للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء

(الثورة في روسيا)
العلم نور لا ينتشر في بلاد إلا وينجاب عنها من ظلمات الظلم بقدر ما يفيض
عليها منه؛ فإذا تمكن في النفوس وملكها وصار صفة من صفات عدد كثير من أهلها
فبشر أهلها بالسعادة بعد زمن طويل أو قصير؛ لأن العلم مع الجهل وآثاره من الظلم
والاستبداد لا يتجاوران على وفاق وسلام، بل يفتآن يتنازعان ويتصارعان حتى
يصرع أقواهما أضعفهما وينزعه من الأرض.
مقارعة العلم ومنافعه للجهل ومصارعه هي مقارعة طائفة من جند الحق
لطائفة من جيوش الباطل، والحق هو القوي المنصور، والباطل معه هو الضعيف
المخذول، اللهم إذا هما وجدا فتجاولا وتصاولا ولكن قد يحول دون ظهور جند الحق
مانع فيظهر الباطل ويظن الظانون أنه قد غلب الحق على أمره وكيف يسمى غير
الموجود مغلوبًا.
فاض شعاع من العلم بمصالح الأمم، وسنن العدل في الدول على البلاد
الروسية؛ فما زال يزيح من تلك الظلمات المتراكمة في النفوس حتى انزاحت
فأشرقت العقول، واستنارت القلوب؛ فعرفت حق الراعي على الرعية وحقوق
الرعية على الراعي، وتمكن هذا العرفان في نفوس كثير من المتعلمين فكان
وميضه يلوح لأبصار المستبدين من أفق المدارس الكلية فينذرهم بالصواعق المحرقة
فتهلع قلوبهم، ثم لا تلبث أن تعود إلى طمأنينتها اغترارًا برسوخ السلطة المطلقة
القائمة على صخرة تقاليد الدين، وجهالة الأكثرين حتى إذا ما انكشف للعالم كله
ضعف دولة الاستبداد والظلم، وانهزامها من وجه دولة العدل والعلم، في الحرب
الروسية اليابانية، إذ نكلت الثانية بالأولى في جميع الوقائع البحرية والبرية ظهر
أهل العلم من الروسيين، وقاموا بالدعوة إلى الخروج على الحكام المستبدين،
فنفخوا في البلاد روح الثورة؛ فاشتعلت نارها، وكثر أنصارها، ولم يثنهم عن
عزمهم أن وضعت الحرب أوزارها، وفرغت الحكومة للثورة تبلو أخبارها،
وتضرب وجوهها وأدبارها.
بعد كفاح طويل عريض، وأخذ للثائرين أليم شديد، وثبات من طلاب الحرية
أمام أرباب العبودية، وإصرار من طلاب العدل على مقاومة الظلم والجهل،
خضع القيصر العظيم لأولئك الشراذم من شعبه الحقير، وأمر بتحويل شكل
الحكومة الروسية، من إطلاق الاستبداد إلى قيود الشورى القانونية، فقالوا: إنه
خضع اضطرارًا لا اختيارًا، فلا تغتروا بما أمر اغترارًا، بل أصروا أيها الثائرون
والمتعصبون، يكن لكم كل ما تطلبون، فهم لا يزالون يقترحون، فهل يعتبر حالهم
جيرانهم الأقربون؟
***
(تعزيتنا عن والدنا)
لا تزال ترد علينا التعازي من محبينا في المشرق والمغرب كالهند،
وسنغافوره وجاوه وتونس والجزائر وفاس فنشكر لمن كتب ولمن سيكتب إلينا في
ذلك عودًا على بدء، ونخص بالذكر أهل الوفاء في الديار التونسية من العلماء
والأدباء، وأصحاب الصحف الفضلاء. وإننا ننشر بعض ما تفضلوا به ليكون
تعزية للبعيد من الأقربين.
كتب أحد العلماء المدرسين بعد الثناء الذي هو أهله والدعاء:
(العزاء بعد ثلاث، وإن كان تذكارًا بالمصيبة، فإن تركه ثلمة في وجوه الود،
وشبهة في صحته مريبة، اليوم وصلت إليّ مجلة المنار فقرأت الخبر الأليم بوفاة
والدكم البر الرحيم، ذلك الخبر الذي ملأ فؤادي أسفًا مشاركة لكم على ما يجده ابن
بار على فقد والد شفيق.
وفوق مشاركتك أيها الأخ في الحزن كيف لا آسف على فقد صاحب تلك
الشمائل الزكية؟ لولا أن فيما بذرته من كمالك الفطريّ مسلاة ومتعزى عنه فإنك تخلِّد
له ذكرًا أحرى مما كانت تخلد له صفاته الطيبة، وأنتم بحمد الله كما قال الشاعر:
نجوم سماء كلما انقض كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
ثم عظيم أن يلم بك أيها السيد مصابان في زمن متقارب بمربي نفسك الشاعرة
وبأصل فطرتك الطاهرة، فتعزَّ بأن الله جعلك لهما لسان صدق في الآخرين،
وعليك صلوات الله ورحمته بالصابرين) .
وكتب عالم آخر من المدرسين:
حياك الله سيدي الأخ، وعظم أجرك كما عظم رزءك، ومنحك من صلواته
ورحمته وهدايته ما أنت أهله، فلقد أبديت صبرًا جميلاً وثباتًا عظيمًا أمام مصابين
عظيمين تتدكدك لهما الجبال الرواسخ، وفاة والدك الجسماني، قبل أن يجف القلم
من تأبين والدك الروحاني، فرحمهما الله من أبوين صالحين تركا للإسلام فاضلاً
نحريرًا مثل جنابكم الكريم فهما بذاك لم يموتا، وإنما غابا عن هذا الوجود الكدر
وخلفا عملاً كبيرًا، وسراجًا منيرًا نسأل الله تعالى أن يطيل بقاءه، ويديم إشراقه
وارتقاءه ... إلخ.
وكتبت جريدة (الترقي) الغراء التي تصدر في تونس ما يأتي تحت عنوان
(الشام) ننعي لقراء الترقي شيخًا جليلاً، وسيدًا كريمًا نبيلاً من نسل السلالة المطهرة
ألا وهو سيد سادات الديار الشامية، وفرع الدوحة الحسينية المرحوم الشيخ علي
رضا أفندي الحسيني الحسني والد رصيفنا العلامة الفيلسوف الكبير السيد محمد
رشيد رضا صاحب مجلة المنار المنير.
قضى هذا الفاضل عمره المديد في إسداء المبرات، وأعمال الخيرات؛ فكان
كفيل الأرامل، ومربي اليتامى والمحسن للقريب والبعيد، وقد قرأ العلم بطرابلس الشام وارتقى في مراتب الدولة العلية التي كان مخلصًا في خدمتها للحد الذي جعله
ممتازًا على بقية الأشراف بوراثة أعشار بلد القلمون التي كان أنعم بها السلاطين
العظام على أسلافه الأكرمين، وكان رحمه الله كما جاء في المنار (حسن المجاملة
عظيم التساهل في معاشرة المخالفين في الدين مع الغيرة الشديدة على الإسلام
والمناضلة عنه بما يحج المناظر ولا يؤذيه) كعلماء السلف برد الله مضاجعهم.
اتهمه مصادروه (أعداء الدولة) في الأوقات الأخيرة بالجاسوسية، وبأنه
يسعى مع المرحوم فقيد الإسلام الشيخ محمد عبده لتقويض أركان الخلافة العثمانية
(لا سمح الله) فدسوا بفراشه عقارب سعايتهم الممقوتة وأوغروا عليه صدور رجال
الدولة؛ فجعلته تحت مراقبة الجواسيس الحقيقيين بما تحرجت له النفوس الطاهرة
والقلوب الرحيمة؛ فكان يقابل تحرشهم بالصبر واللين، ويدعو الله مع أبنائه بتوفيق
دولة الإسلام، وبتطهير ساحة سراية يلدز من أهل السوء والعدوان هذا، وقد تسابقت
الجرائد الشرقية لتمجيده وتأبينه بأجمل عبارة تليق بمنزلته حيًّا وميتًا، ونحن نضم
لتلك التعازي عبارات تعزيتنا ونسأل الله أن يفسح له في صعيد الجنة، وأن يجمل
عزاء بنيه خصوصًا رصيفنا العلامة المفضال محرر المنار الأغر اهـ.
(المنار)
نخص هذا الرصيف الفاضل بمزيد الشكر والثناء أن أحسن الظن بنا وبالغ في
مجاملتنا. ونذكر هنا أن كثيرًا من كتب التعزية قد شنعت على الحكومة العثمانية
سوء معاملتها لوالدنا وشقيقنا، بل جاء شيء من ذلك أيضًا في بعض البرقيات
(التلغرافات) فلم ننشر شيئًا منها لئلا يتوهم أننا ننتقم بذلك لنفسنا، ونستدرك على
الترقي أن السيد الوالد - رحمه الله تعالى - لم يدخل في أعمال الحكومة الرسمية
على تعارفه بكثير من وزراء الدولة وكبرائها. هذا وقلما عزانا أحد عن والدنا إلا
وأعاد تعزيتنا عن أستاذنا تغمدهما الله تعالى برحمته، ومتعهما بدار كرامته.