل عنها المقطم منذ سنة كاملة وصَدَرَ العدد ٩ منها في ٢٧ ربيع الأول سنة
١٣٣٦ -١٠ يناير سنة ١٩١٨ مزينًا بطبعه بالحبر الأحمر والأزرق، مُصدّرًا
بمقالة افتتاحية في مستقبل سورية الذي صرح به في الجمعية السورية ممثلا
الحكومتين البريطانية والفرنسية، ذلك بأن الحكومة الإنكليزية أوفدت (السير
مارك سايكس) المشهور إلى باريس فضمت إليه حكومتها (المسيو جان فو) ممثلاً
لها ليصرحا في الجمعية السورية باتفاقهما، فعقدوا فيها اجتماعًا حضره بعض
أعضاء مجلسي النواب والشيوخ الفرنسيين، ونائب بطرك الكاثوليك في فرنسة،
وأعضاء الجمعية السورية، وهم المسيو شكري غانم رئيسها الأول , والمسيو أنيس
شحادة رئيسها الثاني , والدكتور جورج سمنه كاتم أسرارها العام , والمسيو نجيب
مكرزل أمين صندوقها - واعتذر يوسف أفندي سعد أحد أعضائها عن الحضور
بانحراف صحته - ورأس الجلسة المسيو (فرنكلان يوبون) أحد أعضاء مجلس
النواب، وبعد افتتاحه الجلسة ألقى المسيو شكري غانم خطبةً، ذكر فيها حبهم
لفرنسة وإعجابهم بإنكلترة , والتوازن بين الدولتين، وأنه هو أساس (ما اصطلح
الرأي العام على تسميته باسم جمعية الأمم) (؟) وقال: (إن في هذا التوازن
ضمانًا للشعوب الصغيرة؛ لأنه يكفل استقلالنا بصفة أكيدة، بعد تحريرنا من رق
الأتراك الشنيع، ويجعل لنا مقامًا رفيعًا برعاية فرنسة وعونها، وبمصادقة
إنكلترة) إلخ.
ثم تلاه السير مارك سايكس فحث في خطابه السوريين على الاتحاد ونبذ
الخلاف، والاتفاق على القاعدتين الآتيتين اللتين زعم أن في استطاعة جميع أجناس
سورية وأديانها الاتفاق عليهما (؟) وأن الواجب على السوريين الذين يتمتعون
بالحرية في أوربة وأمريكة ومصر أن يرفعوا أصواتهم بهما؛ لأن الذين في البلاد
مكرهون على الصمت، وهما قوله:
١- يجب بادئ بدء قلب الحكم التركي المشئوم، لأن ما هو - بإجماع
الآراء - فاسد في أرمينية , غير صالح لسورية.
٢- ثم يجب أن تنتظروا من فرنسة أن تأتيكم بالمساعدة التي لا غنى للشعب
المظلوم عنها، وهو في حاجة إليها كي يقدر على السير بنفسه في طريق الحياة،
وينبغي أن تتطلبوا ضمانات من الدول المتمدنة في العالم لئلا تخضعوا مرةً أخرى
لحكم الأتراك الذي صار بكم إلى الفقر وإلى الشقاق.
وتلاه المسيو غو ممثل الحكومة الفرنسية فقال:
أيها السادة
(إنه ليسرني أن أؤكد لكم برخصة من وزير الخارجية الجمهورية - بعد
النصائح الرشيدة التي سمعتموها من فم السير مارك سايكس ممثل الأمة الحليفة -
أن فرنسة وإنكلترة متفقتان تمام الاتفاق على تحرير الشعوب غير التركية من
النير التركي في آسيا الصغرى، مهما كانت أديان هذه الشعوب وأجناسها وتهيئتها
لمستقبل أحسن من ماضيها) .
وقد صممت الدولتان الحليفتان العزم - بعد طرح كل فكرة ترمي إلى السيطرة
الاستعمارية - على هداية الشعوب التي تتكلم العربية وغيرها من اللغات،
والساكنة في الربوع التي تمتد من الجبال الأناطولية إلى بحر الهند، وللسير بها في
طريق الاستقلال بالحكم، وفي سبيل الحضارة، مع احترام العقائد الدينية وحقوق
الوطنيات، وستعمل كل من الدولتين في منطقة نفوذها، وسيكون الدور الذي تمثله
فرنسة وإنكلترة دور دليل لتحسين حالة المستقبل، ودور حكم بين الجماعات
الدينية والجنسية، والأولى مستعدة للقيام بهذا الدور في الشمال، والثانية في
الجنوب.
إننا نرغب في أن يحيط مواطنوكم كلهم علمًا بهذا الاتفاق الولائي المعقود بين
الدولتين الحرتين الكبريين حتى يقدروه حق قدره، ولا سبيل إلى تحقيق مستقبل
مجيد - وقد أهلتهم له عذاباتهم الماضية، وثِقتهم بمصير وطنهم - إلا بالاتفاق
وبنبذ الشقاق الناتج من حكم الأتراك.
وإنني أدعوكم إلى تحية فجر هذا المستقبل لسورية ولغيرها من البلدان التي
تتكلم بالعربية، شاملين في تحياتنا بريطانيا العظمى وفرنسة وسورية) اهـ.
ثم إن مسيو شكري غانم فاه بكلام خلاصته أن السوريين الذين في مصر
كثيرون , وهم أرقى السوريين علمًا وثروةً وأشدهم اختلافًا، فينبغي للسير مارك
سايكس السعي لاتفاقهم على الأمرين اللذين دعا إليهما , أي: بنفوذ حكومته هنا،
ولم يقل مسيو شكري غانم هذا القول إلا لعلمه بأن السواد الأعظم من السوريين هنا
مخالفون له في رأيه ورأي جمعيته، وأنهم لا يرون أنفسهم غير أهل للاستقلال
التام، ولا يطلبون نصب وصي عليهم حتى يؤهلهم له؛ لأنهم يعتقدون أنهم
راشدون لا سفهاء ولا معتوهون.
***
٤- دخول المسألة العربية في طور جديد
بعد ذلك الاتفاق دخلت المسألة في طور جديد بما وضعه الدكتور ولسن رئيس
الولايات المتحدة من الشروط لصلح الأمم، وما فسرها به في تلك الخطب، فصار
أمر الشعب العربي في كل قطر منوطًا به ومفوضًا إليه باتفاق الدول، ولم يبق
للافتيات عليه من سبيل، إلا أن يجني على نفسه، فالدول وأحرار أممها يقولون
له: إن أمره بيده، والمستعمرون الطامعون يقولون له: قد قضي الأمر في شأنه،
فما عليه إلا أن يساعدهم على تمدينه وسبر بلاده.
هذا، وإننا قد بينا من قبل أن الشروط لصحة مثل هذا الاعتراف والإقرار،
أن لا يكون تحت سيطرة عسكرية، ولا ضغط سلطة تنافي الاختيار، وأن يكون
من المقر المعترف على علم بأن أمره بيده، وأن قضيته لم يقض فيها، ولن يقضى
فيها إلا برأيه (راجع ص ٤٨ - ٥٩، و٤٩٩، و٢٤٦ من المجلد ٢٠) .
بعد هذا نقول: من المقرر الذي لا ريب فيه أن مسألة الولايات العربية
العثمانية ستعرض على مؤتمر الصلح، وما يقرره فيها هو الذي ينفذ - وأن الدولة
العثمانية ستطلب أن تكون مستقلةً في إدارتها الداخلية عملاً بالشروط ال ١٢ من
شروط الرئيس ولسن التي قبلت الصلح بها، وقد نقلت التيمس في شهر نوفمبر أن
مجلس النواب العثماني قرر أن تكون الولايات العربية مستقلةً تحكم نفسها كما تشاء
بشروط الارتباط بالسلطان وحده، والظاهر أن المراد بذلك أن تكون تحت سيادته
باعترافها له بالخلافة، لا تحت سيادة الباب العالي ومجلس الأمة - وأن إنكلترة،
وفرنسة ستطلبان تقسيم سورية والعراق على حسب اتفاقهما في سنة ١٩١٦ ,
وكل هذا وذاك ينافي تحرير البلاد واستقلالها، خلافًا لما أذاعته البرقيات والجرائد عن
دول الحلفاء من أول سني الحرب إلى آخرها، ولقواعد ولسن وخطبه المفسرة لها،
المصرحة بوجوب استفتاء كل شعب في أمره والعمل برأيه في حكم بلاده، وهذا
الاستفتاء لم يقع.
فالحق أن أمرهم بيدهم من كل وجه، ولهم أن يطلبوا ما يبغونه - بدافع الفطرة
والعقل - من الاستقلال التام المطلق من كل قيد، وهو ما أجمع عليه زعماؤهم
وعقلاؤهم، وقتل في سبيله شهداؤهم، فإذا فاتتهم هذه الفرصة واختاروا العبودية
على الحرية والاستقلال بخداع دعاة الاستعمار، كانوا في حكم من بخع نفسه بيده
بل كانوا قاتلين لأمتهم بأسرها، وملعونين في تاريخها وتاريخ الأمم كلها.
قلنا: وإن أهل المعرفة يقترحون كلما أمكنهم التصريح بمطالب البلاد
الصريحة المعقولة التي لا يختلف فيها إلا المخدوعون أو المأجورون. والمرجو
من الرئيس ولسن العظيم، ومن أحرار سائر الأمم الذين لا ينخدعون بمكايد
المستعمرين، ولو كانوا من أمتهم - أن ينصروا الحرية الكاملة، فيحرروا الشعب
العربي كغيره تحريرًا تامًّا بجعل أمره بيده , ولله الأمر من قبل، ومن بعد.
((يتبع بمقال تالٍ))