(تمهيد - غرور الماديين بمعلوماتهم - الجوهر الفرد - المكان - الزمان - قوى المادة - ما هو البرهان الصحيح؟ - المعجزات - الفلتات الطبيعية - مذهب داروين - القضاء والقدر - أبسط الأحياء - الفعل المنعكس في السلسلة الحيوانية - عمل المخ هو فعل منعكس متضاعف - الإنسان مضطر في صورة مختار - اختلاف أحوال المادة - الظلم - تبرئة الخالق منه. الإنسان مفتون بنفسه مغرور بعقله، لا يعرف من الأمور إلا ظاهرها فيظن أنه أدرك بواطنها، فيتيه إعجابًا وينأى بجانبه تمردًا واستكبارًا. عرف الماديون شيئًا من أسرار الوجود فوجدوا لذة وراحة عقلية ما كانوا يشعرون بها من قبل، وتوهموا أنهم فهموا هذا الكون وسبروا غوره وأمكنهم التعليل عن منشأِه وأصله بدون الاحتياج إلى شيء ليسلبهم تلك اللذة الفكرية التي حصلوا عليها. قام الدين يناديهم بالإذعان لعلة العلل ومسبب الأسباب، ووصفه لهم بما لم يمكنهم إدراكه ولا يقدرون على تصوره، فكبر عليهم ما دعاهم إليه. وعز عليهم ترك ما هم فيه، فأعرضوا عن الدين وأظهروا العداء له، وقالوا: ما لنا ولهذا الهذيان ونحن (وللطبيعة الحمد) قد وصلنا إلى درجة من العقل لا تتفق مع هذا البهتان الكبير. شرب بعض المقلدين لهم من حياض أفكارهم فثملوا بها، وفاتهم أن الدين الصحيح يذهب بمتبعيه إلى بساتين الحرية والراحة العقلية التي يمرح فيها المؤمن ويعلو على دوح التصورات الفكرية حتى يبلغ الملكوت الأعلى ويصل إلى معرفة واجب الوجود، فينزل إلى المادة وقد عرف علتها الحقيقية التي لا يعروها الوهم، ولا يدنوا منها الخطأ أو الشك. إن كان الماديون ينكرون وجود الله لأنهم لا يمكنهم أن يدركوا كنهه تعالى فأي شيء أدركوا؟ هل أدركوا المادة؟ أم هل أدركوا قوامها؟ أسمع صوتا من بعيد أظنه من بعض الغافلين يقول: نعم قد أدركوا كل شيء أما قرأت علومهم؟ أما سمعت بمكتشفاتهم؟ فأي شيء لم يدركوا؟ ادن مني يا هذا ولا تعجل علي فإني آتيك بالخبر اليقين. ومخبرك بحقيقة علمهم، ففكر معي تفكيرًا وتروَّ في الأمر طويلاً. خذ قطعة من أبسط الأشياء كالحجر مثلاً واسحقها، ثم خذ بين أصبعيك منها أصغر ذرة تقدر عليها، ثم سر في تقسيمها إلى أصغر منها بالعقل. فهل تقف عند حد أو لا تقف؟ إن قلت أنك لا تقف قلت: إذًا هذه الذرة مركبة من ذرات [٢] لا عدد لها وليس لها حصر. فكيف ذلك وهي محصورة بين أصبعيك تقلبها كيف شئت؟ فهل يكون غير المتناهي متناهي وغير المحصور محصورًا؟ أي تناقض أصرح من هذا؟ وإن قلت أنك تقف عند حد سألتك: هل الذرة التي تقف عندها لها امتداد أم ليس لها امتداد؟ فإن كان لها امتداد فلم لم تتصور تقسيمها ولم تقف عندها؟ وإن لم يكن لها امتداد (وهو الصحيح) فهل يمكنك أن تدركها بعقلك أو تتصورها في فكرك؟ كلا، إذًا أنت لا تدرك شيئًا من مادة هذا الوجود الواقع تحت حسك، فكيف بواجب الوجود (الله تعالى) ولمَ تنكر وجوده، وقد قامت عليه الدلائل القاطعة كالتي بيناها في بعض مقالاتنا السابقة في المنار؟ تفكر ثانيًا في تلك الذرات التي لا امتداد لها، فهل يمكنك أن تتصور كيفية اجتماع بعض أجزائها ببعض حتى تتركب منها الأجسام الشاغلة للفراغ؟ إذا وضع ثلاث منها بعضًا بجانب بعض، فهل تثبت للوسطى منها جانبين أم لا؟ فإن أثبت ذلك لها كان ذلك نقضًا لقولك الأول أنها لا امتداد لها وأمكنك قسمتها. وإن لم تثبت لها الجوانب، فهل تتصور كيفية وجودها واتصال بعضها ببعض؟ كلا إنه لا يمكنك ولا يمكنني ذلك؛ إذًا لا يمكننا أن نتصور حقيقة الأجسام ولا الفراغ ولا المكان؛ لأن ما يقال في الأجسام يقال مثله في المكان، وما قيل في الذرات التي لا تنقسم (وهي الجواهر الفردة عند الفلاسفة والمتكلمين) يقال في النقط الهندسية عند الرياضيين. ثم تفكر ثالثًا في وجود هذه الذرات منذ الأزل على اعتقادك؛ مع قولك بحركاتها التي ليس لها أول، وخذ حركة منها لنتكلم عليها. أليس قبل هذه الحركة حركات لا عدد لها لأنها أزلية كما تقول؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف أمكن انقضاؤها جميعًا، وكيف جاز أن تأتي تلك الذرة بحركات لا عدد لها قبل كل حركة؟ أليس ذلك قولاً بأن ما لا يعد أمكن عده؟ وما لا يمكن الإتيان عليه قد أمكن الإتيان به؟ أول ليس هذا تناقضًا بينًا؟ ومثل الحركات الأزلية لحظات الزمان، فإنه يستحيل وجودها منذ الأزل، فهل يمكنك بعد ذلك أن تقول بأنك تفهم الأزل أو تفهم الزمان؟ إلى هنا قد تبين بأجلى برهان أن الماديّ لا يفهم كنه المادة ولا مكانها ولا زمانها. إنه كلما خرج من تناقض سقط في آخر. فهل يفهم شيئًا من خواص المادة وقواها؟ إن للمادة قوى كثيرة عرفنا بعضها كالكهربائية والمغناطيسية والجاذبية العامة بين الأرض والأجسام التي عليها وبين الأجرام الكونية بعضها مع بعض، أليست كل هذه ألفاظًا لا نعرف لها معنى حقيقيًّا؟ وما مثلنا في ذلك إلا كمثل الذي (فسر الماء بعد الجهد بالماء) . خذ مثلاً قوة الجاذبية التي بين الشمس وأحد السيارات كالأرض أو كزحل، فما هو هذا الشيء الذي به الجذب؟ هل هو مادة أو غير مادة؟ فإن كان مادة فكيف يحصل به الجذب وإن كان غير مادة فهل يمكننا تصوره؟ وكيف يحصل الجذب بين الحديد والمغناطيس؟ وما الجواب الشافي عن مثل هذه الأسئلة؟ فإذا كان الماديون لا يفهمون المادة ولا زمانها ولا مكانها ولا قواها؛ فأي شيء يفهمون أو يدركون؟ إنهم لا يعلمون إلا ظاهرًا من الحياة الدنيا، وهم عن الحقائق غافلون. وإذا لم يكن عدم إدراك الشيء عقبة في سبيل التسليم بوجوده، فلماذا ينكرون وجود الله تعالى؟ وأي فرق بين المادي والإلهي في الحرية العقلية؟ الإلهي يعتقد بوجود أشياء لا يدرك عقله كنهها؛ لأنه قام عنده عليها الدليل. وكذلك المادي يعتقد ولا يمكنه أن يدرك كنه ما يعتقد، فهل يكون أحدهما أكثر تمتعًا بالحرية العقلية من الآخر؟ كلا، فبماذا يفتخرون؟ إن عدم إدراك الشيء ليس دليلاً صحيحًا في نظر العقل على عدم وجوده، وإلا لأمكننا أن نقول: إننا لا ندرك شيئًا من كنه هذا العالم المحسوس، فهو غير موجود. وحينئذ نقع في السفسطة. ومن بلغت به درجة المكابرة إلى هذا الحد، فلا يصح خطابه ولا التكلم معه لأنه ليس بعاقل. البرهان الصحيح على وجود الشيء أو عدمه (إن لم يكن محسوسًا) هو ما بني بناء منطقيًّا صحيحًا، تنتهي مقدماته إلى البديهيات العقلية. وأشهر هذه البديهيات وأكثرها ورودًا في الدلائل: أن الضدين لا يجتمعان وقد يرتفعان، والنقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، مثال الضدين: البياض والسواد، ومثال النقيضين: البياض وعدمه، أو النفي والإثبات في كل شيء. فكل ما أدى القول به إلى ما يخالف البديهيات كان باطلاً واستحال وجوده، وكل ما لم يؤد إلى ذلك كان جائزًا وأمكن وجوده، وإن لم يكن للعقل إدراك كنهه ومعرفة كيفية وجوده، ويجب الإيمان به إن قام عليه الدليل وإلا بقي في حيز الإمكان. هذه المسألة هي أصل الأصول ومرجع البشر قاطبة في جميع علومهم الصحيحة، ومن لم يفهمها ولم يمكنه أن يميز بين ما يصادم البداهة وبين ما لا يمكن إدراك كنهه؛ فهو غير أهل لأن يتلقى شيئًا من العلوم العقلية. ولا يمكنه أن يعرف الحق من الباطل ولا أن يفرق بين الخطأ والصواب. وإذا كان عدم أدرك كنه الشيء ليس موجبًا لإنكاره كما قررنا، فمن باب أولى تكون مخالفة الشيء لما اعتدناه لا تقتضي عدم تصديقه. فمن أنكر خوارق العادات (المعجزات) التي يدعيها أهل الملل لأنبيائهم، وجزم بعدم إمكان وقوعها لذلك السبب (أي غرابتها واستبعادها) فهو نحيف العقل جاهل؛ إذ ليس كل غريب مستحيلاً وإلا لما أمكن للبشر إنطاق الجماد (كما في الفونوغراف) ونقل الكلام إلى مسافات بعيدة كما في (التليفون) والسير بسرعة عجيبة كما في الآلات البخارية والكهربائية إلى غير ذلك من الاختراعات الغريبة التي ما كان يحلم بها الأولون، ولو أُخبروا بها لكذبها أكثرهم كما يكذب المعجزات بعض أهل هذا الجيل الحاضر الذين فتنوا بمعلوماتهم التي هي بالنسبة لما خفي عنهم ليست إلا جهالات مركبة. ولو عمل الإنسان بهذا المبدأ السخيف، وهو الجزم باستحالة الشيء لعدم اعتياده له، لما تقدم خطوة إلى الأمام في سبيل الاختراع والاكتشاف. أما إذا كان إنكار المعجزات مبنيًّا على ادعائهم استحالة خرق نواميس الطبيعة، فهي دعوى لا يمكن إثباتها، ويوجد في عالم الحيوان والنبات من الشواذ ما يكذبها، ولا يمكن تعليلها ولا تبين سبب مخالفتها للمعهود، كما في الأجنة التي تولد مختلطة بعضها ببعض أو ناقصة أو زائدة عضوًا أو جزءا منه. فلمَ لم تجر هذه الأشياء على ما اعتدناه؟ على أننا لا نعرف جميع نواميس الكون حتى نجزم بأن كل ما خالف ما علمناه منها يكون خارقًا لها، فلم لا تكون تلك المعجزات تابعة لناموس لا نعلمه إلى الآن؟ ومتى علمناه أمكننا تفسيرها تفسيرًا علميًّا صحيحًا. ألم تر إلى العلماء قبل أن جاء داروين بنظرياته في ارتقاء الأنواع بعضها عن بعض، كيف كانوا لا يفهمون معنى للأعضاء الأثرية، ولا يدركون سببًا لظهور بعض الأشياء في أجنة الحيوانات ثم انمحائها قبل أن تقوم بأية وظيفة أو تؤدي أي عمل؛ كالأسنان التي تظهر في طور التكوين في الفك الأعلى لأجنة الحيتان والحيوانات المجترة ولا عمل لها إذ ذاك، ثم تزول ولا يبقى لها أثر، حتى ظن بعض الناس أن ظهورها هذا عبث، ولو لم تشاهد بالحس لأنكر المكابرون وجودها. فليتأدب الإنسان وليعلم أنه لم يؤت من العلم إلا قليلاً، ولا يغترن بما علم من ظواهر الأمور. الإنسان طائش، إذا جهل حكمة شيء أسرع بتكذيبه وإنكاره. ولكن ذلك لا يغنيه من الحق فتيلاً. جهل حكمة الخالق لهذا الوجود وكنهه فتسرع في إنكار وجوده، فهل أراحه ذلك مما أحاط به من المعضلات التي يناجيه بها عقله ويطالبه بحلها؟ أنت مسكين أيها الإنسان وبعقلك حيران. نظر المادي نطرة سطحية في الكون، ودعاه للإيمان باليوم الآخر وبقضاء الله وقدره، فقال: لو آمنت بذلك لآمنت بظلم مبين، فأنا أنكره كله لأستريح من هذا العذاب الأليم، والتجأ إلى جحر التكذيب فلحقه فيه ما فر منه، ولكي تفهم ذلك يجب أن تصغى لما سأتلو عليك: إن أبسط الأحياء في هذا العالم ما كان ذا خلية واحدة كالحيوان المسمى (أميبا) هذا الحيوان هو قطعة صغيرة من مادة حية تسمى البروتوبلاسم [٣] ولها من خواص الحياة ما هو معلوم للفسيولوجيين، فإذا نبهت بأي منبه تحركت. إذا ارتقينا إلى ما فوق هذا الحيوان في الرتبة، وجدنا هذه الخاصية - وهي إجابة التنبيه بالتحرك - أخذت في التضاعف في الحيوانات المركبة، وامتاز بعض أجزائها (وهي أيضًا عبارة عن خليات بروتوبلاسمية) بالقيام بها دون سواها. فبعد أن كانت الأميبا هي التي تقابل بنفسها التنبيه فتتحرك بجملتها، صار في الحيوانات الراقية بعض الأجزاء مختصًّا بمقابلة التنبيه، فتجيب عنه أجزاء أخرى بالحركة. أما الأجزاء الأولى فهي الأعصاب الحساسة التي تحمل التنبيه إلى المراكز العصبية كالتي في النخاع الشوكي، فيرتد فيها إلى أعصاب أخرى تسمى الأعصاب المحركة حتى يصل إلى العضلات فيؤثر فيها تأثيرًا مخصوصًا يظهر لنا بانقباضها. وهذا هو ما يسمى بالفعل المنعكس (ومن أراد زيادة التفصيل فعليه بكتب الفسيولوجيا) وهو يشاهد في جميع الحيوانات حتى في الإنسان نفسه، ولو أعقنا العلاقة بين المخ وبين النخاع، حتى لا يبقى لإرادة الإنسان سلطان عليه لتم هذا الفعل أيضًا رغم أنفه كما يشاهد في حالات البارابليجيا أي الشلل النصفي، وكذا في إصابات النخاع العارضة إذا كانت فوق المراكز التي تقوم بالفعل المنعكس. أما ما يصل إلى المخ من التنبيهات بواسطة الحواس فليس من الضروري أن يجيب عنها في الحال كما هو شأن النخاع وشأن الحيوانات الأولية. ولكنها تحدث فيه آثارًا مخصوصةً عليها مدار ما يأتيه الإنسان من أقوال وأفعال. قال العلماء الفسيولوجيون والبسيكلوجيون: إن أعمال الإنسان هي أفعال منعكسة مركبة متضاعفة. والفرق بين ما يأتيه باختياره وبين ما يحصل بدون اختياره كالأفعال المنعكسة للنخاع - إنما هو في مدة حصول كل منهما. كما صرح بذلك العلامة (أغسطس د. وللر) الفسيولوجي الشهير، فالفعل القهري ينعكس بسرعة وما نسميه اختياريا ينعكس ببطء وكلاهما في الحقيقة فعلان منعكسان , ولا يصدر عن الإنسان إلا ما كان نتيجة ما وصل إلى مخه مما أحاط به من الظروف والأحوال وما لحقه بسبب الوراثة الطبيعية عن الآباء والأجداد. فالإنسان في الحقيقة مضطر في صورة مختار كما وصفه بذلك عندنا علماء الكلام كالإمام فخر الدين الرازي، فهو ليس إلا آلة لانعكاس ما حوله ولا يصدر منه شيء ابتدائي مطلقًا؛ إذ جميع أعماله إنما هي نتيجة تربيته ومعلوماته وما ورثه وما أحاط به من ظروف وأحوال وغيرها؛ أي هي نتيجة مزاجه والوسط الذي نشأ فيه وإلا فكيف نفسر ميل هذا للشر وميل ذاك للخير إذا كان كل شيء فيهما متساويًا؟ على أن القول بتساوي البشر في الطباع والأخلاق والظروف مما يكذبه الحس والعيان. ولو كان صحيحًا ما وجد بهم اختلاف ما في الميل، ولو وجد الاختلاف لجاز حصول المعلول بدون علة أو الترجيح بدون مرجح وهو محال. هذا هو تقرير العلم والعقل لهذه المشكلة. فإذا كان البشر لم يخلقوا متساوين وليسوا في الظروف متفقين (ولا دخل لهم في ذلك) وجميع أفعالهم ليست إلا نتيجة تركيبهم. والمؤثرات المحيطة بهم، إذا كان الأمر كذلك. فهل يقال: إن لهم إرادة حقيقية متصرفة في شيء؟ الحق أقول: إن اختيارهم ليس إلا أمرًا ظاهريًّا. وإذا كان كذلك فلماذا نعاقبهم على ما يرتكبون في هذه الدنيا، وهم لا شك إليه مسوقون وعليه مدفوعون؟ الجواب سهل، وهو أن العقاب من العوامل المؤثرة في النفس، فتنزعج له وترتدع بسببه، وكذلك يؤثر في نفوس غيرهم ممن رأوه أو سمعوا به، فتقل الشرور في هذا العالم: {وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (البقرة: ١٧٩) ولكن هل يسوغ لنا هذا ظلمهم بالعقاب مع علمنا بأنهم مكرهون؟ إن كان هذا غير مسوغ، فنحن إذًا جميعًا ظالمون! وهناك مسألة أخرى أيها المادي. وهي لماذا كان بعض المادة جمادًا لا يشعر وبعضها الآخر نباتًا أو حيوانًا يحس ويتألم ويتلذذ؟ ولم كان الناس مختلفين ما بين غني وفقير، وصحيح ومريض، ومتنعم ومعذب، وفرح وحزين، إلى غير ذلك من التباين والاختلاف بين أجزاء المادة؟ أليس هذا ظلمًا في رأيك؟ فإن كان ظلمًا فالكون كله ظلم في ظلم، ونحن ظالمون مظلومون، ولا يخلصك من ذلك إنكارك لوجود الخالق أو إقرارك به، فأنت أنكرت ما أنكرت فرارًا من القول بالظلم فوقعت فيه. قد يقول: إنني بإنكاري الخالق تكون تبعة هذا الظلم ليست واقعة عندي إلا على الوجود. ولكنها عندكم واقعة على إلهكم. ونقول: إن الظلم أمر اعتباري، فما تسميه أنت ظلمًا يراه الآخر عدلاً؛ ولذلك اختلف الناس في ذبح الحيوان أو أكله مثلاً، فبعضهم يستقبح ذلك وبعضهم لا يرى فيه عيبًا، فما عرفت به الظلم يخالفك فيه غيرك، ويقول: إن الظلم هو التصرف فيما ليس بحق المتصرف , والعدل هو تصرف المالك في ملكه بما يرى. فإذا ملكت بعضًا من الأنعام فذبحت بعضها وأطلقت بعضها الآخر فلست بظالم، وإذا خول القانون للقاضي الحكم في مسألة بإحدى عقوبتين، فاختار ما شاء منهما فليس بظالم. وإن لم تسلم هذا التعريف أو ما يقاربه وأصررت على القول بالظلم، فنحن لا نرى فرقًا حقيقيًّا بين قولك: إن تبعة هذا الظلم عندك على الوجود؛ أي ليست على أحد بعينه وبين زعمك أن تبعته عندنا على الله؛ لأن الله تعالى فعل ما فعل حسب ما قضت به إرادته الأزلية، ولم يكن في الإمكان غير ما كان؛ لأن الإرادة في جانب الله معناها تخصيص بعض الممكنات الأخرى وهو ما يسمى بالترجيح. وهذا الترجيح حاصل منذ الأزل أي لا أول لوجوده، فلا يمكن أن يوجد غيره أما دعوى أنه أزلي وأنه كان يمكن وقوع غيره كما يدعيه بعضهم، فهي مصادمة للبداهة العقلية. وإن قيل: إن الإرادة صالحة لترجيح هذا على ذاك، ولكن لم يقع الترجيح بالفعل إلا في غير الأزل أو كما يعبر المتكلمون في مثل ذلك أن لها تعلقين: تعلقًا صلوحيًّا قديمًا وتعلقا تنجيزيًّا حادثًا [٤] إن قيل ذلك، قلنا: إن اختيار هذه الشيء دون ذلك مع أنهما بالنسبة له تعالى سواء من كل وجه، هو عين الترجيح بلا مرجح. ولا يصح أن يقال: إن صفة الإرادة هي المرجحة؛ لأن نسبتها أيضًا لأحدهما كنسبتها إلى الآخر تمامًا. ولو اختلفت النسبة لكان الترجيح أزليًّا وإلا لتخلف المعلول عن علته وهو محال. وإن كان المرجح شيئًا غير الإرادة فإما أن يكون قديمًا أو حادثًا، فإن كان قديمًا لا يمكن تخلف المعلول عن علته كما قلنا، وإن كان حادثًا يحتاج هو لمرجح يرجح وجوده على عدمه، وذلك يؤدي إلى القول بالتسلسل وهو باطل. وإن لم يكن هذا ولا ذاك بأن كان المرجح يوجد في المستقبل (وهو غير معقول) فلم كان الترجيح لأجله حادثًا ولم يكن أزليًّا؟ فلا مفر إذًا من القول بأن تعلق الإرادة التنجيزي هو قديم، أما التعبير عن الإرادة بالمضارع بدل الماضي، فنحو قوله تعالى: {ذُو العَرْشِ المَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (البروج: ١٥-١٦) ، فله شواهد كثيرة في اللغة وفي القرآن الشريف كقوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} (الحجرات: ٧) بدل أطاعكم. ويراد به إفادة استمرار الفعل، فمعنى الإرادة: القضاء الأزلي الذي أوضحنا، وقد قضى تعالى بما قضى، ولا يزال قاضيًا به , وجميع ما ورد في حقه تعالى من أمثال ما يستعمل في حق البشر: كالرحمة والغضب والكره ونحوها، له معان في جانبه غير معناه في جانبنا. فنفسر هذه الألفاظ في كل مقام بما يناسبه وبما يليق بالله تعالى وصفاته، مثلاً إذا قيل: (الله رؤوف بعباده) فمعناه أنه تعالى هو المنعم عليهم بكل خير أو نحو ذلك؛ لأنه جل شأنه منزه عن الانفعالات والاضطرابات العصبية والجولات الفكرية. فليست رأفته أو غضبه كرأفتنا أو غضبنا، تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا، وليست أفعاله مسبوقة بتفكر أو تردد أو ما شابه ذلك من صفات المحدثين. والخلاصة: أن ترجيح بعض الممكنات على بعض حاصل منذ الأزل، فما كان يمكن أن يحصل غيره إذ لم يسبق بعدم ولم يكن لوجوده أول. فإن سلم أن فيما حصل ظلم، فلا تبعة فيه على أحد؛ لأنه تعالى هكذا موجود من القدم، ولابد من إنفاذ ما كان بلا تردد. ومن تفكر فهم، ومن تعمق عرف، ولا أزيد عن ذلك فسر القضاء أوشك أن يتضح. بل هو للعارفين قد اتضح، إذًا فما يجده المادي من الحرية في جحوده يجده المؤمن في إيمانه، ولكن المؤمن يفوقه في كونه عرف علة الوجود وما اقتضته، فخلص من التناقض الذي وقع فيه المادي بسبب زعمه قدم الجواهر الفردة على ما بيَّنا هنا في صدر هذه المقالة وفي مقالتنا الأخرى في الإلهيات التي سبق نشرها في المنار. فهذا هو ما أردت بيانه: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل: ٩) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الدكتور محمد توفيق صدقي طبيب ... ... ... ... ... ... ... ... بسجن طره (المنار) ما كتبه الدكتور في الإرادة والاختيار غير محرر، وقد أطال في ذلك المتكلمون، وأوردوا فيه ما قيل من أن تعلق الإرادة الإلهية بفعل الشيء يقتضي وجوبه واستحالة مقابله وبذلك ينتفي الاختيار، وأجابوا عنه بأن الإرادة لا تتعلق إلا بفعل الممكن لذاته، وما كان ممكنًا لذاته إذا صار واجبًا بتعلق الإرادة به، كان وجوبه عين الاختيار؛ إذ لا معنى لاختيار الباري تعالى إلا كون ما يصدر بقدرته من الأفعال له؛ إنما يصدر بتخصيص إرادته لذلك الفعل على ما يقابله من الممكنات، فالاختيار عند المحققين لازم للإرادة لزومًا عقليًّا، وبعضهم يجعلهما بمعنى واحد، وغاية ما فرق به المدققون بينهما هو أن المختار ينظر إلى الشيء وإلى مقابله، ويرجح أحد المتقابلين أو المتقابلات على غيره، والمريد ينظر إلى الشيء الذي يريده فيحرك القدرة إلى فعله، يعني أن كلا من الإرادة والاختيار يفيد التخصيص والترجيح. ولكن الفاعل للشيء يسمى مريدًا له باعتبار القصد المجرد، ويسمى مختارًا باعتبار ملاحظة شيء آخر غير ما قصد إلى فعله، كان يمكن أن يكون بدلاً منه لولا الترجيح والتخصيص. وأظهر من هذا أن يقال: الاختيار عبارة عن كونه تعالى غير مكره ولا مجبور على ما أراد وما يريد؛ لأنه ليس فوقه سلطان بشيء ما، فتكون إرادته تابعة لإرادته، فإرادته مستقلة بالتخصيص بحسب علمه. أما نحن البشر فإننا قد نعلم أن المصلحة في فعل كذا وأن مقابله مفسدة، ونحب أن نفعل ما هو المصلحة، ولكننا قد نخصص ونرجح المفسدة بإكراه من هو أقوى منا سلطانًا، فلا تكون إرادتنا مستقلة بالتخصيص، ولا نحن مختارين في العمل، وقوله: إن فهم الإرادة والاختيار بهذا المعنى يستلزم الترجيح بلا مرجح - مصادرة، فإن الإرادة إذا لم تكن هي المرجحة لزم في الوجود الترجيح بلا مرجح، لا إذا كانت هي المرجحة يلزم ذلك كما يقول. نعم، إن ما يتخصص بالإرادة يكون على حسب الداعي وهو العلم، والعلم ليس ملزمًا بالفعل (ونريد به ما يعم الكف والترك) لأنه عبارة عن انكشاف المعلوم، فتوجه نفس الفاعل إلى فعل بعض المعلومات دون بعض معنى آخر يسمى إرادة ومشيئة، ومن أثبت الإرادة المستقلة يكون مثبتًا للاختيار. وإرادة العالم الفعل تكون عند الفعل حتمًا، وقد تكون قبله بمعنى أن نفسه تكون متوجهة إلى فعل كذا في زمن كذا من المستقبل؛ ولذلك قالوا: إن للإرادة تعلقًا قديمًا أزليًّا وتعلقًا حادثًا، وما ذكره الدكتور صدقي في الهامش من كون الإرادة ليس لها إلا تعلق قديم غير صحيح؛ لأنه يلزم منه أن يكون تعالى غير مريد للشيء عند إيجاده بالفعل وهو بديهي البطلان؛ على أنه هو قد صرح باستمرار الإرادة الإزلية، والمراد منه ومن التعلق الحادث واحد. لكن ما يتبادر إلى الفهم من مجموع كلامه في هذا المقام مخالف لما هو مقرر في العقائد، ومن يتأمل فيه يتنسم منه أنه بما قرره من أزلية الإرادة وعدم إمكان شيء غير ما قضت به في الأزل، حاول أن ينفي ما يعبر عنه القدرية بقولهم: الأمر أنف (بضم الهمزة والنون) أي أن الله لم يقدر الأمور ولم يعلمها أزلاً، وإنما يأتنفها علمًا حال وقوعها. والقائلون بهذا هم غلاة القدرية المتقدمون، ويقرب من عقيدتهم ما يفهمه كثير من العوام من معنى الاختيار؛ قياسًا على اختيارهم الذي يكون بعد تردد وبعد مخالفة لقصد سابق. ومن مقاصد القدرية في مذهبهم نفي الظلم عن الباري عز وجل، وهو ما قصده الدكتور صدقي بنقيض مذهبهم، ولكنه على موافقته لأهل السنة في الإرادة الأزلية من جهة قد خالفهم من جهة أخرى، فجعل الإرادة منافيه للاختيار. وعلى موافقته لهم في نفي الاعتراض على الباري بالظلم خالفهم في طريق الاستدلال، فوقع في شر مما هرب منه؛ إذ جاء بما يوهم جواز وقوع الظلم الحقيقي مع الاعتذار عنه بكون علته أزلية، وكل ذلك عدم تحرير العبارة فيما أظن. وجملة القول: إن جميع الممكنات التي نعرفها وفي حكمها مثلها مما لم نعرفه من الموجودات، صادرة عن الوجود الواجب الأزلي، أو قل: عن واجب الوجود القديم، ولما كانت مشتملة على النظام والأحكام، دلت على أن الواجب الذي صدرت عنه قد أوجدها بعلم كامل وإرادة مستقلة، وأنه مختار في ذلك لا مجبور ولا مكره. ولما كانت إرادته للأشياء عن علم محيط، وجب أن تكون أفعاله كلها موافقة للحكمة البالغة والنظام التام والعدل العام، فلا يقع منه الظلم؛ لا لأن ما نفهمه من معنى الظلم إن وقع منه تعالى لم يكن ظلمًا كما يقول الأشاعرة فإن هذا غير صحيح كما بيناه في التفسير من هذا الجزء، ولا لأنه أزلي وإرادته أزلية كما قال الدكتور صدقي؛ فإنه تعالى متصف بالكمال في الأزل وفيما لا يزال، والظلم ينافي الكمال، وهذا الذي قررناه هو ما كان عليه السلف الصالح في مسألة استحالة الظلم عليه تعالى. وما يظنه الجاهلون بالله وبسننه ظلمًا لمخالفته لأهوائهم، يسهل على العارفين بالله أن يبينوا لهم أنه ليس بظلم. وأما ما قاله في مسألة كون الإنسان مجبورًا غير مختار في أفعاله، فله فيها وجه فلسفي يقول به بعض فلاسفة الإفرنج الآن، وسبقهم إليه بعض أئمة المتكلمين والحكماء من المسلمين، وللغزالي فيه أقوال من قبيل أقوال فلاسفة الإفرنج من أوضحها وأبلغها ما كتبه في كتاب التوحيد والتوكل من الإحياء. وقد اشتبه على أكثر علمائنا الفصل بين هذا النوع من الجبر وبين الجبر الذي يعترض به على أصل التكليف، والفرق مثل الصبح ظاهر، فمدار التكليف على ما يعلمه الإنسان من نفسه علمًا ضروريًّا؛ من أنه متمكن من فعل هذه التكاليف وتركها، وهذا التمكن يسمى اختيارًا، ويسميه الأشاعرة كسبًا، ولا ينفيه كون الإنسان لا يعمل عملا ًإلا بعد العلم بأن فعله خير له من تركه، وكون هذا العلم منه الضروري وغير الضروري، وإن ما كان منه غير ضروري في مبدأه، يصير ضروريًّا بعد الجزم به كما هو ظاهر، أو كون هذا العمل فعلاً منعكسًا بسرعة أو ببطء. وربما عدنا إلى الإسهاب في ذلك يومًا. هذا هو اعتقاد أهل الحق في هذه المسألة وما قبلها، وأظن أن الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي لا يخالفه وإن أوهمت عبارته الخلاف لعدم وضوحها.