للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


بحث في خطبة العقيلة المصرية
(باحثة بالبادية)

نشرنا في الجزء الخامس هذه الخطبة، ووعدنا بأن نبين رأينا فيها في هذا
الجزء، وكنا نريد أن نطيل القول فيه، فكثرت علينا المواد العارضة فسامتنا
الاختصار فكان ما لابد منه.
إن الخطيبة تساهم بعبارتها وأفكارها كتاب الطبقة الثانية من الرجال بمصر،
ولكني رأيت عبارة مقالاتها النسائيات في الجريدة أصح من عبارة الخطبة، فيظهر
أنها لم تعن بتحرير الخطبة عنايتها بتحرير المقالات، كما يفعل الذين يكتبون
الخطب قبل إلقائها، ولابد لذلك من سبب ينهض عذرًا.
أودع في الخطبة من الحكم ما هو جدير بأن يحفظ ويضرب به المثل، ولا
تخلو من الملح والأفاكيه التي تستملح في الخطب؛ لما فيها من تجديد النشاط وذود
الملل، ولم أر فيها على طولها شيئًا تمنيت لو لم يكتب- وإن نطق به - إلا كلمة
واحدة في نساء الإفرنج. ورأيت مسائلها المستمدة من الصحف، أكثر من مسائلها
المستمدة من الكتب، فليت نساءنا يكثرن من قراءة الصحف، فإنها دروس تكرر
فتثبت مباحثها في الذهن.
ينتقد بعض الناس من الخطبة كثرة المباحث النظرية والمسائل البديهية،
ككون الزوجين الذكر والأنثى خلقا للموادة لا للمباغضة، وكون العالم لا يعمر
بدونهما، وكونهما سواء في القوة والاستعداد أو متفاوتين، وغير ذلك من المسائل
الفلسفية والاجتماعية، كمسألة تعليم أحد الصنفين كل ما يتعلمه الآخر أو عدم تعليم
البنات، ومسألة خلق النساء للبيوت والعمل فيها والرجال لكسب المعاش، ومسألة
الحجاب، ويرى هؤلاء المنتقدون أن القسم الأول من الخطبة لو كان كالقسم الثاني؛
في الأمور العملية الواقعة من العادات والمعاملات بين الرجال والنساء، لكان خيرًا
وأنفع.
ونقول: إن ما ذكرته الخطيبة من هذه المباحث نافع ولابد منه، وإن كان
بعضه خطأ في نظرنا وبعضه يعلو أفهام كثيرات من حاضرات الخطبة، وإنما نفعه
أنه يحرك أذهانهن وينبه أفكارهن، فتخرج به عقول بعضهن من مضيق ليس فيه
إلا صور الزينة والأثاث والرياش إلى فضاء واسع فيه كل شيء، ومتى فكرت
الواحدة منهن في مسألة من تلك المسائل، يكون لها فيها رأي خاص قد يخالف رأي
الخطيبة وقد يوافقه، وذلك ضرب من ضروب ترقية الفكر التي يطلبها المحبون
لإصلاح الأمة.
نعم ... إن القسم الآخر الذي يبحث فيه عن العادات والأخلاق والآداب التي
هي مناط السعادة بين الصنفين هو أنفع وأولى بالعناية، وقد أجادت الخطيبة وأفادت
بما ألقته على المستمعات لها من النصائح والمباحث، وذكرتهن بما يغفل عنه
أكثرهن من أمر الصلة بينهن وبين الرجال، وما يجب أن تكون عليه، ولكنه قلما
يفيد الرجال فائدة جديدة؛ لأنهم يعرفونه في الغالب لما سبق لكتابهم من الخوض فيه،
وهم ينتظرون أن يستفيدوا من كتابة المرأة في النساء أكثر مما يستفيدون من كتابة
الرجال عنهن، وعسى أن تكثر الفوائد لكل منهما فيما تجود به الخطيبة من الخطب
والمقالات من بعد، فإن أول الغيث قطر، وقليلها لا يقال له قليل.
لقد قربت الخطيبة مسافة التفاوت بين الرجال والنساء في العقل والفهم، كما
قربت مسافة التفاوت بين المرأة المصرية والمرأة الغربية، وما قالته أشبه بكلام
السياسيين الذين يراعون المصلحة فقط منه بكلام الفلاسفة الذين يتحرون الحقيقة
فقط.
أرادت أن ترفع من شأن صنفها في أنفسهن وأنفس الرجال، وأن ترغب
رجال وطنها في الوطنيات وتنفرهن عن الأجنبيات، فجاءت من الخطابيات في هذا
المقام بما يناسبه.
ونرجو أن تعيد الكرة فتبحث في مسألة التفاوت بين الرجال والنساء فيما
يتعلق بالبيوت والخطبة والزواج والحياة الزوجية بحث المؤرخ الحكيم، والاجتماعي
الخبير، وأن تكون مستقلة في ذلك غير مقلدة لمن كتب من الرجال في هذه المسائل،
ولا مستمدة منهم شيئًا، بل من البحث في العادات والاختبار للأحوال لعلها تستطيع أن
ترشدهن إلى ما يرقق حجاب جهلهن، فيجعله كبراقع وجوههن، فيبصرن ما بين
الرجال وبينهن، مما يحول دون ما يجب من الألفة والود بينهم وبينهن، إذا كانت
المشاكلة في الأخلاق والعادات، والمساهمة في الأهواء والرغبات معيارًا
للمساواة بين النساء والرجال، فلا مندوحة لنا عن القول معها بأن السواد الأعظم
من أهل هذه البلاد لا يزال ذكرانهم وإناثهم في مستوى واحد؛ ولذلك يرضى جماهير
الرجال بما يفتحره نساؤهم كل يوم من بدع التبرج والتهتك، فقد مسن الرجال وفنكت
النساء، فصار جمهور الفريقين في المجانة سواء؛ ولذلك نرى الزواج لا يزال
كثيرًا.
وإذا نظرنا في المسألة من وجه آخر؛ نرى أن الرجال مهما فسدت أخلاقهم
أرقى من النساء عقولاً وأفكارًا، وأن المتعلمين والمهذبين منهم أكثر، وأنه يوجد
عدد كثير ينمو عامًا بعد عام قد تغير رأيهم ووجدانهم في الزواج، فهم يطلبون فيه
حياة إنسانية عالية، لا تحصل بمجرد دواعي النسل ومقدماته ولا بالنسل نفسه؛
وهو الغاية الطبيعية الشرعية له، وإنما هي عبارة عن حاسة زائدة على الحواس
الخمس، يدرك بها كل من الزوجين من الأُنس وسكون النفس وشعور الود والرحمة
والإخلاص ما لم يكن يدرك حقيقته قبل الزواج، وإنما يشعر كل أحد باضطراب في
نفسه يصاحبه علم ضروري بأنه لا يزول إلا بالسكون الذي يكون بالزواج بعد
إحكام عقد الزوجية (كما بينا ذلك في مقالات الحياة الزوجية من المجلد الثامن) .
ولكن المرتقين يعرفون من أركان ذلك وشروطه ومن قيمته مالا يعرفه من دونهم.
يعلم هؤلاء المرتقون في مراتب الإنسانية أن تلك الحياة التي تتلمسها فطرتهم
لا تنال إلا إذا اقترنوا بمن هن على مقربة منهم في الفهم والخلق ومعرفة قيمة الحياة
الزوجية، فهل يوجد كثيرات من هذا الطراز في نسائنا؟
إن الشاب من هؤلاء ليبحث السنين الطوال عن فتاة مهذبة الأخلاق، ذكية
الفؤاد، وإن لم تكن ذات جمال بارع ولا رزق واسع، بل منهم من يشترط عدم ذلك،
ثم هو لا يظفر بمطلبه، على أن المعرَّضات (أي للخطبة والزواج) كثيرات في
البيوت وفي الشوارع والأسواق، وقد تعرف الفتاة هي وأهلها الخاطب فيرضون
مقامه وعيشته ودينه وأخلاقه، ثم يصدهم عن قبول خطبته عادة من أسخف العادات،
وإن كانوا يظنون أنهم لا يكادون لا يجدون صهرًا مثله، ومنهم من يرد خطبته لأن
الفتاة لا يعجبها زي ثيابه.
ومن هؤلاء من تزوج بعد التحري الطويل في السنين الطوال، فلم يكن في
زواجه إلا شقيًا. أعرف شابًّا من هؤلاء رغب عن الزواج زمنًا طويلاً، عرّض له
فيه بعض رؤسائه الأغنياء في الحكومة برغبتهم في مصاهرته، فتجاهل ذلك وسعى
في الخروج من دائرة رياستهم؛ لخجله من العمل فيها مع رد رغبتهم، ثم تعاونت
عليه الفطرة والعفة، فلم ير بدًّا من طاعتهما في طلب الزوجة، فكان من رأيه أن
يقترن بفتاة متعلمة تكون دونه جمالاً، ومثله أو دونه مالاً؛ حتى لا يحجبها الإدلال
عليه بجمالها ومالها عن معرفة قيمته، والغبطة بالاقتران به، وماذا كان بعد الظفر
بهذا القران؟ كان أن تلك الدميمة عاملته بالصلف والزهو، وحاولت استعباده
لهواها، وألحت في ذلك إلحاحًا، ولجت في عتو ونفور، حتى عيل صبره، ولم
ينجح فيها وعظه ولا هجره، ولم يلق من أهلها إلا ناصرًا لها عليه، ومغريًا لها بسوء
معاملته، والتهكم بصلاته وديانته، فأنشأ يستشيرني في طلاقها، وأنا أقول له:
اتق الله وأمسك عليك زوجك {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ
خَيْراً كَثِيراً} (النساء: ١٩) ثم طلقها، ولو شاء أن لا يعطيها شيئًا لفعل؛
فإنها رضيت بأن تبرئه من حقها، ولكنه أعطى الحق وزيادة.
لست أحكم على المرأة وأهلها بقول أحد الخصمين، فإنني كنت واقفًا على
جميع وقائع القضية؛ إذ كان الرجل يستشيرني في كل شيء، فآمره بالحلم والصبر
وحسن الخلق مع الثبات على مطالبه الشرعية، كستر الرأس والصدر والساعدين
والعضدين في حضرة غير المحارم من الأقارب الذين اعتادوا زيارتهم؛ امتثالاً
للشرع لا اتباعًا للظنة , ولو شئت لذكرت غير هذه الوقعة من أمثالها.
أليس عجيبًا أن يجهل قدر أمثال هؤلاء الرجال مع حرص زوجاتهم على
تحبيب أنفسهن إليهم، والاستعانة على ذلك بالعزائم والطلسمات والبخور والتناجيس
والتولات؟ وهم يقولون لهن: غير هذا أولى لكن، وأدنى إلى حظوتكن، تبذلن
بعض عنايتكن، في تدبير أمر بيوتكن؛ لتكون العيشة فيها راضية والحياة معكن
هنيئة، واعلمن أن الخرافات التي يعبر عنها بالروحانيات، لا سلطان لها على
نفوس العقلاء، فاستمالتنا بها كاستمالتنا بالإسراف في الزينة مما تمجه أذواقنا،
وتشمئز منه نفوسنا، وأنَّى لهن بفهم هذا الكلام وتصديقه؟ إنهن لا يفهمن منه
إلا أنه احتقار لهن، وميل عنهن إلى غيرهن.
ليس الغرض من هذا إثبات كون الرجال كلهم مظلومين مع النساء، كلا..
إن منهن من لا ترى بعلها إلا محمولاً في السحر من حانات الأزبكية ومواخيرها إلى
بيتها، فيلقى فيه كأنه ميت لا يعي ولا يتحرك، إلا أن يقول هجرًا أو يأتي نكرًا،
وإنما الغرض منه بيان أن المهذبين لا يكادون يجدون مهذبات يعرفن قيمتهم، وإن
خير النساء عفة وأدبًا ليفضلن في الغالب المجان الفاسقين من الرجال؛ لتصيبهم
إياهن بالتطرز والتطرس والتورن [١] على أن حظهن منهم بعد الزواج يكون في
الأكثر دون حظ فواجر الأجنبيات والوطنيات؛ لأنهم في الغالب من الذواقين.
ليس بين الرجال والنساء عندنا الآن خلاف كبير في مسألة توسعهن في العلوم،
ولا في مسألة مزاحمتهن لهم في الأعمال، فما ذكرته الخطيبة في ذلك جاء قبل
أوانه، وإنما أكبر الخلاف في كون جمهور عظيم من المتعلمين يطلبون حياة جديدة
في البيوت فلا يجدونها؛ لذلك قل التزوج في هذا الصنف، وأكثر المتزوجون من
أفراده الأغنياء من استخدام الأوربيات؛ ولذلك يتزوج بعض المتفرنجين بهن حتى
صار في مصر احتلالان أجنبيان - كما قالت الخطيبة - أحدهما في المواقع
العسكرية، وثانيهما وهو أشأمهما في البيوت.
قالت: إن الرجال يخطئون في إناطة فساد النساء بالتعليم، وحقهم أن ينيطوه
بالتربية. وقالت: إنه لا صلة بين التعليم والتربية إلا في تعلم الدين.
قد أحسنت في جعلها أمر التربية أهم من أمر التعليم، ولكنها افتأتت علينا بما
نسبته إلينا؛ فإننا نشكو من فساد التربية أكثر مما نشكو من فساد التعليم وقلته، وليس
الانفصال بين التربية والتعليم بالمقدار الذي ادعته، فإن التعليم الصالح يمد التربية
الصالحة ويغذيها، وهي الأصل في الصلاح، فيمكن أن يكون الأمي صالحًا بحسن
التربية، ولكنه لا يبلغ مرتبة من ربي وتعلم. وأما من تعلم ولم يترب على الأعمال
الصالحة فيكون شرًّا من الجاهل الذي لم يؤخذ بالتربية؛ لأنه يكون أعلم بوجوه الشر
وأجرأ على العمل بها.
إذًا لابد من تربية البنات وتعليمهن؛ ليحسنَّ إدارة بيوتهن، ويكنَّ قرة عين
لأزواجهن في أنفسهن وأولادهن {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ
وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: ٧٤) .