كتب كثير من أصحاب الجرائد العربية وغيرهم مقالات في تأبين الشريف حسين ونظمت قصائد متعددة في رثائه، وأقيمت حفلات في الأمصار العربية لتأبينه فمنهم من أطرى ومن انتقد ومن حاولوا الجواب عما ينتقد، ويقل فيمن كتب وأبّن من تحرى الحقيقة لذاتها أو من هو واقف عليها، ومن الظاهر البين أن من المؤبِّنين والراثين من كان غرضه الازدلاف إلى أنجاله أصحاب الجلالة والسمو. ومن العجيب أن بعض الأفراد - قيل: والجماعات - قد اقترحوا نصب تمثال له فتهكَّم الكاتب الإسلامي محب الدين أفندي الخطيب بهم؛ إذ اقترح عليهم أن ينصبوا ذلك التمثال تجاه الزاوية التي كان يصلي فيها الجمعة من الحرم المكي الشريف، أي فيكون من مناقبه إعادة التماثيل التي أزالها جده النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم من بيت الله الحرام، والتي قال فيها جده أمير المؤمنين علي عليه السلام لعامله أبي الهياج: أبعثك على ما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالاً إلا طمستَه، ولا قبرًا مشرفًا إلا سوَّيتَه. وقال بعض الذين طرقوا باب المباحث التاريخية في سيرته: إنه قد نهض بدعوته وأشعل نار ثورته توسلاً إلى استقلال أمته، وتأسيس سلطنة (إمبراطورية) لها لا لنفسه، فخدعه الإنكليز ونكثوا عهده كما خدعوا مَن هو أجدر منه بمعرفة كيدهم وخداعهم وهو الدكتور ولسن رئيس جمهورية الولايات المتحدة. وإنه لم يجد من ينصح له ويبين له ما يجب من الاحتياط في ذلك، وقال بعضهم إنه إنما أراد إنقاذ الحجاز من غائلة الحرب ومجاعتها ولم يُرد إسقاط الدولة العثمانية التي كانت هي السياج الأخير للحكم الإسلامي. وصرح بعضهم بأن المنقبة الوحيدة له في سياسته سلبية، وهي امتناعه من إمضاء الاتفاق الأخير الذي حمله إليه من لندن وكيله ونائبه في ذلك الدكتور ناجي الأصيل، ومن مواده اعترافه بالانتداب الذي يتضمن إنشاء الوطن القومي لليهود في فلسطين، وزاد امتناعه قبل ذلك من إلحاق منطقة العقبة ومعان بحكومة نجله الأمير عبد الله في شرق الأردن؛ إذ طلبه منه الإنكليز لعلمه بأنها حينئذ تكون إنكليزية يتصرف الإنكليز بها كما يشاؤون فيكون أول مسلم خان الله ورسوله في أرض الحجاز المحرمة بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته على غير المسلمين، ولكن ما امتنع منه وعُدَّ هو المنقبة الصحيحة له قد فعله أبناؤه في حياته. وزعم بعضهم أنه بامتناعه ما ذكر قد ضحى ملكه وسلطانه على الحجاز أو حرم نفسه من امتداد ملكه إلى آخر حدود جزيرة العرب بمساعدة الإنكليز والصحيح أنه ما كان يتصور زوال ملكه بذلك، ولا الإنكليز يفضلون امتداد ملك ابن سعود إلى البحر الأحمر فيقال: إنهم ساعدوه على ذلك. وإننا لم نجد أحدًا من الكتاب ولا من الخطباء احتج على شيء من أقواله بمستند رسمي مما نشره الملك حسين في جريدته القبلة التي كان كل ما يكتب فيها إما بقلمه وإما بإملائه أو إقراره. وقد نقلت من هذه الوثائق الرسمية في المنار ما هو حجة على أكثر هؤلاء الذين يقولون بغير علم، ومنهم من يقول بلسانه ويكتب بقلمه خلاف ما يعتقد ويعلم باختباره. ذهبت إلى الحجاز في أثناء ثورته في أول مدة الحرب الكبرى، وتكلمت معه في هذه الشؤون سرًّا وجهرًا، وارتجلت في حفلة تهنئته بالعيد الأكبر في مِنى خطبة بينت فيها الأسباب الظاهرة لثورته العربية، وأقصى ما يمكن أن يحتج به لجوازها من حال الدولة العثمانية، وما ينبغي أن يقصد بها وما تنتهي إليه، فوافقني هو على ما قلته، وصرح في ذلك المحفل الحافل بأنه لم يَرَ أحدًا وافق رأيه رأيه من كل وجه بلا تواطؤ ولا سبق حديث إلا هذا الخطيب، وأمر أن أكتب الخطبة لتُنشر في جريدة القبلة فكتبتها فأمر بنشرها والتعليق عليها بما قاله في المحفل. والظاهر أن موافقته كانت في الباطن كالظاهر والراجح عندي أنه اقتنع بما قلته لا أن ذلك كان رأيه من قبل، وكان يعتقد يومئذ أنني مخلص في نصحي له وكذلك كنت وهو دأبي وخلقي، ولكن جواسيس الإنكليز أرجعوه عن ذلك الرأي الذي كان اقتنع به، وقد صرح لي برجوعه عنه مدير مكتبهم العربي في مصر (كورنواليس) مستشار الداخلية لحكومة العراق الآن، وكذلك غيَّر قلبه عليَّ أحد حاشيته من صنائعهم الذي كان يحلف لي قولاً وكتابةً بأن مكانتي من قلبه فوق كل مكانة، بل أحفظ منه كتابًا بخطه أقسم فيه أنه لو اجتمع الخلائق كلهم صفًّا صفًّا.. وقالوا قولاً وقلت غيره (لجعلت مقالهم دبر أذني ووراء ظهري) فكان هو سبب منعه المنار من الحجاز و (من الممالك الهاشمية) كما جاء في بلاغ المنع الرسمي من جريدة القبلة! وكان هذا المنع خيرًا لي كما بينته في المنار. أنا لم أكن أعرف الشريف حسينًا قبل الحرب معرفة شخصية وإنما عرفت في الآستانة نجله الشريف عبد الله معدن الظرف واللطف والتواضع والأدب، وكنا نشتغل في ذلك الوقت بتكوين الجامعة العربية فرأيت منه ميلاً إليها ورغبةً في تأييدها، وتعارفنا وتواعدنا على ذلك وعقدنا رابطة المودة. ثم كان بيني وبينه في مصر ما ذكرته مختصرًا في الجزء الماضي وقد بلغ والده ذلك، ومنه ما ذكرته له في الآستانة من شدة استيائي مما كان يكتبه عبيد الله أفندي عدو العرب المشهور من الطعن في والده فكان هذا هو السبب الأول لثقته بإخلاصي في نصحه. وقد أكده سبب آخر وهو ما بلغه إياه المرحوم محمد شريف الفاروقي معتمده في مصر من الثناء والتعاون معه على كل ما فيه نجاح النهضة العربية، وقد كان هذا الرجل جامعًا بين الذكاء والإخلاص في خدمته، ولولا أنه بلغ الإنكليز رسميًّا بأنه يطلبني لمقابلته في مكة المكرمة لما سمحوا لي بالذهاب ولو بقصد الحج، على أن الجنرال كليتون حاول إقناعي بأن لا أذهب إلى الحجاز ووعدني وعودًا عظيمة إن بقيت في مصر منها إعادة مساعدة وزارة الأوقاف لمدرسة الدعوة والإرشاد! ! لأنه ظن أنني أريد أن أبقى عند الشريف في مكة وكان يعتقد أنني إذا كنت بجانبه لا يستطيعون أن يسيِّروه كما يريدون. وجملة القول أنني جئت مكة مزودًا بثقة لا مجال للظنة فيها، فأجلَّني وأكرم مثواي، وكاشفني بما يبعد أن يكون كاشف به غيري، وهو مَن عرف جميع رجاله وأولاده شدة كتمانه وعدم ثقته بالناس، حتى أنه صرح لي بأنه إنما يخاطب معتمده في مصر بالبرقيات الرمزية (الشفرة) لئلا يعلم موظفو ديوانه بما يخاطبه به لا للتعمية على الإنكليز بمصر فهو لا يرى مانعًا من علمهم بكل ما يخاطبه به. (للترجمة بقية)