كيف صار مسلمًا حنيفيًّا بعد ما كان مسيحيًَّا كاثوليكيًّا
كان يحمل لقب سيد ومزارع في بلاد التيرول وكان له بمقتضى هذا اللقب أن يقابل جلالة إمبراطور النمسا في أي ساعة من ساعات الليل أو النهار، وكان يحمل نيشان القديس غريغريوس المهدى إليه من قداسة بابا روما، وكان يمتلك في بلاد التيرول [١] قصرًا فخمًا يحتوي على ثمان وثمانين قاعة وكان اسم هذا القصر (فرودشتاين) وكان صدره يتلألأ بالأوسمة التى أنعم عليه بها؛ إما لحسن بلائه في سبيل بلاده بصفته ضابطًا في المدفعية النمسوية، أو للخدمات الجليلة التى أسداها إلى الكنيسة الكاثوليكية؛ إذ كان في مقدمة العاملين على إعلاء شأنها في بلاد النمسا، وقد سافر غير مرة إلى المدينة الخالدة (روما) لتسوية بعض المسائل الحزبية بين الفاتيكان وفريق من الكرادلة الذين في النمسا، فكان ينجح كل مرة في مهمته، ويثوب إلى وطنه، وقد أضاف مجدًا جديدًا إلى اسمه. هكذا كان (يحيى بك) نزيل القاهرة اليوم. أما الآن فإن (يحيى بك) مسلم متزوج من مسلمة وأولاده مسلمون وهو شديد التمسك بالتعاليم الإسلامية والفروض الدينية، يصوم رمضان ويؤدي يوميًّا الصلوات الخمس ولا يذوق المشروبات الروحية، وقد أنسنا بالتعارف به من مدة في المفوضية الألمانية فاجتمعنا به منذ أيام وطلبنا إليه أن يقص علينا كيف اتخذ الإسلام دينًا له بعد ما كان كاثوليكيًّا شديد الإيمان بمذهبه عظيم الإخلاص لدينه. *** حكاية القرآن فقصَّ علينا أنه لما كان في الخامسة عشرة من عمره كان جالسًا يومًا في إحدى قاعات قصره؛ فإذا بالسماء ترعد وتبرق وإذا بها تمطر الأرض مطرًا غزيرًا فعدل عن نزهته ودخل مكتبته وأخذ يقلب كتبها فعثر بينها على نسخة ألمانية للقرآن الكريم منقول عن اللغة العربية فتناولها واستلقى على كرسي كبير وشرع في تصفحها وقراءة بعض آياتها فتبين له بعد فترة قصيرة أن القرآن يحتوي على موضوعات كثيرة متعلق بعضها ببعض ولكنها متفرقة في السور غير متصل بعضها ببعض مع أنه لو تم هذا الاتصال يومئذ لتفهم القارئ معناها ومغزاها على الوجه الأكمل فنهض في الحال ولبس قبعته وحمل مظلته وخرج إلى السوق فاشترى نسختين أخريين من الكتاب الكريم وبضعة عشر دفترًا، وعاد إلى قصره على جناح السرعة، وبدأ يَقُصُّ من القرآن الموضوعات المتعلق بعضها ببعض، ويصل كل موضوع بالآخر فاستغرق عمله هذا شهرين كاملين؛ لأنه لم يكن يعمل فيه إلا في أوقات فراغه، ولكنه ما كاد يفرغ منه حتى طرح القرآن جانبًا خوفًا من أن يؤثر في نفسه تأثيرًا لا يتفق وشدة إيمانه وتعلقه بأهداب دينه. *** مسألة الاعتراف بالإسلام وانقضت على تلك الأيام خمسة أعوام، وانتظم صاحب قصر (فرودشتاين) بجامعة فينا ليواصل علومه العالية فاجتمع فيها بطلبة مسلمين من بلاد البوسنة، وكانوا قد قدموا العاصمة النمسوية ليتلقوا علومهم العالية فتوثقت بينه وبينهم عرى الصداقة والألفة. ولم يكن الدين الإسلامي من الديانات المعترف بها رسميًّا في بلاد النمسا يؤمئذ فشق على أولئك الطلبة أن يظلوا مشتتين ممتهنين لا تجمعهم رابطة دينية اجتماعية قوية تبعث السلطات الحكومية على الاعتراف رسميًّا بالديانة الإسلامية فألفوا جالية إسلامية، وعهدوا برياستها إلى الشيخ حافظ عبد الله كريجوفتش وكان هذا الشيخ إمامًا للجنود البوسنيين المسلمين المعسكرين في فينا، ولكنه خشي أن تثير رياسته للجالية غضب الحكومة النمسوية، فأبلغ الطلبة بعد يومين أنه مستقيل من المنصب الذي أسندوه إليه فحزنوا وأخذوا يبحثون على رجل يحلونه محله، فقال لهم صاحب القصر (فرودشتاين) أي (يحيى بك) إنه مستعد لمساعدتهم وتأييد مطلبهم فأسندوا إليه رياستهم مع أنه مسيحيٌّ كاثوليكيٌّ، وما كاد الخبر يذاع حتى دعاه وزير المعارف إلى مقابلته، وسأله عن مسلكه فأجابه بأنه من العار أن يكون بين أبناء النمسا رعايا مسلمون ولا تعترف النمسا بدينهم رسميًّا، فقال الوزير: (إننا لا نستطيع الاعتراف بالإسلام رسميًّا لمبدأ تعدد الزوجات فقال: إن الإسلام لا يحتم تعدد الزوجات كفرض واجب على كل مسلم متزوج ولكنه يترك له الحرية في اختيار أكثر من زوجة بشروط معينة وما دام القانون النمسوي لا يسمح بالتزوج بأكثر من واحدة فالنمسويون المسلمون سيضطرون إلى احترام هذا القانون حتمًا وخصوصًا أن احترامهم له لن ينقض شيئًا من مبادئ دينهم، فقال له الوزير: إذا كان الأمر كذلك فإني أرجو منك أن تُعِدَّ لَيَ مشروع قانون بالاعتراف بالدين الإسلامي رسميًّا كي أتقدم به إلى البرلمان) فأعد له المشروع وحمله إليه فنقَّحه قليلاً وعرضه على البرلمان فأجازه كما هو، ومنذ ذلك الحين سنة ١٩٠٨ صار الدين الإسلامي من الأديان المعترف بها رسميًّا في الإمبراطورية النمسوية، وعلى أثر إحراز هذا الفوز الباهر تنحى (يحيى بك) عن رياسة الجالية الإسلامية، وعكف على الاهتمام بشئون الكنيسة الكاثوليكية. *** اعتناقه الإسلام وغادر صاحب القصر (فرودشتاين) جامعة فينا بعد ما أتم علومه فيها، وقام برحلة كبيرة في أفريقية الشمالية ثم عاد إلى النمسا ودخل مدرسة الضباط للمدفعية، وتعرف في تلك الأثناء بالدوق برجالس الذي كان يطالب يؤمئذ بعرش البرتغال فدعاه الدوق إلى مرافقته إلى أسبانيا ليعاونه في حركته التي كان يريد التوصل بها لقلب الحكومة القائمة في البرتغال، ولكنه لم يوفق في مساعيه لقلة ماله فودعه يحيى بك وعاد إلى النمسا، ولما بلغها استأنف سفره منها إلى ألبانيا تنزيهًا للخاطر، وهناك بدأ يدرس ديانات العالم، ويقابل بينها ثم استأنف هذا الدرس عند عودته إلى قصره وبعد المراجعة والتمحيص خرج من درسه الواسع باعتقاد راسخ وهو أن الدين الصحيح هو الدين الإسلامي، ولكن نشوب الحرب العظمى أكرهه على الانقطاع عن مواصلة بحثه واستقصائه إذ دعي إلى امتشاق الحسام ومرافقة فرقته إلى ساحة القتال فجرح أربع مرات وأنعم عليه بأكثر من اثني عشر نشانًا ومدالية، ثم أرسل إلى تركيا أستاذًا للمدفعية في بعض فرقها العسكرية فأنعم عليه بالبكوية، وظل في الديار التركية حتى انتهاء الحرب العالمية فعاد إلى بلاده وكلف بالذهاب إلى روسيا لمفاوضة حكومتها الجديدة في شأن الأسرى النمسويين، والظاهر أن الثوار الروس اشتبهوا في أمره، وأرادوا أن يدبروا له مكيدة يتخلصون بها منه، فاتصل به خبر هذه المكيدة بواسطة فتاة تهواه كانت شقيقتها متزوجة أحد أعضاء (التشيكا) البلشفيا ففر إلى ميناء (ريغا) بعد أهوال تشيب لها الرجال، ولما وصل إلى ذلك الميناء اعتنق الإسلام رسميًّا واتخذ اسم يحيى اسمًا له، ثم لم يلبث أن تزوج من سيدة شركسية تقيم معه الآن في مصر وكان يحيى بك أراد أن يقطع كل صلة بالغرب فتجنس بالجنسية الأفغانية. ويقيم يحيى بك الآن في القاهرة كما تقدم، وهو يراسل منها طائفة كبيرة من الصحف النمسوية والهولندية وغيرها، وهو يتكلم على ما عرف الفرنسية والألمانية والتركية والروسية والبولندية، وقد بدأ يُلِم باللغة العربية، وقد اضطر إلى بيع قصره وأملاكه في بلاد (اليرول) على أثر احتلال الإيطاليين لها ولكنه باعها (بالكورون) الورق وما هي إلا عشية وضحاها حتى أصبح هذا النوع من العملة لا قيمة له. وهنا ابتسم يحيى بك وكان قد فرغ من سرد حكايته، وقال لنا: (لقد خسرت كل شيء إلا حرية فكري) اهـ من مجلة كل شيء، بتصحيح لبعض الألفاظ.