للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

حكم تارك الصلاة
(س٨) من صاحب الإمضاء بمصر
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الفاضل السيد رشيد رضا المحترم؛
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأرجوكم تعريفنا على صفحات المنار الأغر عن حكم تارك الصلاة
بغير عذر في نظر الشرع، وهل الأحاديث التي وردت بخصوص ترك الصلاة
تؤخذ على ظاهرها، أو فيها ما يحتمل التأويل كما يقال؟ أما ما أعلم من
الأحاديث الواردة في تارك الصلاة أو المتخلف عنها، فهو الموضح بعدُ، فإن كان
هناك أخرى أرجو التفصيل بإيضاحها في الإجابة. قال - صلى الله عليه وسلم -:
١- (بين العبد والكفر - وفي رواية الشرك - ترك الصلاة، فإذا تركها فقد
أشرك. وحوضي كما بين أيلة إلى مكة أباريقه كعدد نجوم السماء له ميزابان من
الجنة كلما نضب أمداه، مَن شرب منه شربة، لم يظمأ بعدها أبدًا، وسيرده أقوام
ذابلة شفاههم، فلا يطعمون منه قطرة واحدة، مَن كذب به اليوم لم يصب منه
الشراب يومئذٍ) .
٢- (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمَن تركها فقد كفر) (يريد طبعًا العهد
الذي بيننا وبين الكفار) .
٣- (مَن ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) .
٤- (الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله) .
٥- (والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة،
فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً، فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال، فأحرق عليهم
بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مرماتين حسنتين
لشهد العشاء) .
فأرجو بعد النظر في هذه الأحاديث التكرم بتفهيمنا درجة صحتها، وعما إذا
كان في ظاهرها شيء يحتمل التأويل، خصوصًا في لفظة الكفر أو الشرك.
هذا، والسبب الذي ألجأني إلى عرض سؤالي هذا على فضيلتكم هو ذلك
التهاون الغريب في أمر الصلاة بين مَن يسمون أنفسهم مسلمين الآن، وظنهم أن
تاركها لا يخرج عن كونه عاصيًا بسيطًا مثل باقي العصاة، مفتوحة له أبواب
التوبة في أي وقت شاء فيه الصلاة، وذلك بالرغم مما ورد في أمرها في القرآن
الكريم والأحاديث الشريفة من التشديد والوعيد؛ لذلك أرجو أن تكون الإجابة مفصلة
الشرح، لعلها تكون فصل الخطاب فيما عليه شبابنا المسلمون المتفرنجون من
الحيرة في حكم تارك الصلاة بغير عذر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... الداعي علي مهيب
... ... ... ... ... ... ... ... بتفتيش عموم التلغرافات
(ج) يجد السائل في المجلد الثامن عشر من المنار ما يغنيه عن تفصيل
القول في هذه المسألة، وهو رسالة للشيخ محمد أبي زيد من طلبة دار الدعوة
والإرشاد، اسمها (البرهان على خروج الصلاة ومانع الزكاة من الإيمان) ،
نُشرت في ص ٥٠٥, ٥٦٢, ٥٨٦ وما بعدها، أورد فيها كثيرًا من الآيات التي
استدل به على كفر مَن ذكر، وبعض الأحاديث المؤيدة لدلالتها على ذلك، وذكرنا
فيما علقناه في حواشيها وما ذيلناها خلاف العلماء في المسألة والجمع بين الأقوال.
وإن أدري أيريد السائل الآن أن أتوسع في شرح المسألة، واستيفاء ما ورد فيها
من النصوص لزيادة الإيضاح، وتكرار تذكير التاركين لهذه الفريضة التي هي عماد
الإسلام؟ أم لم يقرأ تلك الرسالة، وما علقناه عليها؟ وقد يستدل بما أورده من
الأحاديث - وسؤاله عن غيرها - أنه لم يقرأ الرسالة، على أنه من أشد قراء
المنار عناية بهذه المسائل كما نظن، فنحثّه أولاً على مراجعتها وقراءتها، ونرشده
إلى كتابين جليلين في المسألة أحدهما (كتاب الصلاة) لإمام السنة أحمد بن حنبل
رضي الله عنه، و (كتاب الصلاة وأحكام تاركها) لناصر السنة ابن القيم رحمه
الله تعالى، والكتابان مطبوعان معًا. فإذا أشكل عليه - بعد الاطلاع على ما ذُكر -
أمر فليسأل عنه.
وأما الحديث الأول مما أورده في السؤال فصدره الخاص بالصلاة في صحيح
مسلم وأكثر كتب السنن، والثاني رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي
والنسائي والثالث والرابع والخامس في الصحيحين وغيرهما إلا الثالث، فقد رواه
البخاري دون مسلم، ومما قيل في الخامس إنه في تهديد جماعة من المنافقين، وإنه
في صلاة الجمعة خاصة أو الجماعة مطلقًا، فالأحاديث التي أوردها في الموضوع
كلها صحيحة. وقد ورد في معناها أحاديث أخرى.
وإنني أذكر كلمة وجيزة في المسألة تفيد السائل فضل فائدة في المسألة، وإن
كان يمكنه مراجعة المجلد الثامن عشر من المنار والاكتفاء بما فيه؛ لأنه من قدماء
المشتركين الذين يحفظون المنار، وقد تكون ضرورية للذين اشتركوا في المجلد
التاسع عشر والمجلد العشرين ومَن يتعذر عليه مراجعة ما أحلنا السائل على
مراجعته.
إن الكفر والظلم والفسق وما اشتق منها قد استعملت في لغة الكتاب والسنة
استعمالاً أعم وأوسع من الاستعمال الاصطلاحي الذي جرى عليه المتكلمون والفقهاء
فهؤلاء قد جعلوا الكفر مقابلاً للإيمان والإسلام، فالمسلم الصحيح الإيمان قد يكون
عندهم فاسقًا وظالمًا، ويطلق عليه هذان اللقبان، ولكن لا يطلق عليه لقب كافر،
وفي لغة الكتاب والسنة تطلق هذه الألفاظ على ما يقابل الإيمان والإسلام، وعلى
بعض كبائر المعاصي التي اختلف أئمة الفقهاء والمتكلمين في كفر مرتكبها بمعنى
خروجه من ملة الإسلام كالصلاة، وكذا على ما أجمعوا على أنه غير كفر بهذا
المعنى كالنياحة من الميت، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا:
(اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت) ، وأهل
الأثر يتبعون النصوص في ذلك ويقولون بكفر كل من أسند إليه الكفر أو وصف به
في الكتاب والسنة، وما كل كفر عندهم خروج من الملة، بل هنالك كفر دون كفر،
وهم ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين. وأهل المذاهب يتبعون مذاهبهم في كل
مسألة، فيفرقون بين النصوص يؤلون بعضها، ويأخذون ببعض اتباعًا؛ لمَن قلدوهم
لا للنصوص.
والتحقيق الجامع بين النصوص أن مَن كان مؤمنًا صحيح الإيمان مسلمًا
صادق الإسلام لا يُخرجه عن ملة الإسلام تركه لصلاة كسلاً أو ارتكابه لكبيرة من
المنهيات بجهالة يتوب منها، ولكن الإيمان الصحيح هو إيمان الإذعان والخضوع
الفعلي لأوامر الله ونواهيه، الذي به يكون المؤمن مسلمًا. وقد يكون المرء مؤمنًا
غير مذعن كإبليس، ومَن قال الله تعالى فيهم من أئمة الكفر: {وَجَحَدُوا بِهَا
وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا} (النمل: ١٤) ، ومَن قال فيهم: {فَإِنَّهُمْ لاَ
يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام: ٣٣) ، وغير هؤلاء.
وهل يعقل أحد ينصف من نفسه أن يكون من أولئك المؤمنين المذعنين مَن
يترك عماد الدين وأعظم أركان الإسلام بغير مبالاة، ويصر على ذلك غير مكترث
للآيات والأحاديث الكثيرة في الأمر بها والترغيب فيها، والبيان لفوائدها ومكانتها
العليا من الدين والترهيب والزجر عن تركها والوعيد الشديد عليه، وتسميته كفرًا
في أحاديث صحيحة، ظاهرها أن المراد به كفر الاعتقاد، لا كفر النعمة أو كفر
العمل، كما قيل.
وممن قال بكفر تارك الصلاة من أئمة السلف إمام الأئمة علي كرم الله وجهه،
وقد أوَّل الجمهور الأحاديث الواردة في ذلك بما أشرنا إلى بعضه آنفًا. وحملها
بعضهم على الاستحلال ولا خلاف في كفر من استحل حرامًا مجمعًا على تحريمه
معلومًا من الدين بالضرورة كترك الصلاة والزكاة من الفرائض وكفعل الزنا وشرب
الخمر من المحظورات.
واستحلال الشيء هو عدُّه حلالاً كما قال ابن منظور في لسان العرب. فإذا
كان المراد به الاستحلال بالفعل وهو أن يكون المحرم عند مرتكبه كالحلال في عدم
تحرجه من فعله ولا احترامه لأمر الله ونهيه، حتى كأنه لم يفعل شيئًا - فهذا هو
الذي لا يعقل أن يصدر من مؤمن. وإن كان المراد اعتقاد أن الشرع أحله فهذا
مُحال على نشء بين المسلمين. ولا أعرف لإمكان الجمع بين الإيمان بما جاء به
محمد صلى الله عليه وسلم وبين ترك فريضة منه أو ارتكاب محرم إلا صورة
واحدة، وهي الغرور بالأماني كالمغفرة والشفاعة وجعل الفاسق ذلك كالمقطوع به،
وقد كشفنا الشبهة عن وجه هذا الغرور مرارًا في التفسير، والله أعلم.