للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع ويتبع

(الوجه الخامس والثلاثون) : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أرشد
المستفتين كصاحب الشجة بالسؤال عن حكمه وسنته فقال: (قتلوه قتلهم الله) ،
فدعا عليهم حين أفتَوْا بغير علم وفي هذا تحريم الإفتاء بالتقليد فإنه ليس علمًا باتفاق
الناس فإن ما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فاعله فهو حرام وذلك
أحد أدلة التحريم. فما احتج به المقلدون هو من أكبر الحجج عليهم والله الموفق.
وكذلك سؤال أبي العسيف الذي زنى بامرأة مستأجرة لأهل العلم فإنهم لما
أخبروه بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في البكر الزاني أقره على ذلك
ولم ينكره فلم يكن ثَمَّ سؤالهم عن رأيهم ومذاهبهم.
(الوجه السادس والثلاثون) : قولهم: إن عمر قال في الكلالة: إني لأستحي
من الله أن أخالف أبا بكر، وهذا تقليد منه له فجوابه من خمسة أوجه:
(أحدها) : أنهم اختصروا الحديث وحذفوا منه ما يبطل استدلالهم ونحن
نذكره بتمامه. قال شعبة: عن عاصم الأحول عن الشعبي أن أبا بكر قال في الكلالة:
أقضي فيها برأيي فإن يكن صوابًا فمن الله وإن يكن خطأً فمني ومن الشيطان والله
منه بريء، هو ما دون الولد والوالد، فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:
إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر. فاستحى عمر من مخالفة أبي بكر في
اعترافه بجواز الخطأ عليه وإنه ليس كلامه كله صوابًا مأمونًا عليه الخطأ ويدل
على ذلك أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أقر عند موته أنه لم يقضِ في
الكلالة بشيء وقد اعترف أنه لم يفهمها.
(الوجه الثاني) : أن خلاف عمر لأبي بكر أشهر من أن يذكر كما خالف
في سبي أهل الردة فسباهم أبو بكر وخالفه عمر وبلغه خلافه إلى أن ردهن حرائر
إلى أهلهن إلا من ولدت لسيدها منهن ونقض حكمه ومن جملتهن خولة الحنفية أم
محمد بن علي فأين هذا من فعل المقلدين بمتبوعهم. وخالفه في أرض العنوة
فقسمها أبو بكر ووقفها عمر. وخالفه في المفاضلة في العطاء فرأى أبو بكر التسوية
ورأى عمر المفاضلة. ومن ذلك مخالفته له في الاستخلاف وصرّح بذلك فقال: إن
أستخلف فقد استخلف أبو بكر، وإن لم أستخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم لم يستخلف. قال ابن عمر: فو الله ما هو إلا أن ذكر رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم فعلمت أنه لا يعدل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحدًا وأنه
غير مستخلف. فهكذا يفعل أهل العلم حين تتعارض عندهم سنة رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم وقول غيره لا يعدلون بالسنة شيئًا سواها، لا كما يصرح به
المقلدون صراحًا. وخلافه له في الجد والإخوة معلوم أيضًا.
(الثالث) : أنه لو قدر تقليد عمر لأبي بكر في كل ما قاله لم يكن في ذلك
مستراح لمقلدي مَن هو بعد الصحابة والتابعين ممن لا يداني الصحابة ولا يقارنهم
فإن كان - كما زعمتم - لكم أسوة بعمر فقلِّدوا أبا بكر واترُكوا تقليد غيره والله
ورسوله وجميع عباده يحمدونكم على هذا التقليد ما لا يحمدونكم على تقليد غير أبي
بكر.
(الرابع) : أن المقلدين لأئمتهم لم يستحيوا كما استحيى منه عمر؛ لأنهم
يخالفون أبا بكر وعمر معه ولا يستحيون من ذلك لقول من قلدوه من الأئمة بل قد
صرح بعض غلاتهم في بعض كتبه الأولية أنه لا يجوز تقليد أبي بكر وعمر ويجب
تقليد الشافعي فيا لله العجب الذي أوجب تقليد الشافعي حرم عليكم تقليد أبي بكر
وعمر ونحن نُشهد الله شهادة نسأل عنها يوم نلقاه أنه إذا صح عن الخليفتين
الراشدين اللذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باتباعهما والاقتداء بهما
قول وأطبق أهل الأرض على خلافه لم نلتفت إلى أحد منهم ونحمد الله أن عافانا مما
ابتلى به من حرم تقليدهما وأوجب تقليد متبوعه من الأئمة وبالجملة فلو صح تقليد
عمر لأبي بكر لم يكن في ذلك راحة لمقلدي من لم يأمر الله ولا رسوله بتقليده ولا
جعله عيارًا على كتابه وسنة نبيه ولا هو جعل نفسه كذلك.
(الخامس) : أن غاية هذا أن يكون عمر قد قلد أبا بكر في مسألة واحدة فهل
في هذا دليل على جواز اتخاذ رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع لا يلتفت إلى
قول مَن سواه، بل ولا إلى نصوص الشارع إلا إذا وافقت قوله، فهذا - والله - هو
الذي أجمعت الأمة على أنه محرم في دين الله ولم يظهر في الأمة إلا بعد انقراض
القرون الفاضلة.
(الوجه السابع والثلاثون) : قولهم: إن عمر قال لأبي بكر: رأينا لرأيك
تبع. فالظاهر أن المحتج بهذا سمع الناس يقولون كلمة تكفي العاقل فاقتصر من
الحديث على هذه الكلمة واكتفى بها، والحديث من أعظم الأشياء إبطالاً لقوله
ففي صحيح البخاري عن طارق بن شهاب قال: جاء وفد براخة من أسد وغَطَفان
إلى أبي بكر يسألون الصلح فخيَّرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزية. فقالوا:
هذه المجلية قد عرفناها فما المخزية؟ قال: ننزع منكم الحلقة والكراع ونغنم ما
أصبنا لكم وتردون لنا ما أصبتم منا وتَدُونَ لنا قتلانا، وتكون قتلاكم في النار
وتتركون أقوامًا تتبعون أذناب الإبل حتى يُرِي الله خليفة رسوله والمهاجرين
والأنصار أمرًا يعذرونكم به، فعرض أبو بكر ما قال على القوم. فقام عمر بن
الخطاب فقال: قد رأيت رأيًا سنشير عليك، أما ما ذكرت من الحرب المجلية
والسلم المخزية فنِعم ما ذكرت وما ذكرت من أن نغنم ما أصبنا منكم وتردون ما
أصبتم منا فنعم ما ذكرت وأما ما ذكرت من أن تدون من قتلانا وتكون قتلاكم في
النار؛ فإن قتلانا قاتلت فقُتلت على أمر الله، أجورها على الله، لها ديات، فتتابع
القوم على ما قال عمر فهذا هو الحديث الذي في بعض ألفاظه: قد رأيت رأينا
ورأينا لرأيك تبع، فأي مستراح في هذا لفرقة التقليد؟ !
((يتبع بمقال تالٍ))