ما تجب مراعاته في عقد المؤتمر الثاني: لا يجوز أن تتضمن المؤتمرات الإسلامية العامة التي تُعقد لمعالجة مصالح المسلمين الدينية والمدنية ما ليس موضوعًا لها من تأييد حزب على حزب، ولا شعب إسلامي على حكومته، ولا إقرار استبداد حكومة في شعبها، ولا يجوز أن يسمح لرئيس ولا زعيم أن يكون له هوى شخصي في مؤتمر إسلامي يستعلي به على خصومه في الجاه والعظمة. ولا يجوز أن يكون اختلاف الرأي بين الذين يعقدون المؤتمرات الإسلامية لإحياء هداية الإسلام وإعادة مجده ومصلحة شعوبه - سببًا للتعادي والتخاصم، وقد عرض لمؤتمر القدس الأول شيء من هذه الشوائب. التمهيد لعقد المؤتمر الثاني منوط باللجنة التنفيذية، فالواجب عليها قبل غيرها أن تراعي فيه ما ذكرنا، وإذا رجحت عقده في القدس لعدم المانع فالواجب عليها أن تسعى لعقد الصلح بين الفريقين المتنازعين في فلسطين الذين يلقبون بالمجلسيين والمعارضين، وإلا كان محاولة عقده فيها مثار فتنة قد تكون سببًا لمنع الحكومة الإنكليزية إياه إن لم يكن لديها سبب آخر للمنع. نعم إن جمهور أهل فلسطين وسورية الشمالية ولبنان الذين يعنون بأخبار السياسة المصرية يميلون إلى الوفد المصري ويحبون زعماءه؛ لأنهم يشاركونهم في احتمال الآلام من نفوذ الاستعمار الأجنبي ويعدونهم قدوة لهم في معارضته ومناهضته، وفي مقاومة كل حكومة وطنية تواتيه وترضيه، وليس من شأن المؤتمر أن ينكر عليهم رجاله هذا الميل والشعور؛ لأنه حق طبيعي لهم، ولا أن يجعلوا المؤتمر مظهرًا له فيه؛ لأنه ليس مما يعقد له المؤتمر من المصالح الإسلامية التي يجب استمالة جميع الشعوب الإسلامية وحكوماتها لمساعدتها، واتقاء سخط أحد منهم على شيء منها بقدر الطاقة، وأهمها الشعب المصري المجاهد والحكومة المصرية مهما تكن صفتها في بلدها، وكذا جلالة ملك مصر مهما يكن شكل حكومته وصفتها؛ فإن لعطف جلالته ومساعدته قيمة كبيرة لا يعدلها غيرها. وجملة القول: إنه يجب على اللجنة التنفيذية أن تعنى أشد العناية بجعل التمهيد للمؤتمر الثاني مقنعًا لجميع المسلمين بخلوه من الشوائب التي أشرنا إليها، وتجعل نصب عينيها قاعدة الأستاذ الإمام الحكيمة (ما دخلت السياسة في عمل إلا أفسدته) .
جمعية الرابطة الإسلامية ومؤتمرها وناموسها: بعد كتابة ما تقدم تتمة لما نُشر في الجزء الماضي من المنار وضيق الجزء عنه شاع أن صاحب السمو الأمير عباس حلمي باشا خديو مصر السابق ألَّف في جنيف (سويسرة) جمعية باسم (الرابطة الإسلامية) من موضوعها عقد مؤتمرات إسلامية دورية، ثم علمنا أن سموه جعل السيد ضياء الدين الطباطبائي الإيراني ناموسًا (سكرتيرًا) عامًّا لهذه الرابطة، وكانت اللجنة التنفيذية للمؤتمر الإسلامي العام الأول قد اختارت هذا السيد ناموسًا عامًّا لها، فتردد في القبول وسافر إلى أوربة واعدًا بأن يكتب إلى رئيس المؤتمر بما يستقر رأيه عليه من القبول وعدمه، فلما تبين أنه قبل العمل مع سمو الأمير عباس حلمي صار قبوله العمل في لجنة مؤتمر القدس مشكلاً، فإن كتب إلى رئيسه بالقبول وجب على الرئيس أن يستشير أعضاء اللجنة كلهم أينما كانوا في أمره؛ فإن ما بلغنا من أخبار جمعية الرابطة الإسلامية يقتضي أن يعمل هذا الناموس لإدغام اللجنة التنفيذية لمؤتمر القدس في جمعية الرابطة الإسلامية الأوربية وتفويضه أمر المؤتمر الثاني إليها بحجة اتساع دائرة أعمالها ووفور ثروتها وحرية مركزها العام، وهذا يتوقف على قرار رسمي من اللجنة التنفيذية ولا يملك المؤتمر الأول البت فيه، وهو لما يجمع اللجنة التنفيذية ولا ألَّف مكتبها، ولا ريب أنه يتعذر على السيد الطباطبائي أن يقوم بأعباء وظيفته في القدس ووظيفته في جنيف معًا. إن الأمير عباس حلمي هذا من أعظم أمراء المسلمين حنكة واختبارًا وهمة وإقدامًا، واشتهر أن له مع ذلك آمالاً شخصية في المُلك، وقد خاضت صحف الشرق والغرب في هذه الأثناء في أخبار سعيه لعرش سورية، وهذا مما يجعل عمله هذا موجبًا للظنة، وسنعقد لهذه الرابطة مقالاً خاصًّا بها. * * * نظام المؤتمر الأول وافتتاحه ومكان عقده إن المجلس الإسلامي في القدس قد قام مع اللجنة التحضيرية له بوضع النظام التام لعقد المؤتمر وتنفيذه، وأخلى له مدرسة روضة المعارف الإسلامية التابعة للمجلس فكانت كافية لذلك، ووضع فيها من الورق والأقلام والدفاتر والمحابر والكتبة والخدم - ومنهم سقاة الشاي والقهوة اليمانية الإمامية - ما لا حاجة معه إلى مزيد، وكان من التمهيد لراحة أعضاء المؤتمر والاقتصاد في نفقاتهم اتفاق المجلس الإسلامي مع أصحاب الفنادق التي ينزلون فيها على إسقاط قدر غير قليل من النفقة المعتادة عنهم، والاتفاق مع أصحاب سيارات الركاب على نقلهم من الفنادق إلى المؤتمر ومنه إليها أو إلى حيث شاءوا على حساب المجلس، بل احتمل المجلس جميع نفقة الفنادق عن بعضهم، وكان السيد محمد أمين الحسيني يعنى بكل ما يُرضي الأعضاء بقدر اجتهاده. وفد على مدينة القدس كثير من أهل المدن والقرى الفلسطينية لحضور حفلة المؤتمر، واتفق أن كان يوم الأحد ٢٦ رجب الذي يجتمع فيه الأعضاء في مكان المؤتمر لأجل الاحتفال يومًا شديد المطر، ولولا ذلك لكانت الوفود أضعاف ما رأينا. اجتمع الأعضاء في مدرسة الروضة وقبل المغرب توجهوا إلى المسجد الأقصى بين الجماهير من مسلمي القدس ووفودها، فوجدنا المنتظرين في المسجد يُعدون بالألوف. وعندما حضرت صلاة المغرب قدَّم السيد محمد أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى الأستاذ العلامة كبير مجتهدي الشيعة في أعظم معاهدها العلمية (النجف الأشرف) الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء فصلى إمامًا بالناس، فكان لهذا التقديم تأثير عظيم ووقع حسن من أنفس أعضاء المؤتمر وغيرهم من المسلمين الذين يشعرون بشدة الضرورة إلى التأليف بين أهل السنة والشيعة، والقضاء على هذا التفرق والتعادي الذي طال عليه العهد، وكان فساده وضرره على الإسلام وشعوبه ودوله عظيمًا، ولم تكن له أدنى فائدة صحيحة لأحد من الفريقين. وبعد صلاة المغرب قرأ بعض القراء المُجوِّدين آيات من أول سورة الإسراء وتلاهم الشيخ حسن أبو السعود فقرأ رسالة في شمائل سيد ولد آدم محمد رسول الله وخاتم النبيين وما جاء به من الإصلاح العام للبشر، ألمَّ فيها بمعجزة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى إلمامًا، وكان يتخلل إلقاءه استراحات ينشد فيها بعض القراء حسني الصوت أناشيد محفوظة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتادوا إنشادها في حفلات الموالد، وفي بعضها منكرات نبهت صاحب السماحة المفتي ورئيس المجلس إلى وجوب الاختصار فيها ثم إعادة النظر فيها بعد المؤتمر. وقد دعيتُ بعد أن أتم الأستاذ قراءة رسالته إلى إلقاء كلمة في معنى الإسراء وفضل المسجد الأقصى واختيار هذه الليلة الشريفة لافتتاح المؤتمر الإسلامي العام فأجبت، وألقيت ما أُلهمته على الكرسي المعد لذلك، وامتد ذلك إلى وقت العشاء، أوجزت الكلام في منقبة الإسراء إلى المسجد الأقصى وتواترها، وتقريب وقوعها إلى العقول بما أجمع عليه العلماء والفلاسفة الروحيون حتى غير المليين منهم على جواز تشكل الأرواح في أجساد لطيفة كالأثير في نفوذها من الكثائف وسرعتها كالكهرباء، وإثبات ألوف منهم وقوع هذا التشكل بالفعل، وذكرت من حكمته وتسمية هذا المكان الشريف بالمسجد الأقصى بعد خراب ما بناه سليمان عليه السلام ومحو أثره هو أن الله تعالى شرَّفه بجعله معبدًا للمسلمين إلى آخر الزمان، وجعله في المرتبة الثالثة بعد المسجد الحرام ومسجد المصطفى عليه الصلاة والسلام، وأوجب على المسلمين صيانته وحفظه إلى آخر الزمان، ولهذا اختير افتتاح هذا المؤتمر الإسلامي العام فيه وإقامته بجواره ... إلخ. وبعد صلاة العشاء بإمامة الأستاذ آل كاشف الغطاء افتتح السيد الحسيني المؤتمر بخطبته التي كان أعدها لذلك، وطُبعت وأُرسلت إلى الجرائد في البلاد المختلفة فنشرتها. وألقى بعده الأستاذ آل كاشف الغطاء محاضرة أو درسًا في تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (النور: ٣٥) الآية، ذهب فيه إلى أن المراد بالشجرة المباركة في الآية الكريمة آل بيت رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم، ثم خطب غيره من أعضاء المؤتمر خطبًا تناسب المقام، وقد نشر كل ذلك في الجرائد وسيدون في الكتاب الذي تقرر تأليفه ونشر اللجنة التنفيذية له في الأقطار، فلا حاجة إلى نشر شيء منه في المنار؛ وإنما ننشر خلاصة في صفة المؤتمر وجلساته ونظامه واقتراحه ولجانه، ونخص بالذكر خطتنا فيه وتقرير لجنة الدعوة والإرشاد من لجان المؤتمر، وخطبتنا التي ألقيناها في آخر يوم منه في أمراض المسلمين الداخلية والخارجية وطرق علاجها فنقول: رجال المؤتمر وجلساته ولجانه: كان في المؤتمر نفر من خواص رجال المسلمين في العلم والرأي وكل ما يحتاج إليه في عقد المؤتمرات الملية العامة، يقابلهم رهط من طبقة العوام، وأكثر أعضائه بين هذين، وبلغ المنتظمون في عضويته زهاء ١٥٠ من جميع الأقطار والشعوب الإسلامية العربية والهندية والجاوية والتركية والروسية والأوربية، وأيدته الحكومات العربية اليمانية والحجازية النجدية والعراقية والأردنية وكثير من الأمراء والزعماء والعقلاء من مصر والهند وجزائر أندونسية وغيرها. وكان نظام جلساته حسنًا لم يستطع أعداؤه الطعن فيها، إلا أن أكثر أوقاتها ضاعت بإلقاء الخطب والمناقشات العديدة مع كثرة التكرار في الموضوع الواحد والخطبة الواحدة، حتى إنني كنت شديد الزهد في الكلام فيها إلا لضرورة، وقد أشرت إلى ما انتقدته من الاقتراحات فيه في مقدمة تقرير لجنة الدعوة والإرشاد. وأما لجانه فقد بني تأليفها على أساس فاسد، وهو أنه أبيح لكل عضو أن يدخل في اللجنة التي يختار العمل فيها، فكان العضو الواحد يكتب اسمه في لجنتين أو ثلاث بحسب ما يهوى لا بحسب استعداده للعمل فيها كلها، وأن أجهل الناس من يظن أنه مستعد لكل عمل وبصير بكل علم، وقد دخل زهاء نصف الأعضاء في لجنة تنقيح القانون الأساسي للمؤتمر، فكان أكثر الكلام في جلساتها لغوًا وجدلاً باطلاً كادت تزهق له أرواح واضعي مشروع القانون وأهل العلم بهذه القوانين من الأعضاء، وسأبين ما قاسيناه في لجنة الدعوة والإرشاد. وأما لجانه فكانت ثمانًا ١- للدستور ٢- للدعاية والنشر ٣- للمالية والتنظيم ٤- للثقافة وجامعة المسجد الأقصى ٥- لسكة الحديد الحجازية ٦- للأماكن المقدسة والبراق الشريف ٧- للدعوة والإرشاد ٨- للمقترحات. خطتنا وعملنا في المؤتمر ذكرت في الجزء الماضي أن صاحب السماحة رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في القدس الذي تولى الدعوة إلى المؤتمر بمساعدة اللجنة التحضيرية له قد اقترح علي باسم اللجنة وضع تقرير في الإصلاح الإسلامي ليكون مادة لمباحث أعضاء المؤتمر، فأبدأ هذا الفصل بنشر كتابه في ذلك، وهذا نصه: بسم الله الرحمن الرحيم حضرة صاحب السماحة الأستاذ الأكبر العلامة السيد محمد رشيد رضا المحترم، متَّع الله المسلمين بطول بقاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد، فقد تلقيت بيد التعظيم كتابكم الكريم المؤرخ في ٢٩ جمادى الأولى سنة ١٣٥٠، وشكرت لسماحتكم تفضلكم بتلبية الدعوة إلى هذا المؤتمر الذي نرجو من ورائه الخير للمصلحة الإسلامية العامة، ومما لا ريب فيه أن حضور سيادتكم هذا المؤتمر هو قيمة كبيرة وسبب عظيم لإنجاح المؤتمر وتحقيق غاياته ومقاصده بإذن الله تعالى. وقد قررت اللجنة التحضيرية في جلستها الأخيرة أن ترجو من سماحتكم أن تتفضلوا بوضع تقرير بشأن الإصلاح الإسلامي، ليُطرح هذا التقرير على المؤتمر أثناء انعقاده، ويكون مدارًا لما يقرر في هذا الشأن، وإني باسم اللجنة التحضيرية أنهي إلى سيادتكم هذا الرجاء مشفوعًا برجائي الخاص أن تتفضلوا بشد أزر المؤتمر بوضع التقرير الخطير، وإذا أمكن الفراغ منه وإرساله إلينا قبل ميعاد انعقاد المؤتمر بأسبوعين أو ثلاثة على الأقل؛ فإننا نتخذ أسرع الوسائل لطبعه وإعداده على شكل كراس على حدة. وإنني أنتظر تفضل سماحتكم بالجواب بهذا الشأن، مختتمًا بالدعاء لله بأن يوفقنا إلى ما فيه خير المسلمين دينًا ودنيا، وإني أرجو أن تتفضلوا بإبداء نصائحكم الثمينة وآرائكم القيمة، في شأن المؤتمر والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ١٥ جمادى الثانية سنة ١٣٥٠ ... رئيس المجلس الإسلامي الأعلى ... ... ... ... ... ... ... محمد أمين الحسيني
جاءني هذا الكتاب في أثناء اشتداد الفتنة التي أثيرت في الأزهر والمعاهد الدينية التابعة له لمقاومة المؤتمر وصد العالم الإسلامي عنه، وقد بلغ الإرجاف فيه مدى أبعد مما نُشر في الجرائد وأشرنا إليه في الجزء الماضي، فقد سمعت من لسان الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر أنه بلغه أن السيد الحسيني دعا الشيخ أبا زيد الدمنهوري إلى حضور هذا المؤتمر أي ليبث نزعاته الإلحادية فيه ويدعو إليها، فقلت له: إن هذا لا يُعقل ولئن رأيته في المؤتمر لأقترحن إخراجه منه فإن لم أُجب خرجت محتجًّا، وعلمت أنه قد بلغه وبلغ فضيلة مفتي الديار المصرية أن أحد أعاظم علماء الأزهر المشهورين سيلقي في هذا المؤتمر خطابًا في الطعن في الفقه الإسلامي والدعوة إلى تركه، وقد جزمت بأن هذا البلاغ إفك وزور، وكان عجبي شديدًا أن انتهت الفتنة إلى هذا الحد، وإن بلغ الإرجاف فيها هذا المبلغ، وكنت وَجِلاً من سوء عاقبتها، لهذا كتبت إلى السيد الحسيني أنه يجب عليه أن يبادر إلى إطفاء نارها بنفسه في القاهرة، وبعد ذلك أنظر في أمر اقتراحه، وقد حضر وكان من عاقبة سعيه ما كان، وشرحنا ما فيه العبرة من خبره. بعد هذا شرعت في كتابة التقرير المقترح على كثرة الشواغل، وفي أثناء ذلك بلغني أن جمعية الشبان المسلمين وضعت تقريرًا طويلاً تعرض فيه على المؤتمر ما تراه من الإصلاح الإسلامي، وأن معالي محمد علي باشا علوبة يضع تقريرًا في الإصلاح اللغوي بوضع معجم عربي للعلوم والفنون والاصطلاحات العصرية، فترجح عندي أن كثرة التقارير العامة ستكون من الشواغل لمن يهتم بها من أعضاء المؤتمر، ولا تزيد فائدتها على ما يقرءون في الكتب والصحف، وأن الأجدر بي إذا يسَّر الله تعالى لي حضور هذا المؤتمر - الذي أخشى أن تعوقني عنه شدة العسرة المالية وما يتعلق بها من الحقوق - أن أعرض ما أراه من الإصلاح في جلساته عند الحاجة إليها؛ فإن ذلك أحرى أن ينتفع بها، وكذلك كان، وتركت إتمام كتابة التقرير، ثم علمت أنه عرض على المؤتمر بيانات أو تقارير غير ما ذكرنا مطبوعة، منها تقرير لجنة الدفاع عن سكة الحديد الحجازية وتقرير لجنة البراق الدولية، وتقرير في أعمال دعاة النصرانية وهو مهم جدًّا قرأته بعد العودة إلى مصر، وربما أنشره في المنار. لجنة الدعوة والإرشاد لما أُلِّفت اللجان كتبتُ اسمي في لجنتين فقط (الأولى) لجنة القانون الأساسي لأجل حضور بعض مواده وأهمها عندي المادة الثالثة التي موضوعها تأليف المؤتمر وقد قاومت فيها رأي الزعيم شوكت علي في جعل المؤتمر شعوبيًّا كما اقترح في مؤتمر مكة وتقرر فكان أفعل الأسباب في قتل ذلك المؤتمر، واقترح مثل هذا في مؤتمر القدس ففنَّدنا اقتراحه فلم يقبل (الثانية) لجنة الدعوة والإرشاد، وكان معي في هذه اللجنة الأساتذة: رضا بك توفيق الملقب بالفيلسوف التركي، وقد ولي وزارة المعارف في الدولة العثمانية، والشيخ محمد عبد الرسول كاشف الغطاء من علماء النجف الشرعيين، والشيخ عبد الوهاب النجار ناظر مدرسة عثمان ماهر باشا بمصر والمدرس بقسم التخصص في الأزهر (وكان مدرسًا في دار العلوم وكذا في مدرسة الدعوة والإرشاد) والشيخ محمد عبد اللطيف دراز من علماء الأزهر، والشيخ حسن أبو السعود قاضي الرملة الشرعي، وإسعاف بك النشاشيبي أديب فلسطين، والشيخ محمد سعيد درويش البابي الحلبي، وكان قد جاور في الأزهر، ومحمد علي أفندي الحوماني التاجر من نبطية لبنان ومهاجرتها في أمريكا، وغيرهم ممن لم يحضر إلا جلسات قليلة. وكان كل واحد من هؤلاء الأعضاء عضوًا في لجنة أو لجان أخرى، اجتمعنا لأول مرة في الحجرة التي خصصنا بها من حجرات روضة المعارف، فانتُخبتُ رئيسًا للجنة، وانتخب الأستاذ رضا بك توفيق نائبًا للرئيس، والأستاذ إسعاف بك النشاشيبي أمينًا للسر ومقررًا للجنة، وشرعنا في البحث، وكان كل عضو من هؤلاء الأعضاء يعلم ما سبق لي من الاشتغال في تأسيس جماعة للدعوة والإرشاد ومدرسة لها توليت وضع نظامها ومناهج التعليم في المدرسة، وكنت ناظرًا لها، إلا العضوين الأخيرين - ومن العلوم بالبداهة أنه وقع بيني وبين الأعضاء المؤسسين لجمعية الدعوة والإرشاد في الآستانة ثم في مصر مناقشات كثيرة في كل مادة من نظامها - فلما شرعنا في البحث كان هذان العضوان يعارضان في كل كلمة ويجادلان بغير علم في كل رأي حتى تنقضي الجلسة بدون وضع شيء يتفق عليه فيكتب، وكنا مضطرين للصبر عليهما مراعاة لقاعدة حرية الرأي وقاعدة المساواة بين الأعضاء، إلى أن عيل الصبر. وقد كان أول ما قلته بعد شكر الأعضاء على اختيارهم إياي لرياسة اللجنة وما عللوه به: إن مشروع الدعوة والإرشاد هو أعظم مشروع إسلامي لإصلاح المسلمين في أنفسهم ولتجديد هداية دينهم ومجده، وهو يتوقف على تعليم جديد وتربية جديدة في مدرسة خاصة، وعلى جمعية كالجمعية التي سبق لنا تأسيسها في مصر، وعلى مال كثير وللدعاة والمرشدين الذين يتخرجون في المدرسة، ولا يتم غرسه ونباته وإثماره إلا في سنين كثيرة، وأعضاء المؤتمر يطلبون منه بما يشعرون به من حاجة المسلمين شيئًا عاجلاً مؤقتًا قبل الشروع في العمل الأساسي الدائم من تربية الدعاة والمرشدين وتعليمهم ما يؤهلهم للقيام بهاتين الفريضتين العظيمتين اللتين لا قوام للإسلام بدونهما. والذي أراه في الحاجة المؤقتة أن يسعى المؤتمر: (أولاً) لتأليف ثلاث رسائل في عقائد الإسلام القطعية، وفي آدابه وفضائله وما ينافيهما من الرذائل والمحرمات القطعية، وفي أحكام العبادات التي لا يسع مسلمًا جهلها، وأن يقتصر في هذه الرسائل على المجمع عليه بين المسلمين الذي لا تختلف فيه المذاهب الإسلامية ليكون مقبولاً عند الجميع، ويترك لأهل كل مذهب تعليم أهله ما هو خاص به، إلى آخر ما سيأتي تفصيله. (وثانيًا) لنشر رسائل في نقض أسس الأديان التي يتصدى دعاتها لإضلال المسلمين عن دينهم، ويوجد في هذا رسائل وكتب مطبوعة قد جربت فائدتها، وذكرت لهم منها (عقيدة الصلب والفداء) وكذلك كتاب (نظرة في كتب العهدين القديم والجديد) للدكتور محمد توفيق صدقي رحمه الله تعالى. نازعني العضوان المذكوران في هذا الكلام وتنازعوا مع اللجنة فيه، واقترح أحدهما الشيخ محمد سعيد درويش: تأليف كتاب لإزالة الاختلاف بين فرقتي الوهابية والشيعة التي تكفر كل منهما الأخرى يصرح فيه بإثبات إسلام كل منهما وعدم الفرق بينهما (ثم علمت أنه من أعداء الوهابية؛ وإنما يريد الرد عليهم، ويتحداني للدفاع عنهم) . قلت له: إن التأليف بين فرق المسلمين ومقلدي المذاهب المختلفة منهم من أهم مقاصد المؤتمر، وأنا قد سعيت له سعيه منذ خمس وثلاثين سنة، وما اقترحه هو لا يفيد ذلك؛ فإن المتعصب الذي يكفر مخالفه عن اعتقاد قد يكفر من يخطئه في اعتقاده أيضًا، ومن كان من هؤلاء يتبع هذا المؤتمر في رأيه فقد علم القاصي والداني أن هذا المؤتمر لا يفرق بين أحد من أهل القبلة باختلاف مذاهبهم الاجتهادية المعروفة، ومن أعضائه السنيون من سلفية وخلفية، والشيعة من زيدية وإمامية، والإباضية، ولم يبق من فرق المسلمين الكبرى غير هؤلاء، وكلهم في المؤتمر إخوان يصلي بعضهم مع بعض، فلم يعجبه هذا البيان وأصر على اقتراحه، وكان يشاغب فيما عداه. واقترح محمد علي أفندي الحوماني إرسال المؤتمر بعثة إلى أميركا لتقوية المسلمين الذين هاجروا إليها والدعوة إلى الإسلام، وهذا اقتراح حسن في نفسه؛ ولكن المؤتمر لا يمكنه الآن مثله؛ وإنما هو ثمرة من ثمرات جمعية الدعوة والإرشاد التي ستقدم اللجنة له اقتراحها في شأنها، فأصر على رأيه وكان يشاغب في كل ما عداه. أكثر هذان العضوان المراء والشغب في اللجنة حتى مل سائر الأعضاء وقل اجتماعهم فيها، ثم ملاَّ هما وقَلَّ حضورهما، فاغتنمت فرصة تخلفهما ووضعت ما أراه من الاقتراحات مع مقدمة لها في جلسة واحدة وتناقشنا فيها مع أهل العلم والرأي من سائر الأعضاء فنقحت، ثم دعا السكرتير المقرر جميع الأعضاء لقراءتها قبل تقديمها إلى المؤتمر فامتنع العضوان المذكوران من الحضور فقدمناها إلى المؤتمر، وإنني أنشر نصها ثم أقفي عليه بما كان فيه من شأنها: تقرير لجنة الدعوة والإرشاد للمؤتمر الإسلامي العام {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: ١٠٤-١٠٥) مقدمة: أما بعد، فإن الله تعالى جلت حكمته قد أكمل لعباده الدين بنبي أمي بعثه في الأميين {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (آل عمران: ١٦٤) محمد رسول الله وخاتم النبيين، وجعل دعوته عامة للناس أجمعين، فأتم به نعمته على العالمين، باستكمال دينه العام الباقي إلى يوم الدين، لجميع ما يحتاجون إليه من حقوق الروح والجسد للأفراد والاجتماع، بالهداية الروحية، والمصالح المدنية، الموصلتين لمن أقامهما إلى سعادة الدنيا والآخرة، ولم يبعثه من أتباع الأنبياء الذين كانوا قبله، ولا في الشعوب التي توارثت العلوم والفلسفة، وأقامت معالم الحضارة، وأتقنت فنون الصناعة؛ لتكون أميته - صلى الله عليه وآله - من دلائل إعجاز الكتاب الذي بعثه به؛ ولتكون سنته في بيان هذا الكتاب بالعلم والعمل، والخلق والأدب، والحكمة وجوامع الكلم، من الحجج العلمية الحسية على نبوته ورسالته، فلا يمكن المراء ولا الريبة فيها. ثم لتكون سيرة خلفائه الراشدين فيما فتحوا من الأمصار، وما أقاموا من ميزان العدل والمساواة في الأحكام، وما ضربوه هم وسائر أصحابه لأهل الملل وأجناس الأمم من المثل الصالح في الأخلاق والفضائل وأحاسن الأعمال مؤيدة لتلك الحجج في إظهار حقية دين الإسلام، وتواترها بين الأنام، وأنها من عند الله عز وجل، لا مستمدة من قوانين موضوعة، ولا من معارف مكتسبة أو مقتبسة، ولا من تقاليد موروثة. لقد كان الأساس الأعظم لإصلاح هذا الدين لجميع من يهتدي به من البشر هو التوحيد، المزيل لجميع أنواع الشقاق والتفريق؛ ولذلك كان التوحيد خمسة أنواع: ١- توحيد الألوهية والربوبية، المطهِّر للعقول والقلوب من خرافات الوثنية، وأوهامها المفسدة للفطرة البشرية، الرافع لأهله إلى أعلى المعارف الإلهية. ٢- توحيد العبادات المزكية للأنفس من دنس الفواحش والمنكرات، المربية لها على الاتحاد والاجتماع والنظام. ٣- توحيد التثقيف والآداب النفسية والمنزلية والاجتماعية، المرقي للأمة في الصحة ومكارم الأخلاق وأحاسن العبادات. ٤- توحيد التشريع المدني والمالي والسياسي والاجتماعي الذي هو قوام المصالح الدولية، والمانع من التفرق في الأحكام والأوطان. ٥- توحيد اللغة الذي يتم به التعاون والتعارف والتآلف والتعليم، ويحول دون تفرق الأمة إلى أجناس مختلفة. فبهذه الأنواع من التوحيد والتأليف بين أجناس البشر في جميع مقومات الأمم كانت أخوة الإسلام الدينية، وروابطه الحسية والمعنوية، أقوى وأمتن ما عرفته الإنسانية في الجمع بين شعوبها وقبائلها وتعارفهم وتآلفهم، وإزالة ما أرهقها من التعادي والشقاق بينهم، باختلاف الأديان، واللغات والأنساب والأوطان، وتمهدت بذلك جميع وسائل الكمال البشري، والمدنية الحق الفاضلة التي كانت الحكماء السابقون يتمنونها وينشدونها ولا يهتدون إليها سبيلاً، وما زال الحكماء اللاحقون يبغونها ولن يجدوا إليها في غير ظل الإسلام مَقيلاً. جرى السلف الصالح من خلفاء الإسلام وأمرائه وقواد جيوشه وقضاته على صراط هذا التوحيد العام الكامل وهو الصراط المستقيم، فكان هذا هو السبب دون غيره في دخول الأمم في دين الله أفواجًا، وفي ترك لغاتهم إلى لغته التي جعلها ربهم لغة لدين الإسلام وأهله، إذ جعل كتابه لهم عربيًّا، وحكمه فيهم به عربيًّا، وأوجب عليهم تدبره والتعبد به في الصلاة وغيرها، ولولا أن الذين كانوا يهتدون إلى الإسلام برؤية ما كان عليه الفاتحون من الصحابة رضي الله عنهم وأهل الصدر الأول من العدل والفضائل، قد علموا أن هذا الدين هو القرآن وما بيَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم به من سنته، وأن لغته هي لغة القرآن لا تقوم هدايته ولا تشريعه ولا تتم وحدة أمته وأخوتها إلا بها - لما أقبلوا على تعلم هذه اللغة من تلقاء أنفسهم بباعث العقيدة، ولما انتشرت بينهم بتلك السرعة الغريبة، حتى أن الشعب الفارسي العريق في المجد والحضارة والأدب فضَّل لغة دينه السامية، على لغة جنسه وشعبه الرشيقة الراقية، فانتشرت منذ العصر الأول فيهم بسرعة البرق، من غير دعاة ولا مدارس ولا كتب، ثم كان من رجاله واضعو بعض معاجمها وفنونها، وأئمة الحديث والفقه وسائر العلوم فيها، وصارت هي اللغة الوحيدة للأقطار السورية والمصرية والأفريقية، وتحقق بهذا أن هذه اللغة إنما هي لغة الإسلام لا لغة العرب وحدهم، ولولا ضعف الخلافة العباسية في العلم وتغلب نفوذ الأعاجم فيها ومنازعة سلاطينهم إياها في حكمها، لعمت العربية بلاد الأعاجم الإسلامية كلها على أنهم ما زالوا كلهم يعبدون الله تعالى بها. بذلك التوحيد الذي أوجزنا في بيان أنواعه ساد الإسلام العالم كله دينًا ولغة وحكمًا وتشريعًا وأدبًا وعلمًا وحكمة وحضارة؛ ولكن المسلمين لم يلبثوا أن صدعوا بنيان كل توحيد منها، وتفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وكانوا شيعًا حتى في العقائد والتشريع، ودعوا إلى العصبية النسبية واللغوية، واقتتلوا بنعرة عصبيات المذاهب والمُلك والوطن، فأوشك أن يخرجوا من حظيرة قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون} (الأنبياء: ٩٢) وكاد يحيط بهم سرادق {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: ٣٢) ولا تتسع هذه المقدمة لبيان الأسباب التي دعتهم إلى هذا التفرق بل دعَّتهم إليه دعًّا، وعتلتهم إلى هذه الضلالة عتلاً، مع بيان شواهدها من الكتاب العزيز والتاريخ. غيروا ما بأنفسهم فغير الله ما بهم بمقتضى سننه في خلقه، فسلب منهم جل ما كان آتاهم من ملك وسيادة ونعمة كانوا فيها فاكهين، وأنفذ وعيده فيهم كما أنفذه فيمن قبلهم، وقد بلغ من خذلان الجهل وفساد الأخلاق فيهم أن راجت فيهم شبهة أعدائهم الذين وسوسوا إليهم أن سبب ما طرأ عليهم من الضعف وزوال الملك إنما هو دينهم، وهو هو الذي ساد به سلفهم، وعزَّ به ملكهم، ونشأت بهدايته حضارتهم؛ ولكنهم جهلوا دينهم وتاريخهم. أتى عليهم بضع قرون، وهم في غمرة ساهون، لا يشعرون بذنوبهم فيتوبوا منها، ولا يحسون بخطر أدوائهم فيُعْنُوا بمعالجتها، حتى إذا ما بلغ السيل الزبى بإمعان الأقوياء في الفتك بهم، ومحاولة الإجهاز على دينهم في كل قطر أجهزوا فيه على دنياهم، بعث الله تعالى لهم مجددًا من آل بيت نبيه الأخيار، آتاه الحكمة وفصل الخطاب، ألا وهو الحكيم الرباني، السيد جمال الدين الأفغاني، فصاح بهم صيحة بعد صيحة، في قطر بعد قطر، أيقظت كثيرًا من النائمين، ونبهت المستعد من الخاملين، بدأ إنذاره بالأفغان فالهند فمصر، فالترك والتتار والفرس، فربى بحكمته وهمته رجالاً نفروا للجهاد العلمي والسياسي والمدني خفافًا وثقالاً، وكان ظهيره ووليه في عهده، وخليفته في الإصلاح من بعده، الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمهما الله تعالى فهما المجددان اللذان شَخَّصَا الداء ووصفا الدواء، وشرعا في العلاج، فهب لمعارضتهما الجامدون من المقلدين، والخرافيون من المرشدين والمستبدون من الحاكمين، وكان بينهما وبين قواد تلك الجنود المجندة ما كان من مصارعة ومقارعة، ومصاولة ومنازلة، حتى كان لدعوتهما النصر، ولتعاليمهما الظفر، على سنة التدريج المطردة في الأمم، فكل ما سمعناه في الجلسات العامة لهذا المؤتمر وجلسات ما عقده من اللجان من الشكوى من تفرق المسلمين وجهلهم وضعفهم، ومن الآراء في الدفاع عنهم؛ إنما هو أثر دعوتهما، وسريانها في جسم العالم الإسلامي سريان البرء في السقم. أكثر أعضاء هذا المؤتمر من شعوب المسلمين في جميع الأقطار فيما اقترحوه عليه من الإصلاح وهو في مهد مولده، حتى كأنه دولة نيابية قوية غنية؛ وإنما هي نفثات مصدورين، وكرير مخنوقين، بل يصح أن يقال في بعضها إنها استغاثة غرقى أو حشرجة محتضرين، كالصوت الذي وصل من إخواننا المرهقين بظلم البلشفية في الروسية، ويقرب منهم إخواننا برابرة المغرب ولا سيما الأقصى ومنها ما هو تعبير عن الرجاء في المؤتمرات الملية التي هي أقوى وسائل توحيد قوى الأمة. على أنه قد بقي من مصائب المسلمين ما قصَّر الأعضاء في بيان كنهه، وتمثيل خطره، وهو فشو الإلحاد والإباحة، والإسراف في الشهوات الحيوانية، فهذه الموبقات أشد فتكًا وأسرع انتشارًا من مضار تفرق المذاهب، والجمود على التقاليد والإصرار على الخرافات، بل هي شر مآلاً من تعاليم الدعاة إلى دين غير الإسلام؛ فإن سمومها تنفث في الأرواح من طريق العلوم والفنون التي يتهافت عليها نشء المسلمين في جميع الأقطار، بباعث اعتقادهم واعتقاد أولياء أمورهم أنها طريق الحياة المادية، ووسيلة السعادة في الحضارة العصرية والعيشة الراضية المرضية. فأما كون الحياة المدنية في هذا العصر لا تقوم إلا بالعلوم والفنون فقد صار من المسلمات التي لا مراء فيها، وأما كون العلوم تقتضي الإلحاد والإباحة فهذا باطل، ولهذا كان من أعظم مقاصد هذا المؤتمر إنشاء مدرسة جامعة لها تكون إسلامية، وليس معنى كونها إسلامية أن تقبل طلاب العلم العالي فيها من جميع شعوب المسلمين كما قيل؛ فإن معاهد العلم العالي في كل بلد لا يصد عنها المسلمون، فمدرستهم أحق بذلك وأولى؛ وإنما يعنى به أن يجمع فيها بين العلم النافع ودين الإسلام الصحيح الذي هو دين العلم والحضارة بطبعه، بحيث يكون الإسلام فيها مهذبًا للعلوم المادية بالعقائد الحق وتربية العبادة والفضائل التي تصد عن جعلها وسائل للإسراف في الشهوات، وفتك الأقوياء بالضعفاء، ويكون العلم فيها معززًا للإسلام وأهله بالثروة والقوة التي تصد الأعداء عن الاعتداء على دار الإسلام، وتحول دون تمكنهم من سلب سلطته واستعباد أهله، وحسبنا في هذه الجملة الوجيزة في معنى كون هذه المدرسة الجامعة الإسلامية، ومنه ننتقل إلى موضوع لجنتنا واقتراحاتها فنقول: المقصد: إن ما يقصده المؤتمر من مشروع الدعوة والإرشاد هو الذي يتحقق به معنى كون الجامعة إسلامية، وبه تحصل جميع المقاصد الإصلاحية التي كثرت الاقتراحات فيها، كمقاومة التبشير المراد به تنصير المسلمين ومحاربة الإلحاد والإباحة، ومناهضة التفريق بين المسلمين بعصبية المذاهب والجنس واللغة وهدم البدع والخرافات وغير ذلك. ذلك بأن المراد من الدعوة والإرشاد أن تعرف حقيقة الإسلام الحق وإظهاره بأمثل طرق التعليم في جميع درجاته، وتربية من يقوم بذلك بالتعليم والإرشاد والخطابة والتأليف، وتعميم ذلك بقدر الاستطاعة، وبالدفاع عن الإسلام، وبيان فضله على جميع الأديان، وكونه هو الدين الذي لا يمكن بدونه أن تصلح أمور البشر، ويعالج ما يهددها من مفاسد البلشفية والإباحة وفوضى الأفكار المادية. وأما تنفيذه فلا يتم إلا بتعليم خاص وتربية خاصة، وجمعية خاصة؛ وإنما يمكن أن يقوم المؤتمر الآن بما هو دون الكمال منه والذي نقترحه في ذلك يلخص في المواد الآتية: نص المواد التي اقترحتها لجنة الدعوة والإرشاد (المادة الأولى) : تؤلف جمعية باسم جمعية الدعوة والإرشاد الإسلامية، تكون تابعة للجنة التنفيذية وهي تعين مركزها العام، ويكون لها فروع في الأقطار الإسلامية. (المادة الثانية) : غايتها (أ) نشر الهداية الإسلامية (ب) توثيق عرى الوحدة والإخاء بين المسلمين (ج) مقاومة الإلحاد (د) صد الغارة على الإسلام ودفع الشبهات عنه. (المادة الثالثة) : تتوسل الجمعية إلى ذلك بالوسائل الآتية (أ) بث الدعاة إلى الإسلام (ب) بث المرشدين بين المسلمين ولا سيما أهل البادية منهم (ج) نشر رسائل وكتب تشتمل على أصول الإسلام وفضائله وآدابه وحكمة التشريع فيه (د) إلقاء المحاضرات والخطب ونشر المقالات في الصحف (هـ) إنشاء صحف باللغة العربية وغيرها في الأقطار المختلفة تعنى بالشؤون الإسلامية (و) السعي لإصلاح منهج الخطب المنبرية ودروس الوعظ والإرشاد (ز) السعي لدى حكومات البلاد الإسلامية ومدارسها الأهلية لأجل العناية بالتعليم الديني والتربية الإسلامية. (المادة الرابعة) : الاهتمام بتعليم اللغة العربية في جميع الشعوب الإسلامية. ... المقرر ... ... ... ... ... رئيس اللجنة إسعاف النشاشيبي ... ... ... السيد محمد رشيد رضا
(المنار) كانت هذه الاقتراحات مبسوطة ومطولة، فعند المناقشة فيها قرر المؤتمر تأليف لجنة تلخصها وتضعها في صيغة مواد قانونية، فاجتمعت اللجنة واتفقنا معها على وضعها بالنص الذي تراه هنا وقرره المؤتمر بالإجماع، وسأذكر في الجزء الآتي النص الأصلي لفائدته وما كان من الاعتراض عليه وتفنيد كلام المعترض خدمة للتاريخ. ((يتبع بمقال تالٍ))