في هذا الصيف كثر خوض الجرائد الأوربية والعربية المصرية والسورية في المسألة العربية، وذكرت أنه وقع بين الوهابيين التابعين لابن سعود أمير نجد والحجازيين، حرب سببها الخلاف في المذهب، انتصر فيها الأولون انتصارًا فاصلاً في (تربة) فنكّلوا بجيش الأمير عبد الله نجل ملك الحجاز , وأخذوا جميع ما كان معه من المدافع والسلاح والذخائر، ثم أذيع أنهم احتلوا مكة المكرمة , وإن ملكها لما شعر بقرب وصولهم إليها أخلاها لهم وسافر إلى جدة , فأقام فيها واستجار بحليفته بريطانية العظمى، وكثر حديث الناس في هذا المعنى، وكان مما ذكرته هذه الجرائد أن الوهابية مصلحون في الإسلام، وتربة هذه (بضم ففتح) قرية في الشرق الجنوبي من مكة والطائف , وفي الغرب من وادي تربة الشهير الذي قال فيه صاحب معجم البلدان: إنه وادٍ بالقرب من مكة على مسافة يومين منها. أما أخذ النجديين مكة المكرمة فهو كذب، صرح بتكذيبه كل من الوكالة العربية الهاشمية بمصر , ودار الحماية الانكليزية، وأما وقوع القتال وانكسار جيش الأمير عبد الله في (تربة) وأخذ جميع أسلحته، فقد ثبت رسميًّا كما فصل في برقية وردت من عدن. وأما ما علمناه في المسألة من ثقات الضباط الذين كانوا في الحجاز وغيرهم، فهو أن النزاع والقتال كان بين حكومة مكة وبين الشريف خالد صاحب (الخرمة) وهي قرية في الشرق الشمالي من مكة قريبة من وادي تربة، والشريف خالد هذا من شرفاء مكة وعشيرة الإمارة فيها، وكان قد استنجد لمساعدة الشريف علي على فتح المدينة المنورة فلبى، وهو الذي أسر أشرف بك أشقى الفدائيين الاتحاديين إذ كان مرسلاً بمبلغ كبير من الجنيهات المجيدية إلى الأمير ابن الرشيد , ثم وقع الخلاف والنفور بين الشريف علي قائد الجيش العربي المحاصر للمدينة المنورة، وبين الشريف خالد، فعاد الثاني إلى الخرمة، وصار ملك الحجاز يرسل الحملة بعد الحملة لقتاله فيظفر بها، وينضم إليه الكثير من بدوها ويدخلون في جماعة الإخوان المتدينة الذين نذكر خبرهم قريبًا، ولما سلّم الترك المدينة المنورة إلى جيش الأمير علي بعد عقد الهدنة بين الدولة العثمانية والحلفاء، ألَّف الشريف عبد الله حملة من الجيش النظامي الذي كان محاصرًا لها فيها عشرات من الضباط زيدت مرتباتهم، وجهزت بأنواع الأسلحة الجديدة من المدافع الجبلية والرشاشة وغيرها وبالديناميت. قال بعض الضباط الذين كانوا في الحجاز: إن هذه أعظم حملة يمكن لحكومة الحجاز أن تكافح بها الشريف خالدًا، فإذا كسرها تيسر له الاستيلاء على مكة المكرمة إذا شاء، ثم بلغنا ما تقدم من أن جيش ابن سعود هو الذي كسر الحملة، ثم نقل إلينا أن الحملة المنظمة استظهرت على الشريف خالد، فأمرها ملك الحجاز بالزحف على نجد، فعند ذلك أرسل الأمير ابن سعود بجيوشه لقتالها فظفرت بها، ثم زحفت تقصد مكة حتى قيل: إنها وصلت إلى وادي الليمون وأن ملك الحجاز استنجد بالحكومة الانكليزية على ابن سعود، فسألت الأمير ابن سعود عما يريده من الحجاز، فأجاب بأنه هو أحق بحكم الحجاز من شرفاء مكة، وأن أكثر أهله يفضلونه عليهم لعلمهم بعدله، وشكواهم من ظلم جميع الشرفاء واستبدادهم مع ما كان من سيطرة الترك عليهم، وأنه مع هذا لا يبغي الاستيلاء عليه، وإنما يطلب أن يكون (وادي تربة) هو الحد الفاصل بينه وبين نجد، وأن تعترف به الحكومتان حتى لا تعتدي واحدة منهما على ما وراءه، وأن يكون لحكومة نجد معتمد في مكة ينظر في مصالح رعاياها، ويراجع حكومتها في شأنهم، فإن شريف مكة كثيرًا ما يظلمهم، وفي بعض السنين يصدهم عن أداء فريضة الحج فلا يسمح لهم بها، فرأى الإنكليز أن هذين المطلبين حق، فوعدوا ابن سعود بأن يتوسطوا بينه وبين ملك الحجاز فيهما بشرط أن يمتنع هو وجميع أتباعه من المتدينة من التعدي على الحجاز. وبلغنا أيضًا أنهم خاطبوا ملك الحجاز في ذلك، فأبى أن يعترف لنجد لها بحدود، أو يقبل منها معتمدًا، والظاهر أن الإنكليز يظاهرونه لإعلانه موافقته لسياستهم في بلاد العرب. المتدينة والوهابية يعلم الملايين من البشر - بعضهم بالمشاهدة والاختبار، وبعضهم بالروايات الثابتة بالتواتر - أن الأعراب (البدو) في الحجاز وغير الحجاز قد عادوا إلى شر مما كانوا عليه في الجاهلية من الغزو والسلب والنهب والقتل حتى للحجاج المحرمين في أرض الحرم والأشهر الحرم، وأنهم يستحلُّون ذلك ويسمونه كسبًا، وأن لهم شرائع وأحكامًا عرفيةً مخالفةً للشرع لا يرضون الحكم بدونها، وأن أكثرهم لا يصلون ولا يصومون، ومن يحج منهم لا يلتزم أحكام الشرع في الحج ولا يعرفها، ولا يمنعه الإحرام بالحج عن القتل والسلب والنهب إن قدر عليه، ولا شك في أن من كان كذلك، فهو ليس بمسلم ولا ذي دين، هذا ما هو مشهور عنهم ويظن كثير من الناس أنهم كلهم على ذلك، وهذا خطأ عظيم، فإنه يصدق عليهم في هذا العصر ما بينه الله - عز وجل - من حال أسلافهم في عصر التنزيل، وهو أن منهم الكافر والمنافق والمؤمن الصادق، ولكن كفر الكافرين منهم كله - أو جله - عن جهل بضروريات الدين التي لا يعذر أحد بجهلها، ولعله لا يوجد فيهم شيء من كفر العناد والجحود. وأما الذين عادوا إلى الدين من أعراب الحجاز وما حوله، فالفضل في هدايتهم لشيوخ السنوسية ودعاة علماء نجد. أما السنوسيون فقد كان لهم في نشر طريقتهم شرة (أي: نشاط وقوة) تلتها فترة، وأما النجديون فقد بلغنا أن شرتهم ونشاطهم بلغا أشدهما في هذه السنين الأخيرة، ويسمون من يستجيب لهم: المتدينة، ويقابلهم من لا دين لهم يهتدون به، وهم الذين لا يعرفون عقيدة الإسلام ولا شرائعه، ويستبيحون الغزو والسلب والنهب لمجرد الكسب، وبلغنا أن الدعاة يبينون في دعوتهم هذه الحقيقة لكشف غرور من يظن من أولئك الأعراب أن تسمية أنفسهم مسلمين يغني عنهم شيئًا، فيذكرون لهم أن الإسلام علم وعمل، فمن لا علم له بحقيقة عقيدته - وأساسها التوحيد الخالص وتنزيه الله تعالى ووصفه بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم - ولا بأحكام أركانه وشرائعه، وأن من لا يذعن لأحكامه بعد العلم بها، فليس منه في شيء، وأن من مات من آبائهم وأجدادهم غير عالم بذلك ولا مذعن له بالعمل من مستبيحي القتل والسلب، فقد مات كافرًا. حال المتدينة واشتراكيتهم الاختيارية وبلغنا أن من استجاب لدعوة هؤلاء الدعاة من الأعراب يتوب عن الكسب بالغزو والنهب، ويتحولون عن البداوة، فيبنون البيوت ويغرسون الشجر ويزرعون، ويأخذون بتعلم القراءة والكتابة حتى قبل التحضر، فتراهم يحملون ألواح الكتابة على ظهور الإبل يتعلمون بها، ولا يبعد أن تجد فيهم من يقول، كما قال أحد أعراب شنقيط: قد اتخذنا ظهور العيس مدرسةً ... بها نبين دين الله تبيانا
وإن التعاطف والتعاون بينهم يشبه ما كان في صدر الإسلام بين المهاجرين والأنصار - رضي الله تعالى عنهم - فقد روينا عن أحد المختبرين من أهل مكة المكرمة أن الرجل منهم إذا كان عنده ألف شاة وكان يكفيه لنفسه وعياله نصفها أو ربعها مثلاً، فإنه يبذل الباقي كله لمصلحة الإخوان. ولا يمكن حملهم على قتل أحد إلا بحجة دينية، فإذا قنعوا بأن القتال واجب شرعًا وشرعوا فيه، فإنهم يندفعون بشجاعة واستبسال، وينفق كل في سبيله كل ما تصل إليه يده من المال، على حين نرى غيرهم لا يقاتل إلا مأجورًا، فإذا وجد من يزيد في أجره على من يقاتل معه ليقاتله، فعل. وبلغنا أن دعوتهم تغلغلت في جميع قبائل نجد والحجاز وعسير , وأطراف هذه البلاد وما جاورها، حتى إن قبيلتي غامد وزهران الحضريتين طلبتا مرشدين من علمائهم. ما ينتقد على المتدينة هذا مجمل ما بلغنا من خبرهم من المختبرين المعجبين بنهضتهم، الذين يرجون تجديد الإسلام في الجزيرة بهذه الحركة، ولا نجد بدًّا من ذكر انتقاد بعض رواة خبرهم غلوهم في كثير المسائل، وتشديدهم فيها إلى أنهم يحرمون بعض المباحات، ويجزُون على بعض الذنوب بأشد العقوبات، وآفة ذلك جهل بعض الدعاة بالأحكام الشرعية تفصيلاً، وهو جهل لا يرجى تلافيه إلا بالتوسع في العلم الشرعي، فإن الذي يأخذ الدين بقوة يرجع إلى ما يعلم من أحكامه وهدايته. وخصوم هؤلاء المتدينة ينبزونهم بلقب الوهابية الذي وضعته السياسة لأهل نجد وسمته مذهبًا، وقد حدثني ثقة عن عالم من أهل الحديث رآه في مكة، وكان في نجد أن علماء نجد ينتقدون على المتدينة غلوهم في الدين والجهل بكثير من أحكامه التي لا غنى لمسلم يقيم دينه عنها، وسبب ذلك أنه لا يوجد في نجد من الدعاة والمعلمين الراسخين في علم السنة ومذهب الإمام أحمد من يكفي لتعليم هذه القبائل الكثيرة التي تركت تقاليد الجاهلية، وانتظمت في سلك المتدينة، وإننا رأينا أكثر الذين ينصفون الوهابية في الأمصار الإسلامية يقولون: لا شك في أنهم مجددون للإسلام في بلاد العرب، ولكنهم غلاة متشددون، ولشدة تمسكهم بظواهر النصوص وأخذها بقوة بدوية، لا يشعرون بأنهم غلاة متشددون. *** حقيقة الوهابية ومذهبهم ترى في كتب التاريخ الحديث أن لفظ (الوهابية) يطلق على أتباع الشيخ محمد ابن عبد الوهاب العالم السني الشهير - الآتي ذكره - المجدد للنهضة الدينية في نجد، وقد اتخذ أمير نجد تلك النهضة في إبان ظهورها وسيلةً للاستيلاء على بلاد الحجاز التي طال عليها عهد الظلم والجهل، ولم يظهر فيها مصلح علمي ولا إداري. فانبرت حكومة الآستانة لمناهضته وإخراجه من الحجاز الذي هو مناط عظمتها وسلطتها الإسلامية، واستعانت على ذلك بحكومة محمد علي باشا الفتاة؛ إذ كانت عاجزةً عن تولي ذلك بنفسها. وأرادت أن تشوه تلك الحركة الإصلاحية فأذاعت أنها عبارة عن إحداث مذهب جديد مبتدع في الإسلام مخالف لمذاهب أهل السنة، وأغرت أنصارها من العلماء الرسميين والمفتين بالرد على هذا المذهب وتضليل أهله أو تكفيرهم. وهم ينكرون كل مذهب في الأصول غير مذهب السلف الصالح، ويتبعون في الفروع مذهب الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه، ولكن الدولة العثمانية والحكومة المصرية كانتا أقدر منهم على إقناع أكثر أهل بلادهما بأنهم يتبعون مذهبًا جديدًا، وأن محمد علي باشا كان مجاهدًا ناصرًا للإسلام بقتالهم، وإن كان أصدق مؤرخي عصره، وهو الشيخ عبد الرحمن الجبرتي يثبت ضد ذلك في سيرته، وفي وصف جيشه وجيشهم، فأما كلامه في سيرته فكثير، وأما ما رواه عن المقارنة والمقاتلة بين الجيشين، فحسبك منه ما ذكره في أول حوادث سنة ١٢٢٧ عند ذكر الذين انهزموا من عسكر محمد علي، ورجعوا إلى مصر، وهو: رواية الجبرتي في الوهابية وعسكر محمد علي (ولقد قال لي بعض أكابرهم من الذين يدَّعون الصلاح والتورع: أين لنا بالنصر وأكثر عساكرنا على غير الملة، وفيهم من لا يتدين بدين ولا ينتحل مذهبًا؟ وصَحِبتنا صناديق المسكرات، ولا يُسمع في عرضينا أذان ولا تقام به فريضة، ولا يخطر في بالهم ولا خاطرهم شعائر الدين، والقوم (يعني الوهابية) إذا دخل الوقت أذن المؤذنون، وينتظمون صفوفًا خلف إمام واحد بخشوع وخضوع، وإذا حان وقت الصلاة والحرب قائمة أذن المؤذن وصلوا صلاة الخوف، فتتقدم طائفة للحرب، وتتأخر الأخرى للصلاة، وعسكرنا يتعجبون من ذلك؛ لأنهم لم يسمعوا به فضلاً عن رؤيته، وينادون في معسكرهم: هلموا إلى حرب المشركين المحلقين الذقون، المستبيحين الزنا واللواط، الشاربين الخمور، التاركين للصلاة، الآكلين الربا، القاتلين الأنفس، المستحلين المحرمات، وكشفوا عن كثير من قتلى العسكر فوجدوهم غير مختونين) اهـ. نظرة في أقوال الناس في الوهابية لا يزال كثير من مسلمي الحجاز ومصر وسورية والآستانة والأناضول والرومللي يظنون أن لأهل نجد مذهبًا مخالفًا لمذاهب أهل السنة؛ لأن بعض الذين كتبوا عنهم قالوا: إنهم يكفرون غيرهم من المسلمين، ويقولون في النبي عليه أفضل الصلاة والسلام ما يعد إهانةً، وإنهم عند الاستيلاء على المدينة المنورة أخذوا الكوكب الدري من الحجرة النبوية مع غيره من الجواهر والذخائر، وإنهم ربطوا الخيل في المسجد الشريف، وهم لا يحققون هذه التهم، ولا ما يصح أن يعد منها كفرًا وما لا يعد، وهي تهم خصوم سياسيين، والسياسة تستحل الكذب والبهتان والتحريف وكل منكر يوصلها إلى غايتها، ثم إنهم يغفلون عما في قوانين حكومتهم من المخالفة لأصول الدين وفروعه القطعية المجمع عليها، المعلومة من الدين بالضرورة التي يكفر جاحدها باتفاق مذاهبهم، كإباحة الزنا والربا والقتل لأسباب عسكرية وسياسية مخالفة للشرع، وعن قول علمائهم: إن الرضا بالكفر كفر، وعما يسمعون من الأقوال ويرون من الأفعال التي يعدها فقهاؤهم كفرًا أو فسقًا يكفر مستحله، ولا يقولون: لعل ما يقال عن أهل نجد - إن صح - يكون من جهل بعض أفرادهم لا من مذهبهم، كما أن ما في بلادنا من أحكام القوانين وأعمال الكثير من الفساق والمرتدين هو من جهل بعض الناس بالدين أو ترك الاهتداء، وليس عملاً بمذهب أبي حنيفة الذي هو مذهب الحكومة وأكثر الولايات التركية، ولا بمذهبي مالك والشافعي اللذين ينتمي إليهما أكثر أهل هذه الولايات العربية. أهل نجد الذين يسمون وهابيةً كلهم حنابلة، يتلقون من كتب السنة المشهورة، وكتب مذهب الإمام أحمد رابع الأئمة الأربعة المشهورين، وأوسعهم علما بالسنة، كما يعلم ذلك أهل الحديث في كل بلاد الإسلام، وهو أستاذ أشهر مدوني كتب السنة كالبخاري ومسلم صاحبي الصحيحين اللذين هما أصح كتب الإسلام بعد كتاب الله تعالى، وحكومة نجد لا تحكم إلا بفقه الإمام أحمد، فلا يوجد فيها قوانين غيره، ولا أحد هنالك يعمل أو يحكم بقول للشيخ محمد بن عبد الوهاب قاله باجتهاده، ولا يوجد أحد في تلك البلاد يجاهر بمعصية من المعاصي الكبائر. فهم باستمساكهم بمذهب الإمام أحمد يشبهون أهل أفغانستان في شدة استمساكهم بمذهب الحنفية والتعصب له وشدة الإنكار على مخالفه، ولكنهم يفضلون سائر المنتمين إلى المذاهب الأخرى بتقديم نصوص الكتاب والسنة على أقوال علماء مذهبهم عملاً بقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: ٥٩) ويعذرون من يأخذ بأقوال أي إمام من المجتهدين، ولكنهم ينكرون على من يأخذ بقول أي مؤلف منسوب إلى مذهبه فيما يخالف فيه السنة الصحيحة الصريحة، وذلك كثير، وأما الأفغانيون فيعاقبون من يخالف مذهبهم، ولو إلى قول مجتهد أرجح، أو عملاً بحديث صحيح. فمن المنقول عنهم أن يعاقبون من يقول: (آمين) بعد الفاتحة حتى إن بعضهم سمع رجلاً يصلي بجانبه في الصف قال: (آمين) مع تأمين الإمام، فضربه بمجموع يده على صدره ضربةً وقع بها على قفاه!! وينقل عنهم أنهم إذا رأوا مصليًا رفع سبابته عند التشهد، فإنهم يعاقبونه بقطعها، وقد سألت عن هذا بعض طلبة العلم منهم في مسجد لاهور الأثري الكبير بالهند فقالوا: إنه صحيح، وأرادوا أن يحتجوا عليه، فقصرت الكلام معهم متلطفًا في الإنكار عليهم. وأخبار تعصب أهل المذهب بعضهم على بعض مشهورة مسطورة في كتب التاريخ، وكل ما كان ينكره على الحنابلة أهلُ الكلام في العقائد وأهلُ الرأي في الفقه، هو الاعتصام بظواهر نصوص الكتاب والسنة وترجيح ما كان عليه السلف الصالح على ما جاء به أذكياء أهل النظر من بعدهم، لذلك كانوا هم أحق بلقب أهل السنة من الذين ينتحلونه لأنفسهم دونهم. وأميرهم لهذا العهد من العقلاء المعتدلين، لا من الغلاة المشددين، فقد بلغنا أن الإنكليز اجتهدوا في أول العهد بالحرب الأخيرة في استمالته لقتال الترك، فاعتذر عن ذلك بأنهم مسلمون، وأن ما كان من حرب أهل بلاده لهم من قبل، فإنما هو دفاع لا اعتداء، وكبار علمائهم أولى بالاعتدال وإنصاف المخالف، فلم يبق إلا أن خصومهم يجعلون شذوذ بعض الغلاة منهم قاعدةً متبعةً ومذهبًا لهم كافةً. وإنني أذكر لهم شاهدًا على مبالغتهم في سوء الظن بدين أهل البلاد التي فشت فيها الأقوال الشركية، كدعاء غير الله تعالى، ولا سيما في وقت الشدة، وعلى كونهم مع هذا يتبعون الدليل إذا ظهر لهم ويقنعون به. زارني في مكة شاب نجدي يظهر أنه من طلاب العلم، فقال: إنني أريد أن أسألك عن شيء أشكل علي من عملك، وإنما أسألك عنه لأنك من علماء الحديث وأنصار السنة ومقاومي البدع، قلت: سل، قال: إنني رأيتك تصلي مقتديًا بأئمة الحرم، وقد فشا فيهم دعاء غير الله تعالى فيما لا يطلب من غيره، والاستعانة بسواه فيما هو خارج عن الأسباب التي يتعاون الناس فيها، وغير ذلك من الشرك الجلي.....، قلت: إنني لم أصلِّ مقتديًا بأحد سمعت منه مثل ذلك أو علمته عنه، وإنه لا يوجد عمل أدل على إسلام المرء وإيمانه من الصلاة، فأنا أصلي مع كل من رأيته يصلي إذا لم يكن عندي علم بأنه على عقيدة باطلة، وإذا كان الله تعالى يقول: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} (النساء: ٩٤) والسلام أضعف الأمارات على الإيمان، فهل يصح أن أقول بكفر المصلي والصلاة أقوى أمارات الإيمان؟ فرأيته قنع بهذا الدليل ورضي به، ولكنني رأيت من المتعذر إقناع أولئك الطلاب الأفغانيين في لاهور بخطأ قومهم فيما ذكرت آنفًا، ومثلهم من يقلد شيوخ السوء المفرقين في تكفير من يسمونهم الوهابية. لا يوجد عالم سني ولا شيعي ولا خارجي يدَّعي العصمة لأهل مذهبه، فكل فرد من أفراد كل فرقة عرضة للخطأ، وإن بلغ من سعة العلم ما بلغ، وكان الإمام مالك يقول: كل أحد يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر، ويشير إلى قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، وخير المخطئين من يكون خطأه عن اجتهاد وحسن نية، سواء كان في تنقيح المناط أو في تحقيقه، وآيته أنه إذا ظهر له الدليل على خطأه رجع عنه إلى الصواب، وشر المخطئين من يتبع في خطأه من ليس معصومًا ويصر عليه وإن ظهر له الدليل من الكتاب والسنة على خلافه فما أضاع الدين وروج بضاعة الجاهلين والدجالين إلا هذا التقليد الأعمى من الشيع والفرق لكل من ينسب إلى مذهب من يسمونه إمامهم من غير علم ولا بصيرة، حتى إنهم يقلدونهم فيما يخالف نصوص الأئمة الذين يدعون اتباع مذاهبهم، والشواهد على ذلك كثيرة في المنتسبين إلى كل مذهب من المذاهب، ولكنهم يتخذون أسماء الأئمة دروعًا يدفعون بها حجج كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، المثبتة إعراضهم عنهما واتباعهم سنن من كان قبلهم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع مصداقًا للحديث المشهور، وإنما أرادوا أن يسلبوا أهل نجد مثل هذا الدفاع عن أنفسهم فسلبوهم اسم الحنابلة وسموهم الوهابية، وإلا فليأتوا بمسألة واحدة مما عليه جمهور أهل نجد لا أصل لها في الكتاب والسنة ولا في كتب مذهب الإمام أحمد بن حنبل، كما يأتيهم هؤلاء بكثير من المسائل المخلة بعقيدة الإسلام وأحكامه التعبدية والقضائية الفاشية في بلادهم مما ليس له أصل في الكتاب والسنة ولا كلام الأئمة. تلك حقيقة من يسمون الوهابية، والمتدينة ونسبتهم إلى غيرهم من المنتمين إلى المذاهب المشهورة لخصناها مما قرأناه في كتبهم، ومما وقفنا عليه بالروية والاختبار، ومن كتب التاريخ التي خلطت الحق بالباطل، وجمعت بين ما كتبه المسلمون والإفرنج على اختلاف الروايات والأهواء، كدأب الناس في كل ما تدخل فيه السياسة وتتنازع فيه الأحزاب والشيع، وإننا ننقل ما كتبه مؤرخ من أهل العلم الذين صدّقوا - كما كنا نصدّق - ما أذاعته السياسة من تأسيس الشيخ محمد عبد الوهاب لمذهب جديد، وما ذاك إلا رجوعه إلى مذهب السلف الذي رجع إليه أكبر حذاق الطرق من أهل الكلام في أواخر أعمارهم، كالأشعري والغزالي والرازي , وأضرابهم على تفاوت بينهم في معرفة السنة وآثار السلف والتدرج في الرجوع، وهو: مذهب الوهابية وعقائدهم كتب المرحوم الشيخ عبد الباسط الفاخوري الذي كان مفتي بيروت في عهد السلطان عبد الحميد في ترجمة السلطان محمود الثاني العثماني من كتابه (تحفة الأنام، مختصر تاريخ الإسلام) الذي ألف وطبع في بيروت سنة ١٣٢٥ ما نصه: (ثم في غضون ذلك ظهرت الطائفة الوهابية في بلاد نجد، واستولوا على مكة المكرمة والمدينة المنورة وباقي بلاد الحجاز، حتى قاربوا بلاد الشام من جهة دمشق) . (وهم قوم كثيرون من عرب نجد اتبعوا طريقة الشيخ عبد الوهاب، وهو رجل ولد في (الدرعية) بأرض العرب من بلاد الحجاز، طلب أولاً العلم على مذهب أبي حنيفة في بلاده، ثم سافر إلى أصفهان وأخذ عن علمائها حتى اتسعت معلوماته في فروع الشريعة وتفسير القرآن الكريم، ثم عاد إلى بلاده سنة (١١٧٠) ثم أدته ألمعيته إلى الاجتهاد [١] , فأنشأ مذهبًا مستقلاًّ، وقرره لتلامذته وشاع أمره في (نجد) و (الأحساء) و (القطيف) و (عمان) و (بني عتبة) من أرض (اليمن) ولم يزل أمرهم شائعًا ومذهبهم متزايدًا وجماعتهم تكثر إلى أن صدرت الإرادة السنية إلى محمد علي باشا عزيز مصر بقتال وردع هذه الطائفة؛ خوفًا من انتشار شرهم في البلاد الإسلامية، فأطفأ سراجهم [١] وبدد شملهم وأخفى ذكرهم، وقد توفي زعيمهم سعود سنة (١٢٢٩) فساد الأمن في طريق الحج، وأتى الناس أفواجًا لتأدية فريضة الحج، وبهذه السنة حج محمد علي باشا بعد أن لم يكن أحد يتمكن من أداء هذه الفريضة، وهاك رسالة من كلامهم تدل على مذهبهم ومعتقداتهم: (اعلموا رحمكم الله أن الحنيفية ملة إبراهيم أن تعبد الله مخلصًا له الدين، وبذلك أمر الله جميع الناس، وخلقهم له كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: ٥٦) فإذا عرفت أن الله تعالى خلق العباد للعبادة، فاعلم أن العبادة لا تسمى عبادةً إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاةً إلا مع الطهارة، فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت، كالحدث إذا دخل في الطهارة، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} (التوبة: ١٧) فمن دعا غير الله طالبًا منه ما لا يقدر عليه إلا الله من جلب خير أو دفع ضر، فقد أشرك في العبادة، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (الأحقاف: ٥-٦) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوَهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: ١٣-١٤) فأخبر تبارك وتعالى أن دعاء غير الله شرك، فمن قال: يا رسول الله، أو: يا ابن عباس، أو: يا عبد القادر، زاعمًا أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ووسيلته إليه [٢] , فهو المشرك الذي يهدر دمه، وماله إلا أن يتوب من ذلك، وكذلك الذين يحلفون بغير الله، أو الذين يتوكلون على غير الله , أو يرجُوا غير الله، أو يخاف وقوع الشر من غير الله، أو يلتجئ إلى غير الله، أو يستعين بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهو أيضًا مشرك، وما ذكرنا من أنواع الشرك هو الذي قاتل رسول الله المشركين عليه، وأمرهم بإخلاص العبادة كلها لله تعالى، ويصح ذلك - أي التشنيع عليهم - بمعرفة أربع قواعد ذكرها الله في كتابه: (أولها) : أن تعلم أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله يقرون أن الله هو الخالق، الرزاق، المحيي، المميت، المدبر لجميع الأمور، والدليل على ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} (يونس: ٣١) ، وقوله تعالى: ( {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون: ٨٤-٨٩) . إذا عرفت هذه القاعدة وأشكل عليك الأمر، فاعلم أنهم بهذا أقروا، ثم توجهوا إلى غير الله يدعونه من دون الله، فأشركوا. القاعدة الثانية: إنهم يقولون: ما نرجوهم إلا لطلب الشفاعة عند الله، نريد من الله لا منهم، ولكن بشفاعتهم، وهو شرك، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: ١٨) وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: ٣) إذا عرفت هذه القاعدة فاعرف: القاعدة الثالثة: وهي أن منهم من طلب الشفاعة من الأصنام، ومنهم من تبرأ من الأصنام وتعلق بالصالحين مثل عيسى وأمه والملائكة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (الإسراء: ٥٧) ورسول الله لم يفرق بين من عبد الأصنام، ومن عبد الصالحين في كفر الكل، وقاتلهم حتى يكون الدين كله لله) وإذا عرفت هذه القاعدة فاعرف: القاعدة الرابعة: وهي أنهم يخلصون لله في الشدائد وينسون ما يشركون، والدليل عليه قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت: ٦٥) وأهل زماننا يخلصون الدعاء في الشدائد لغير الله!! فإذا عرفت هذا فاعرف أن المشركين في زمان النبي أخف شركًا من عقلاء مشركي زماننا؛ لأن أولئك يخلصون لله في الشدائد، وهؤلاء يدعون مشايخهم في الشدائد، والرخاء، والله أعلم) اهـ. (وهذه الرسالة والقواعد التي أسسها ذلك الشيخ لا شبهة فيها؛ لأن هذا هو الدين الذي جاء به النبي والأنبياء من قبله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، لكن هذا الشيخ لم يتحقق ولم يحقق هذه المسألة، واتبعه قومه من بعده فأفرطوا وفرطوا وقصروا، حتى تولد منهم بسبب هذه القواعد تنقيص وتحقير ما عظمه الله وأمرنا بتعظيمه ومحبته وتوقيره، وقاسوا المسلمين المخلصين في التوحيد بالمشركين، حتى قاتلوا المسلمين في أفضل البقاع، واستحلوا دماءهم وأموالهم، كما وأن أكثر العوام من جهلة الإسلام قد تغالوا وأفرطوا وابتدعوا بدعًا تخالف المشروع من الدين القويم، فصاروا يعتمدون على الأولياء الأحياء منهم والأموات، معتقدين أن لهم التصرف وبأيديهم النفع والضر، ويخاطبونهم بخطاب الربوبية، وهذا غلو في الدين القويم، وخروج عن الصراط المستقيم، وقد ورد في الحديث المرفوع (دين الله تعالى بين المغالي والمقصر) اهـ. (المنار) هذا ما كتبه مفتي بيروت - رحمه الله - ولا يخلو كلامه الأخير من تعارض، لعل سببه محاولة الجمع بين اعترافه بصحة عقيدتهم التي رواها مجملةً، وبين ما ينقله عنهم خصومهم. على أنه كان مضطرًّا فيما كتبه إلى اتقاء وشاية المفسدين والسعاية به إلى السلطان عبد الحميد الذي كانوا يخوفونه من استعداد الوهابية للخروج عليه، وهؤلاء يقولون في ذلك: إذا كان المؤلف قد اعترف بأن هذه القواعد هي دين الله الذي أرسل بها رسله كلهم، فكيف يكون مؤسسها واضعًا لمذهب جديد , وهل الجديد إلا مخالفتها؟ وإذا كان قد اعترف أن أكثر العوام من جهلة الإسلام خالفوا الدين القويم بالاعتماد على الأولياء الأحياء والأموات إلخ ومن المعلوم أن غير الأكثر الجاهلين أقروهم على ذلك، فكيف يكون من بيَّن لهم الحق الذي ضلوا عنه وقاتلهم عليه مخطئًا؟ وأين قياس الموحدين المخلصين بالمشركين؟ وإذا صح قوله: إن هذه القواعد قد تولد منها تنقيص ما عظمه الله، وهي حق باعترافه، أفلا يكون ذلك من قبيل قوله تعالى في كتابه: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} (البقرة: ٢٦) وما المراد بذلك التنقيص؟ إن المؤمن بالله وبكتابه الغالي في اتباعه لا يصدر منه تنقيص لما أُمر بتعظيمه، ولكن خصومنا يطلقون ذلك على إنكارنا غلوهم في تعظيم الصالحين بوصفهم بما لا يوصف به إلا الله خالقهم، ودعائهم واستعانتهم بهم فيما لا يطلب إلا منه تعالى فإن تجاوز بعضنا هذا الحد إلى ما يُعَد تنقيصًا في عرف الشرع دون عرف أهل البدع أو الشرك - كما هو مقرر في القواعد - فإننا ننكر عليه، كما ننكر على كل مخالف، ولا نبرئ كل من انتمى إلينا من الخطأ في فهم قواعدنا أو مخالفتها،وحسبنا أن ما دعونا إليه وقاتلنا في سبيله من جردوا علينا الحملات العسكرية لأجل المُلك هو دين الله على لسان خاتم رسله، ودين سائر أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم، كما اعترف بذلك المفتي رحمه الله. هذا ما يقولونه، وللشيخ محمد عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - رسائل في رد شبهات المخالفين، ربما ننشر بعضها في المنار ليطلع عليها من لا يعرف عنه شيئًا إلا من كلام المعترضين. ((يتبع بمقال تالٍ))