للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المسألتان الشرقية والصهيونية
ما تبددت ثروة شريف باشا الكبير في مصر إلا وكان بددها مكونًا لثروات
جديدة لم تكن، ومددًا لثروات أخرى ومزيدًا فيها، ذهبت تلك الثروة الكبيرة ممن
عجزوا عن حفظها بله تنميتها، إلى أيدي القادرين على ذلك. وكذلك تتبدد الدول
فتتألف من الكبيرة منها دول متعددة، وتنمى وتتسع دول أخرى - سنة الله في تغذي
الأحياء بفرائسها - من أفراد الجنة (الميكروبات) والهوام إلى جماعات
البشر؛ أرقى أنواع الحيوان.
ومن عجائب العِبَر في تفاوت همم البشر، أن ترى كاتبًا صغيرًا في خدمة
غني كبير يطمع أن يرث ثروته أو ينشئ لنفسه مثلها، وذلك الغني يائس مِن حفظ
ثروته واستبقائها وإن تعجب من تكون ممالك البلغار واليونان والصرب والجبل
الأسود والألبان مِن أملاك الدولة العثمانية في أوربا، وتغذي الدول الكبرى بأملاكها
في إفريقية وفتح أفواههن لابتلاع أملاكها في آسية.
فأعجب من ذلك كله تصدي جمعية من يهود أوربة لتكوين دولة جديدة في
البلاد المقدسة من هذه المملكة تتألف من مهاجرة فقراء اليهود الممزقين في جميع
أطراف الأرض بمساعدة هذه الجمعية؟ فكيف تسمو همة جمعية أسسها رجل من
اليهود إلى تكوين دولة من أوزاع المهاجرين الفقراء في بلاد تتنازع على شبر
الأرض فيها أقوى الأمم والدول وتسفل همة أصحاب هذه البلاد عن حفظها لأنفسهم،
دع سمو الهمة إلى تأسيس ملك جديد، في قطرٍ قريبٍ أو بعيدٍ، وهكذا تموت
الناس وتحيا، وهكذا تردى وترقى، وأسباب ذلك ظاهرة لا محل هنا لشرحها،
وكلها تدور حول العلم أو الجهل، وعلو الهمة أو وطوؤها، وكبر المقاصد
وصغرها. (والعلم ما يعرّفك مَن أنت ممن معك) .
علم الصهيونيون أن الدول الكبرى لا يسمحن لواحدة منهن بامتلاك مهبط
الوحي ومصدر الدين الموسوي والعيسوي، وأنه إذا زال ملك الترك من بلاد
فلسطين فلا بد أن تكون مستقلة تحت حماية جميع الدول (وهذا رأي بعضهم في
الحجاز أيضًا) فطمعوا في إرضاء الدول بأن تحل أشكال التنازع بين الدول
والمذاهب المسيحية بأن يكون اليهود هم أصحاب الملك في هذه المملكة؛ بل طمعوا
أيضًا في إرضاء جمعية الاتحاد والترقي بذلك؛ بل يقال: إنهم أقنعوها به فهي
تساعدهم على التمهيد له لتقطع الطريق على العرب وتكثر خصومهم في بلادهم،
ولا محل هنا للبحث في إثبات هذا القول أو نفيه، وإنما جئنا بهذه المقدمة كلها
لأجل تذكير الذين أكثروا القول في المسألة الصهيونية من كتّاب العرب بأنهم ما
فتئوا يدورون حولها ولمّا يدخلوا فيها.
يجب على زعماء العرب أهل البلاد أحد أمرين: إمّا عقد اتفاق مع زعماء
الصهيونيين على الجمع بين مصلحة الفريقين في البلاد إن أمكن - وهو ممكن
قريب إذا دخلوا عليه من بابه، وطلبوه بأسبابه - وإما جمع قواهم كلها لمقاومة
الصهيونيين بكل طرق المقاومة، وأولها تأليف الجمعيات والشركات، وآخرها
تأليف العصابات المسلحة التي تقاومهم بالقوة - وهو ما تحدّث به بعضهم على أن
يكون أول ما يعمل، وإنما هو الكيّ - والكيّ آخر العلاج كما يقال.