للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


حقائق في عداوة ملاحدة الترك للإسلام
وتعليق على المقالة السابقة

١ - فكرة ترك الإسلام في ملاحدة الترك:
سافرت في أواخر رمضان سنة ١٣٢٧ (أكتوبر سنة ١٩٠٩) أي في أول
سني الدستور العثماني إلى الآستانة للسعي لأمرين: (أحدهما) تأسيس (جمعية
للدعوة والإرشاد) تستعين على عملها بإنشاء مدرسة كلية إسلامية وتوثيق الروابط
بين الدولة والمسلمين (وثانيهما) السعي للتأليف بين العرب والترك؛ إذ كانت
العصبية التركية الجنسية قد نجمت قرونها وبدأت بنطاح العرب وغيرهم من
عناصر الدولة قبل أن ترتفع وتعلو، وأقمت في الآستانة سنة كاملة كنت فيها
عزيزًا مكرمًا من رجال الدولة وزعماء جمعية الاتحاد والترقي، وتيسر لي بذلك أن
أكشف الستار عن إلحاد هؤلاء الزعماء وعزمهم على محو الإسلام من الشعب
التركي وتأسيس دولة تركية محضة، وجعل الولايات العربية مستعمرات لهذه
الدولة، وتتريك سائر العناصر العثمانية، ومن تقدر على تتريكه من العرب أيضًا.
وقد اجتمعت هنالك برئيس الجمعية التي تشتغل بما سموه تطهير اللغة
التركية من الألفاظ العربية وأعضائها وناظرتها، فاعتذروا لي عن عملهم بأنه فني
محض لا علاقة له بالدين ولا بالسياسة، وإنما الغرض منه تسهيل التعليم على
عوام الترك ولا سيما فلاحي الأناضول، وقد أقمت عليهم الحجة كما شرحته في
المقالات التي نشرتها في الآستانة نفسها بالعربية والتركية وفي مقالات (رحلة
الآستانة) .
فمصطفى كمال باشا لم يبتكر شيئًا مما يسمونه التجديد، وإنما سنحت له
الفرصة لتنفيذ ما قرَّره من قبله من جماعة (جون ترك) بتأثير ساسة الإفرنج
المستعمرين ودسائس الروس الطورانيين، ولعلمي بهذه المقاصد صرَّحت في المنار
وفي تفسير القرآن أيضًا بأن الترك الكماليين يقصدون من ترجمة القرآن التمهيد
لمحو الإسلام من الشعب التركي، وكان ذلك قبل إعلانهم للحرب على الإسلام.
وإنني من ذلك العام بارزت الاتحاديين العداء وأطلقت عليهم لقب
(الملاحدة) وأنا في الآستانة، وأطلقت لساني بانتقادهم حتى إن طلعت بك أو
باشا قال للدكتور عبد الله بك جودت وقد لامه هذا على عدم تنفيذه لمشروع
الجمعية والمدرسة: نحن ما قصرنا مع رشيد أفندي بل كرَّمناه ولكنه يطعن فينا شديدًا
وصل إلى حد الرذالة.
نعم إنه كرَّمَني بالحفاة القولية والفعلية وبالدعوة غير مرة إلى طعامه وكان
يقدمني على مائدته حتى على كبار علماء المشيخة الإسلامية كمستشارها وعلى
غيرهم، وعرض عليَّ أن يعطيني في كل عام عشرين ألف جنيه عثماني من
الذهب للقيام بشئون المدرسة على أن لا تكون تابعة لجمعية إسلامية.. .) بل
مشايعة لجمعية الاتحاد والترقي، فلم أقبل، وقد كتبت كل هذه التفصيلات في عهد
دولتهم وصولتهم، ومع هذا يفتري عليَّ المفترون من ملحد ورافضي بأنني لم
أتحول عنهم إلا بعد سقوطهم كما زعموا مثل هذا الزعم في خصومتي للشريف
حسين وأولاده سواء.
***
٢ - خطة الكماليين تنفيذية لا إنشائية:
إن دولة الترك الكمالية الجديدة قد وجدت من ملاحدة القواد والضباط وغيرهم
أعوانًا كثيرين على تنفيذ كل ما كانوا قرَّروه هم وإخوانهم، وكل ما كانوا يتمنونه
بعد أن صار بيدهم قوتا الدولة العسكرية والمالية، ولما يتم لهم ذلك كله فيما ظهر
لنا بعد ذلك فله بقية منها تغيير الصلاة باختراع صلاة جديدة هي كصلاة
البروتستانت كما قال الكاتب السويسري: ولكنهم يمهدون للشيء ثم ينفذونه على
الطريقة التي سماها مصطفى كمال باشا (سياسية المراحل) كما مهَّدوا لإلغاء
الخلافة بنصب خليفة روحاني لا عمل له، وكانوا أولاً يحسبون أكبر حساب
لاحتماء الشعب التركي الذي يغلب على سواده الأعظم التدين بالإسلام وتألبه عليهم،
فلما شرعوا في العمل رأوا أن المعارضة ضعيفة فقد كان أقواها ثورة الأكراد التي
تعبت القوى العسكرية في القضاء عليها، وأما ما عداها من الائتمار السري
بالاغتيال وهو لم ينقطع فلا ثبات له أمام سلطان الحكومة العسكري القاهر
وجواسيسها الكثيرة، فأوجفوا في سيرهم بقطع المراحل بسرعة البخار، وكانت
تقدر بسير الرجلين أو سير البغل والحمار، وهذا الذي جرَّأ ملاحدة الأفغان وإيران
على اتباع خطوات الشيطان بترك الهداية الدينية إلى الإباحة المادية، على ما بين
شعوبهما والشعب التركي وما بين زعمائهما وحكوماتهما من الفروق، فالشعب
التركي قد ذللته لقواده وحكومته الخدمة العسكرية العامة، وسلطتها القاهرة،
وأضعف شكيمته الفقر ونكبات الحرب المتوالية، التي اشتدت وطأتها في حرب
البلقان فالحرب العامة، والملاحدة في قواده وضباطه وأطبائه وحكامه كثيرون بما
مارسوا من التعاليم الأوربية وما تمرسوا به من مخالطة ساسة الإفرنج من زهاء
قرن، والشعبان الإيراني والأفغاني ليسا كذلك، والملاحدة فيهما قليلون، وسنبين
هذا الموضوع بالتفصيل في مقال سنكتبه فيما سعينا له من صد الأفغانيين عما هم
عرضة له من الإلحاد.
***
٣ - ما يطمع فيه مصطفى كمال بنجاحه:
كان مصطفى كمال باشا بنجاحه في تنفيذ مقاصد جماعة (الجون ترك) بأن
يكون مؤسس دولة تركية جديدة تنسب إليه فقال الدولة الكمالية، كما كان يقال
الدولة العثمانية، ولذلك بذل جهده ونفوذ سلطانه الشخصي في طرد أسرة آل عثمان
من بلادهم ومصادرة أملاكهم، ومحو ذكر دولتهم وسلاطينهم إلا بالسوء والطعن،
ولعمري إنها لنفس كبيرة، وهمة بعيدة، وإن كنا نحن المسلمين نستنكر هذه الخطة
الجديدة وكثير من العقلاء يرون أنها غير سديدة.
ثم صار يطمع بأن يكون مؤسس أمة جديدة بتأسيس لغة جديدة ودين جديد
للشعب التركي الرومي الموجود في الأناضول وبقية الرومالي وفيما انتزعوه من
قطر سورية والعراق العربيين، واللغة والدين أقوى مقومات الشعوب ومميزاتها
ولا يبعد عليه بعد ذلك أن يستبدل لقب (كمالي) بلقب (تركي) الذي يحافظ عليه
إلى الآن، كما حافظ على اسم الإسلام مدة قليلة من الزمان، وهو لم يبق للترك
شيئًا من مقوماتهم ولا من تاريخهم الذي كانوا به أمة مجيدة ذات دولة عزيزة، كما
أنه لم يبق من شريعة الإسلام شيئًا، حتى إن داعيتهم الكاتب السويسري يصرح بما
لقَّنوه إياه من الطعن بكل ما جاء به نبي الإسلام صلوات الله وسلامه عليه حتى
الطهارة والصلاة فجعلوهما مما ذموه من خرافات الإسلام المنافية للحضارة العصرية
الأوربية! التي يقلدهما ملاحدة الترك ويتكلفون انتحالها لزعمهم أنهم مساوون
لشعوب أوربة أو لتوهمهم أن التكحل كالكحل، وأن لا فرق بين الطبيعة والمنتحل،
بل افتروا في الطعن على الإسلام ما لا يخفى على عاقل جهلهم وسخفهم فيه، حتى
مستأجرهم الكاتب السويسري على ما في كلامه من كذب وتناقض وتشويه للحقيقة.
***
٤ - الطهارة والوضوء في الإسلام:
يقول هذا الكاتب: إن من سيئات الإسلام وجوب الوضوء للصلوات الخمس
الذي هو عبارة عن غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ومسح الرأس وغسل الرجلين
إلى الكعبين، ثم يقول عن بعض ملاحدة الترك: إنه ترك الصلاة وفرَّ من المسجد
هربًا من الرائحة الكريهة التي تنبعث من أرجل المصلين! فيا للفضيحة! كيف
يعقل أن تكون رائحة المصلين الذين يغسلون أرجلهم عند إرادة الصلاة كريهة لا
تطاق عقب غسلها مع أنهم يكررون هذا الغسل خمس مرات كل يوم كما يقول؟
وقد أجمع الأطباء والعقلاء على مدح هذه المزية من مزايا الإسلام وتفضيله بها على
غيره حتى إن بعض أطباء فرنسة الكبار أسلم في هذا العهد بسبب اطلاعه على
نصوص الطهارة في القرآن وغيرها، مما يتعلق بحفظ الصحة ووجدانه إياه موافقًا
لأحدث ما تقرَّر في طب هذا العصر، وقال: إنه لا يمكن أن يصل رأي رجل أمي
ولا متعلم من العرب إلى ذلك في العصر الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم
ويا ليت شعري كيف يصدر من عاقل يحترم نفسه ذم النظافة وجعلها سببًا للقذارة،
وعدّها منافية للحضارة؟ إذن تكون الحضارة الأوربية مبنية على تفضيل النجاسة
والقذارة، على النظافة والطهارة، ولهذا يفضلها الترك وأنصارهم على المدنية
الإسلامية التي تعد الطهارة من أهم فرائضها، ولعل هذا الكاتب من المسيحيين
الذين تمر السنين ولا يغتسلون استغناء عن الغسل والطهارة بالمعمودية النصرانية،
فقد أخبرني مستر متشل أنسن الذي كان وكيلاً للمالية بمصر أن الإنكليز هم الذين
علَّموا أوربة كثرة الاستحمام بعد أن تعلموها هم في الهند وأنه لا يزال في أوربة من
تمر عليه السنة أو السنين ولا يستحم فيها.
وأما ما نوَّه به السويسري من العسر في الوضوء فنجيب عنه بأن العسر قد
يكون في غسل الرجلين لو كان حتمًا في كل وقت على من يلبس الجوارب
والخفاف والأحذية الجلدية، وليس الأمر كذلك، فإن من يلبس في رجليه ما
يسترهما وهما طاهرتان يجوز له أن يمسح على الساتر لهما بيده المبللة بالماء بدلاً
من غسلهما، ومن قواعد الإسلام الأساسية رفع الحرج والعسر من جميع أحكامه
كما هو منصوص في القرآن الحكيم، ويجوز لمن يلبس حذاء نظيفًا أن يصلي فيه،
وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون بنعالهم، ونسكت عن هذيانه
في سرقة ثياب المصلين وجعلها كأنها من لوازم الصلاة.
***
٥- شبهة ضرر السجود على الأرض:
إن أقوى شبهات هؤلاء الملاحدة على صلاة الإسلام هي السجود على الأرض،
وهي غير مقصورة عليهم، بل روي أن الاستنكاف من وضع الوجه على الأرض
خضوعًا لله تعالى قد كان مانعًا لبعض مشركي العرب المتكبرين من الدخول
في الإسلام أو عذرًا اعتذر به، ولكن لا يقع مثله من مؤمن بالله تعالى وبالدين
الذي يأمر بالسجود له عز وجل، ولمتفرنجي هذا العصر شبهة على السجود
غير استنكاف الكبرياء، وهو أن بعض أرجل المصلين المصابين ببعض الأمراض
تؤثر في موضع وقوفهم للصلاة تأثيرًا يضر من يسجد في مواضع وطئها بما قد
ينفصل منها من (ميكروبات) المرض.
ذَكر لي هذا طبيب عربي فقلت له: إن هذا أمر نادر الوقوع لا يخلو كل
مجتمع يكثر فيه الناس من مثله، ولا سيما حيث يزدحمون كمجامع الحفلات المدنية
والسياسية ومسارح التمثيل وغيرها، ولا نرى الأطباء ينهون عنها إلا في أوقات
بعض الأوبئة، وإن التنطع والإفراط في التوقي من جراثيم الأمراض في كل وقت
قد يكون ضرره أكبر من نفعه، وإنكم تقولون يا معشر الأطباء: إن الأجسام
تتعرض لميكروبات الأمراض القليلة في الأحوال العادية تكتسب مناعة يقل فيها
تأثيرها بعد تعودها حتى إنها قد تكون واقية له من الإصابة بها في الحالة الوبائية
كما يستفيد الذي تلقحونه بقليل من مصل الجدري وغيره مناعة يأمن بها أن يصاب
بالثقيل منه، وتقولون: إنه لو فرض أن رجلا نشأ في قلة جبل حيث الهواء النقي
الخالي من جميع ميكروبات الأمراض وأشعة الشمس الدائمة المانعة من التعفنات
والماء الزلال الجاري الذي لا تشوبه شائبة ثم ترك هذا المكان وخالط الناس في
المدن التي تكثر فيها الأمراض فإنه يكون أشد استعدادًا للعدوى من جميع من نشأ في
تلك المدينة.
قامت لي الحجة على هذا الطبيب لبنائها على أصول علمه فاعترف بها،
وأقول مع هذه: إنه يمكن أن تجعل صفوف المصلين في المساجد منظمة بحيث
يكون موطئ الرجلين في الوقوف غير موضع الوجه للسجود، وقد رأيت بلاط
بعض مساجد الهند صفوفًا مقسمة بالرخام الملون في كل صف منها ما يشبه سجادة
الصلاة لكل فرد من المصلين.
***
٦- الزي الإفرنجي والصلاة:
وأما جعله لبس السراويلات الإفرنجية مما يصدُّ عن الصلاة فقد رأيت في
مصر من يعتذر عن ترك الصلاة بمثل ما ذكره الكاتب من اتقاء تجعيد كي سراويله
وهذا لا يقع من مسلم يدين بالإسلام، وإنما هذه أعذار من نسميهم المسلمين
الجغرافيين، وقد قال الدكتور سنوك الهولندي المستشرق الشهير إن أكثر الذين
يلبسون هذه الملابس الإفرنجية من المسلمين يتركون الصلاة أي وترك الصلاة
مقدمة لترك الإسلام، بل هو منه عند بعض الأئمة كأحمد بن حنبل رحمه الله تعالى،
وأخبرني بعض نظار المدارس الأميرية أنه كان يأمر التلاميذ بالصلاة فامتنع
بعض أولاد الباشوات معتذرًا بأمر أبيه له بعدم الصلاة؛ لئلا يتجعد أسخف سراويله
(بنطلونه) فما هذا الوالد الزنديق الذي يحب أن يجعل ولده المخنث كأنه في زيه
الجميل مصبوب من قالب لا يتغير ولا يتبدل كأنه من شحنة مدرسة البوليس
المصري في الزي الذي اخترعه لهم الإنكليز؛ لئلا يصلي أحد منهم.
***
٧- محاسن الصلاة الإسلامية ومزاياها:
ألا إن الصلاة الإسلامية نفسها لأكمل عبادة شرعها الله لعباده المؤمنين على
ألسنة رسله عليهم السلام، فهي جامعة لأعلى المناجاة الروحية لله تعالى ذكرًا ودعاءً
وخشوعًا وأدبًا ولأنفع الرياضة الجسدية بتحريك جميع الأعضاء في القيام والركوع
والسجود ولا سيما التورك في التشهد الأخير والسجود على رءوس الأصابع،
وصلاة الجماعة مقتضية أفضل وسائل المساواة الاجتماعية بين الغني والفقير
والمأمور والأمير والرئيس والمرءوس بوقوفهم في صف واحد.
وقد نقل إلينا عن بعض علماء الإفرنج المستقلين الإعجاب بهذه الصلاة حتى
خصوم الإسلام منهم فقد قال الفليسوف رينان الفرنسي: إنني ما رأيت المسلمين في
مسجد يصلون جماعة إلا وتمنيت لو كنت مسلمًا أو قال: احتقرت نفسي لأنني غير
مسلم، ولما طعن في الإسلام في خطاب له في السربون ذكره الفليسوف المنصف
غوستاف لوبون بقوله هذا فاعترف به.
وقد افتتح الكونت (هنري دي كاستري) كتابه (الإسلام: خواطر وسوانح)
بمقدمة ذكر فيها ما رآه في سياحته في الشرق من صلاة المسلمين صلاة الجماعة
ووصف من إعجابه بها وتأثيرها في نفسه أنه احتقر نفسه تجاه جماعة من الفرسان
كان استخدمهم للسير في خدمته في صحاري حوران وكان يراهم في غاية الخضوع
والإجلال له وكانوا ثلاثين فارسًا من العرب يتقدمهم حَادٍ ينشدهم أناشيد أكثرها في
مدحه قال ما ترجمته بقلم المرحوم أحمد فتحي باشا زغلول:
(وبينما نحن سائرون على هذه الحالة؛ إذ سكت الشاعر والتفت قائلاً
بصوت خشن: سيدي الآن وقت العصر، هنالك ترجلت الفرسان واصطفوا لصلاة
العصر مع الجماعة، وصلاة الجماعة مفضلة عند الله في اعتقاد المسلمين كما هي
كذلك عند المسيحيين، أما أنا فقد ابتعدت عنهم، وكنت أود أن لو انشقت الأرض
فابتلعتني، وجعلت أشاهد البرانس العريضة تنثني وتنفرج بحركات المصلين
وأسمعهم يكررون بصوت مرتفع (الله أكبر، الله أكبر) فكان هذا الاسم الإلهي
يأخذ من ذهني مأخذًا لم يوجده فيه درس الموحدين، ومطالعة كتب المتكلمين،
وكنت أشعر بحرج لست أجد لفظًا يعبر عنه سببه الحياء والانفعال، أحس بأن
أولئك الفرسان الذين كانوا يتدانون أمامي قبل هذه اللحظة يشعرون في صلاتهم
بأنهم أرفع مني مقامًا وأعز نفسًا، ولو أني أطعت نفسي لصحت فيهم (أنا أيضًا
أعتقد بالله وأعرف الصلاة وكيف أعبد) فما أجمل منظر أولئك القوم في نظامهم
لصلاتهم بملابسهم وجيادهم بجانبهم أرسأنها على الأرض وهي هادئة كأنها خاشعة
للصلاة، تلك هي الخيل التي كان يحبها النبي صلى الله عليه وسلم حبًّا ذهب به
إلي أنه كان يمسح خياشيمها بطرف إزاره عملاً بوصية جبريل عليه السلام، وكنت
أرى نفسي وحيدًا في عرض هذه الصحراء على ما أنا به من اللباس العسكري
الضيق الذي يبرم فيه الجسم الإنساني بغير احتشام تلوح عَلَيَّ سمات عدم الإيمان
في مكان هو مسقط رأس الديانات كأنني من الحجر أو من الكلاب أمام أولئك القوم
الذين يكررون إلى ربهم صلوات خاشعة تصدر عن قلوب ملئت صدقًا وإيمانًا.
(وبينما أنا كذلك إذ جال بخاطري، ما رود في التوراة من أن الله يسكن
خيمة سام ويكثر من أولاد يافث، وقد كان الفريقان مجتمعين في ذلك المكان،
أولئك المصلون الذين هم من ولد سام معجبون بدينهم وعبادة ربهم ورب آبائهم الله
الذي دخل خيمة إبراهيم، وأنا ابن يافث الذي يمتد ذكره بالحرب والفتوح، ولما
انتهى بنا الطريق ورجعت إلى مكان راحتي جعلت أكتب ما علق بذهني من الأفكار
فأحسست أني منجذب بحلاوة الإسلام كأنها أول مرة شاهدت في الصحراء قومًا
يعبدون خالق الأكوان، وذكرت خيام النصارى لا متعبد فيها غير النساء وأخذني
الغضب من كفر أبناء المغرب وقلة إيمانهم) اهـ.
وقد رأيت جميع المصريين يسخرون من تقليد الترك الكماليين لصلاة
البروتستانت حتى ملاحدتهم وطلاب التجديد الذين يعبرون عنهم بالمصلين، ولم أر
أحدًا استحسن ذلك منهم إلا إبراهيم بك الهلباوي المحامي المشهور وود أن يتبعهم فيه
جميع المسلمين، وقال لي: إنه قد أفتى هو والأستاذ الشيخ عبد العزيز جاويش
خوجه كمال الدين الهندي الذي يدعو إلى الإسلام في إنكلترة بأن يقبل من نساء
الإنكليز المسلمات أن يتركن السجود على الأرض في صلاتهن؛ لأن زيهن المحزق
(الضيق) يضايقهن فيه فاكتفى منهم بما دون ذلك وسأسأل الأستاذ جاويش عن
حقيقة هذه المسألة.
***
٨- رأي كُتَّاب الغرب والشرق في الانقلاب التركي:
نحن نوافق صديقنا الرافعي في أن أعداء الإسلام من ساسة أوربة
كالمستعمرين والمبشرين يشايعون الترك الكماليين، ويحمدون عملهم ويسمونه
إصلاحًا ويرغبون فيه، ولا غرو فإننا نرى ملاحدة المسلمين وزنادقتهم يفعلون
وينوهون به في الصحف ويسمون مصطفى كمال باشا المصلح المجدد، فما بالك
بكُتَّاب النصارى من الملاحدة ومن المتعصبين لملتهم في الباطن، فهؤلاء أشد نصرًا
للكماليين ونشرًا لمفاسدهم وترغيبًا لسائر المسلمين في اتباعهم حتى في لبس
البرانيط.
وأما أحرار أوربة وفلاسفتها فقد سخروا ولا يزالون يسخرون من إكراه
مصطفى كمال باشا للترك على لبس البرنيطة، ومن محبي الترك أو دولتهم في
ألمانية من رثى لهم وحزن عليهم، وصرَّح بأن القلبق التركي يفوق البرنيطة
الإفرنجية جمالاً ومهابة.
وانتقدوا تقليدهم لأوربة في قوانينها بترجمتها لتنفيذها في الشعب التركي
المباين للشعوب الأوربية في تاريخه وتربيته وعقائده وتقاليده وأخلاقه وعاداته،
وهي الأسس التي تبنى عليها القوانين وتجب مراعاتها في وضعها، ولا يرون لها
فائدة بدون ذلك، ويسخرون ممن يظن أن القوانين تغير الشعب وتنشئه خلقًا جديدًا
سريعًا كما يحاول مصطفى كمال باشا.
وقد نشرنا من قبل ما قاله لورد كتشنر للسيد عبد الحميد الزهراوي في مصر
على مشهد ومسمع منا، ونشرناه في حال حياتهما ونقلته عن المنار إحدى الصحف
الأوربية متعجبة من حرية اللورد كتشنر أو مستنكرة لقوله، قال له: إن الغرض
من القوانين العدل وهي لا تفيد في الأمم إلا إذا كانت موافقة لأخلاقها وتقاليدها
وعندكم الشريعة الإسلامية شريعة عادلة وهي الموافقة لحال أمتكم فما بالكم تتركونها
وتحاولون العمل بقوانيننا التي لم تكن موافقة لحال أمتنا إلا بعد تنقيح عدة قرون.
***
٩- حقيقة حال الشعب التركي:
يزعم الترك الكماليون تبعًا لزعيمهم أن الشعب التركي شعب عظيم راق لم
تعد تصلح له شريعة عتيقة كالشريعة الإسلامية، ويتجرأ الوقحون المجاهرون
بالإلحاد منهم على ذم هذه الشريعة وذم الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي
جاء بها وذم قومه العرب في مقام الترفع عن صلاحيتها للشعب التركي العظيم،
وقد نقل إلي وأنا في الآستانة أن أحد باشاواتهم قال: لو أعلم أن شعرة في جسمي
تؤمن بهذا العربي (يعني خاتم النبيين وإمام المرسلين صلوات الله وسلامه عليه
وعلى آله) لقلعتها مع ما حولها من جلد ولحم وألقيتها.
أنا لا أعرض هنا للرد على هؤلاء المغرورين ببيان فضل الشريعة الإسلامية
على البشر عامة وعلى الترك خاصة، ولا بتحقير العرب بالمفاضلة بينهم وبين
الترك وذكر شهادة فلاسفة أوربة على ذلك، بل أقول كلمة حق وجيزة في حقيقة
حال الشعب التركي ربما أعود إلى بسطها في مقال آخر؛ إذ قد طال هذا المقال،
وربما صار مملولاً بضمه إلى ما قبله في موضوعه العام، وإن كان في الحقيقة عدة
مقالات مختلفة الموضوع.
الترك جيل حربي بالطبع، موصوف بعزة النفس، وشدة البأس، وحب
الغلب والسيادة، وهي صفات تعد أهلها لأن يكونوا من أرقى الشعوب لولا الموانع،
وقد كان همجيًّا في حروبه قاسيًا في معاملاته، مخربًا للعمران الذي يستولي عليه،
فهذَّبه الإسلام بقدر استعداده للتهذيب فكان له بالإسلام دولة عزيزة، ولكن الحرب
التي هي أقوى ملكاته لم تدع له وقتًا يصرفه إلى العلوم والفنون التي هي من لوازم
قوة الدولة وسعة سلطانها، وكان من أعظم أسباب حرمانه من الحضارة العلمية
الفنية أن لغته كانت لغة همجية ضيقة لا مجال للعلوم والفنون فيها، ولغرور الدولة
العثمانية بتركيتها لم تقتبس لغة الإسلام مع عقيدته وشريعته فتجعلها لغة الدولة
والعلم والفن بل حصرتها في المدارس الدينية والمشيخة الإسلامية بقدر الحاجة إليها
في فهم الشريعة على مذهب الحنفية التي اختارت تقليده.
وقد اقتبس الإفرنج من الحضارة الإسلامية علومها وفنونها بمخالطة العرب
في الأندلس وكذا في الشرق بسبب الحروب الصليبية ما لم يقتبس مثله الشعب
التركي لضعف استعداده وضيق لغته، فولدت الحضارة الأوربية الحاضرة مما
اقتبسه أهلها من المدنية العربية الغابرة كما اعترف بذلك المستقلون من فلاسفتهم
ومؤرخيهم، تلك المدنية العربية الزاهرة التي قضى عليها الترك بما مهَّد لهم بنو
عمهم التتار من التخريب والتدمير، فكانوا مصداقًا لقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيما يعد من دلائل نبوته: (اتركوا الترك ما تركوكم فإن أول من يسلب أمتي
ملكهم وما خولهم الله بنو قنطوراء) .
الترك هم الذين وقفوا حضارة العرب ومدنيتهم وحالوا دون استمرارها بل
أماتوها بسلب ملكهم ولم يستطيعوا هم أن يحلوا محلهم فيها ولا أن ينشئوا حضارة
جديدة، وإنما استطاع ذلك الإفرنج، فكانوا كلما تقدموا في العلوم والفنون إلى الأمام
يرجع الترك إلى الوراء، حتى فقدوا تفوقهم العسكري في أوربة بجهلهم للفنون
العسكرية والصناعات الحربية التي استحدثها الإفرنج وعجزوا عن مضاهاتهم فيها
وعن اقتباسها منهم بل صاروا عيالاً عليهم ولا يزالون يبتاعون منهم الأسلحة
والبوارج الحربية فالطيارات الحديثة إلى اليوم، ولولا تنازع دول أوربة الكبرى
على ممالكهم ولا سيما مركز القسطنطينية لزالت سلطنتهم منذ قرون أو قرنين،
على أنهم ما زالوا ينقصونها من أطرافها حتى زالت بالحرب العالمية الأخيرة ولم
يبق لهم منها إلا عقرها في الأناضول وبعض الرومللي.
إن هذا الشعب على جهله الذي أضاع منه أعظم سلطنة (إمبراطورية) في
قلب العالم تولى أمرها بضعة قرون ولم يستطع أن يستخرج شيئًا من كنوز أرضها
الثمينة، ولا أن يجني منها ثروة تُذْكَر، ولا أن يترك فيها أثرًا عمرانيًّا يحمد، لم
يفقد بهذا الخسران المبين والجهل الفاضح شيئًا من كبريائه وعنجهيته ودعوى
زعمائه أنه أرقى شعوب الأرض فلا يليق به الخضوع لأعدل الشرائع وأكمل
الأديان (الإسلام) ولا أن ينسب إلى الشرق المنحط؛ لأنه مساو لأعظم دول
الغرب، وإنما الواجب عليه أن يقلدها في أزيائها وسائر لبوسها وشر عادتها كإباحة
المسكر ورقص النساء والرجال وإباحة الكفر والفواحش، ثم في قوانينها حتى
الشخصية منها، بل زاد في عهد الكماليين كبرًا وخنزوانة بما أتيح له من الانتصار
على اليونان، وما اليونان؟ وما قيمة الانتصار عليهم؟ لولا ما أتيح له من وراء
ذلك وهو اعتراف أوربة في معاهدة لوزان باستقلاله المطلق فيما بَقِيَ له من بلاده،
وإنما كان سبب هذا الاعتراف تنازع دول الحلفاء في سياسة الشرق الأدنى بعد
الحرب، حتى إن إيطالية وفرنسة ساعدتا الترك على حرب اليونان، وقام الشعب
الإنكليزي ينكر على دولته التي كانت تساعد اليونان سياستها هذه لملله وسآمته من
رزايا الحرب ورغبته في الاستراحة من عقابيلها، فأسقط وزارة جورج لويد
المعادي للترك المساعد لليونان وأكره خلفه على خلاف سياسته هذه.
هذا ما غر هؤلاء الترك الكماليين فحملهم على هذه الدعاوي العريضة وعلى
ما قاموا به مما يسمونه ويسميه الملاحدة المتفرنجون منا بالإصلاح والتجديد، فأما ما
كان منها في الأزياء والعادات وإباحة الكفر والفسوق فكله إفساد للأرواح والأخلاق
والآداب التي لا يحيا شعب بدون حياتها وصلاحها، وأما ما كان منها في ترقية
الزراعة والصناعة والنظام العسكري فإننا نعترف بأنه إصلاح لا بد منه، والدين
الإسلامي يوجبه ويحث عليه.
وأما القوانين المنتزعة من دول أوربة فهي في جملتها مُفسدة للشعب التركي
غير مُصلحة ولا مُعينة على الإصلاح لما أشرنا إليه من آراء علمائها في سبب ذلك،
وتقليد الترك لأوربة في قوانينها قديم ليس من مبتكرات مصطفى كمال باشا، فهم
قد توجهوا إلى ذلك من عهد السلطان محمود الذي ولي السلطنة سنة ١٢٢٢ وبدءوا
بالتنظيم العسكري والزي الأوربي ما عدا البرنيطة، ثم جددوا ذلك بإعلان
التنظيمات الخيرية في أول عهد السلطان عبد المجيد الذي ولي سنة ١٢٥٥ مما
قامت ثورة المتفرنجين في آخر مدة السلطان عبد العزيز الذي استعصى عليهم
بشجاعته وقوة إرادته ... ثم أعلنوا القانون الأساسي عقب تولية السلطان عبد الحميد
سنة ١٢٩٣ أي منذ نصف قرن، وهو على توقيفه له قد نشر باسمه عدة قوانين
مقتبسة من قوانين أوربة (كما انتشرت المدارس الأوربية للمبشرين بالنصرانية
الأميرية المتفرنجة) ولم تزدد العدالة بتلك القوانين والمدارس إلا ضعفًا ومرضًا،
وما ذلك إلا لأنها تقليد صوري لأوربة سببه توهم المغرورين من الترك أنهم
يساوونها به وإن لم يكن أكثره موافقًا لحال شعبهم، على أنهم لم ينفذوا شيئًا منه كما
يجب، كما أنهم لم ينفذوا الشريعة، بل كان مدار أحكامهم ومحاكمهم على الرشوة
التي تحاول حكومتهم استئصالها؟ وأول ما فعلته في ذلك محاكمة وزير بحريتها
السابق وبعض كبراء رجالها على رشوة عظيمة في وزارة البحرية.
وجملة القول أن الترك قد دخلوا الآن في فتنة تجربة جديدة واسعة النطاق
شديدة الخطر يظن زعماؤهم من القواد الحربيين أنها منهم على طرف التمام؛ لأن
العقيدة الغريزية فيهم أن القوة العسكرية تعمل كل شيء، فلننتظر عاقبة هذه
التجربة بعد فشلهم في جميع التجارب الماضية، فإنما العلم بها عند الله تعالى وإنما
نعرف نحن بعض أسباب الأمل والفشل.
فأما أسباب الأمل فهي محصورة في قوة إرادة الزعماء مع ضعف الشعب،
وفي كثرة أعوانهم المتفقين معهم على خطتهم كما تقدم، وفي تمكنهم من إبعاد القواد
والضباط ورجال الإدارة والقضاء المخالفين لها عن المعسكرات ودواوين الحكومة
بالقوة القاهرة، وفي بناء كثير من أعمالهم العسكرية والاقتصادية على قواعد الفنون
العصرية.
***
وأما أسباب الفشل فالمعروف عندنا منها:
(١) أن السواد الأعظم من الشعب الذي يدين الله تعالى بالإسلام تقليدًا
ووجدانًا لا يقبل الجدال ساخط على هذه الحكومة لشعوره بأنها تهدم دينه الذي هو
مناط أمله في سعادة الآخرة، وكذا الدنيا، فإن ما ناله من الملك والعظمة لم يكن إلا
بالإسلام.
(٢) ما أصيب به الشعب من الفقر والعوز وعجزه عن أداء ضرائب
الحكومة الكثيرة التي زادت سخطه عليها.
(٣) عجز الحكومة عن القيام بما تصدت له من الأعمال النافعة المنتجة
كسكك الحديد وغيرها بكثرة نفقاتها على التأسيسات العسكرية ومظاهر العظمة
المدنية على ما ذكرنا من فقر شعبها وإرهاقها إياه بما فوق طاقته، وإحتكارها لأهم
ينابيع ثروته.
(٤) تربص كثير من كبار رجال العسكرية والإدارة بها الدوائر لإسقاطها
وإرضاء الشعب بحكومة ترضيه في دينه ودنياه.
(٥) غرور زعماء هذه الحكومة بقوتهم واستعجالهم في هدم دين هذا
الشعب العظيم وتقاليده ومجد سلفه، وقد يكون مع المستعجل الزلل.