دروس سنن الكائنات محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي
(٢) (المطر) {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} (الروم: ٤٨) . المطر يتولد من تصاعد بخار مياه البحار وغيرها، والعمدة في تبخيرها حرارة الشمس. والفرق بين الغليان وبين هذا التبخر التدرجي هو أن التبخر يحصل من سطح السائل فقط، وفي حالة الغليان ينبعث البخار من جميع أجزاء الماء. أما الحرارة اللازمة للتبخر في الحالتين فكميتها واحدة. وتتولد الحرارة أيضًا في مياه البخار من احتكاك بعض ذراتها ببعض ومن احتكاك الهواء بسطح البحر. وعمل الريح ضروري جدًّا لتولد السحاب من البحر، ذلك: (١) أنه باحتكاكه بسطح البحر يولد حرارة تساعد على التبخر. (٢) وأنه يحمل معه كثيرًا من ذرات الماء بمجرد هبوبه عليه حملاً آليًّا (ميكانيكيًّا) . (٣) وأنه يسوق الهواء الذي شبع بالماء ويرفعه إلى السماء ليحل محله هواء آخر خالٍ من الماء، وبذلك يزداد تبخر البحر، ولولا ذلك لوقفت حركة التبخر لامتلاء الهواء الذي على سطح البحار بالماء. لذلك قال الله تعالى:] اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا [أي تهيجه وتحركه وترفعه عن سطح البحار كما ترفع التراب عن الأرض. والماء يوجد في الهواء بصور مختلفة أشهرها الطل والضباب والبَرَد والصقيع والمطر. ففي حالة البَرَد والصقيع يكون الماء متجمدًا، وفي حالة الضباب والطل والمطر يكون سائلاً، والفرق بين هذه الأحوال إنما هو في درجة الحرارة فقط. وإذا اجتمعت ذرات الضباب بعضها ببعض سقطت إلى الأرض بصورة طل أو مطر وإذا اجتمعت ذرات البرد بعضها ببعض سقطت إلى الأرض بصورة قطع صغيرة من الثلج تسمى الصقيع. وعليه فلا فرق بين أنواع السحاب سواء أكانت قريبة من سطح الأرض أم بعيدة عنه، فهي على كل حال عبارة عن ذرّات صغيرة جدًّا من الماء السائل أو المتجمد. وفي أثناء سقوط المطر يختلط بالهواء فيذوب فيه بالنسبة التي سبق بيانها، وكذلك يختلط بكل ما يوجد في الهواء من تراب أو أي غبار آخر أو جراثيم مَرَضية أو غير مرضية ... إلخ. ولذلك يتلون المطر في بعض البلاد بألوان مختلفة كالأسود والأحمر بحسب ما يختلط به. فماء المطر وإن كان أنقي ماء في الكون إلا أنه ليس أنقى من الماء المقطر الذي نحصل عليه صناعيًّا. ومن هذه الأجزاء الذائبة في ماء المطر ما هو نافع للحيوانات والنباتات، فإن الهواء الذائب في الماء ضروري للحيوانات البحرية ونافع للحيوانات البرية كالإنسان. فإنه يجعل الماء خفيفًا على معدته، بخلاف ما إذا كان خاليًا من الهواء، وكذلك توجد بعض مواد ذائبة في ماء المطر كانت سابحة في الهواء، فإذا سقطت إلى الأرض نفعت النباتات فتغذت منها، ولا تمتص النباتات شيئًا من الأرض ما لم يذب في الماء. ومن الأشياء المختلطة بالمطر ما هو ضار كالجراثيم المَرَضِيَّةِ. *** الأنهار والعيون إذا نزل المطر إلى الأرض سالت منه أودية على سطحها تسمى بالأنهار وامتصت الأرض جزءًا آخر منه يسيل في جوفها كالأنهار؛ وهو في الحقيقة أنهار باطنية، وجميع هذه الأنهار الظاهرة والباطنة تتجه شطر البحار ونحوها. ومن هذه الأنهار الباطنية تتفجر الينابيع ويستخرج ماء الآبار. فجميع الماء العذب الذي يشربه الحيوان سواء أكان أصله من الأنهار أم من الآبار أو الينابيع هو كله من ماء المطر. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ} (الزمر: ٢١) الآية. وإذا امتصت الأرض الماء أو سال على ظهرها اختلط بجميع ما يوجد فيها من الأملاح وغيرها، ومن ذلك نشأ الاختلاف بين أنواع المياه لاختلاف تربتها، فمنها العذب الفرات ومنها الملح الأجاج، وإن كانت في الأصل كلها عذبة. أما سبب انفجار الينابيع [١] الطبيعية فهو اختلاف في مستويات طبقات الأرض المتنوعة، فإذا كنا في بقعة من الأرض منخفضة عن باقي سطحها سهل انفجار الينابيع فيها بنفسها أو بمساعدتنا، فإن من السنن الإلهية أن السوائل تميل إلى الموازنة فلذا يصعد ماء الينبوع المتفجر حتى يساوي ماء النهر الباطن الذي صدر منه. والآبار نوعان: آبار قريبة وآبار عميقة؛ فالآبار القريبة هي التي يأتيها الماء من الطبقة الإسفنجية [٢] الأولى وهي عرضة لأن تتلوث بالمياه القذرة التي على سطح الأرض أو بالمياه القريبة من هذه الآبار كالمراحيض. والآبار العميقة هي التي يأتي إليها الماء بثقب طبقة الأرض البعيدة حتى تصل إلى الطبقة الإسفنجية الثانية، وقد يرتفع الماء بنفسه في هذه الآبار بنوعيها إذا كان مصدره عاليًا وقد نحتاج إلى الآلات لجذبه إلينا. والنوع الثاني من الآبار أبعد عن التلوث من النوع الأول ويسمى بالآبار الأرتوازية نسبة إلى إقليم أرتواز (Artois) بشمال فرنسا حيث حفرت أول بئر سنة ١١٢٦. ولأجل صيانة الآبار عن التلوث يجب أن تراعى الشروط الآتية في حفرها: الشرط الأول: أن تكون بعيدة عن جميع المنازل المسكونة بنحو ٣٠ مترًا على الأقل. الثاني: أن لا تكون في الجهة البحرية للمنازل في بلاد مصر؛ لأن المياه الباطنية في مصر تنحدر كمياه النيل من الجهة القبلية إلى الجهة البحرية وعلى ذلك تكون الآبار المحفورة في الجهة البحرية في طريق المياه الملوثة من المنازل. الثالث: أن تكون حيطان (جدران) هذه الآبار صقيلة، وأن تكون الآبار دائمًا مغطاة. ولسهولة الحصول على مياه صحية نقية توجد طريقة أخرى سهلة وهي استعمال الطلمبات الحبشية لنرتون (Norton) وهي مؤلفة من أنابيب معدنية تدق في الأرض إلى بعد عميق جدًّا وتكون الأولى منها ذات طرف دقيق (مدبب) كالمسمار وجميع جوانبها مخرقة إلى بعد نحو قدمين، وفي نهاية هذه الأنابيب من الجهة العليا يركب عليها طلمبة لجذب الماء. والمياه التي تخرج بهذه الطلمبة نقية جدًّا؛ لأنها صادرة من أعماق الأرض البعيدة ولا تتلوث بشيء مما على سطح الأرض أو في داخلها. والأشياء التي توجد في المياه هي كما سبق نوعان: أشياء معلقة، وأشياء ذائبة، أما الأشياء المعلقة فهي توجد في مياه الأنهار بكثرة عظيمة. وأما مياه الآبار فإنها تكاد تكون خالية إلا من الأشياء الذائبة؛ لأنها تصفّى من خلال طبقات الأرض. فالمياه الباطنية إذًا أقل ضررًا للصحة من مياه الأنهار الظاهرة كما لا يخفى، وللحصول على ماء نظيف من مياه الأنهار الظاهرة يجب إما غليها أو تقطيرها أو تصفيتها بالآلات المسماة بالنواضح (المرشحات) وقد يستعمل (الشب) لتنقية الماء وهو لا ضرر فيه والسبب في فعله هذا أنه يتحد مع بعض أملاح الماء مثل: (بيكربونات الجير) فيتكون ما يسمى هيدرات الألومنيوم [٣] وهي مادة غروية تريب إلى أسفل الإناء فتحمل معها كل ما كان معلقاً في الماء تقريبًا وبذلك يتنقى. ويوضع الشب في الماء بنسبة جرام إلى كل ١٤ لترًا من الماء تقريبًا. أما تنقيته بنوى المشمش المُرّ فهي ضارة؛ لأنه قد يتولد منه حامض الهيدروسينيك وخصوصًا إذا كان مقداره عظيمًا وتُرك مدة طويلة، وهذا الحامض هو سم زعاف سريع التأثير جدًّا. وعيب الماء المغلي أنه يشتمل على المواد المعلقة ويكون خاليًا من الهواء وعيب الماء المقطر أنه يكون خاليًا من جميع الأملاح التى كانت في الماء فيكون قليل التغذية للجسم، فإن هذه الأملاح ضرورية للحياة. وعيب الماء المنقى بالشب أنه لا يكون نقيًّا للغاية المطلوبة، وإذا زاد مقدار الشب أفسد طعم الماء، وأحدث عند متعاطيه إمساكًا شديدًا. أما الماء المصفى بالنواضح فهو خير المياه؛ لأنه يكون مشتملاً على الهواء والأملاح اللازمة للجسم ونظيفًا من كل ما يضر تقريبًا. وأنواع النواضح كثيرة فمنها الخابية (الزير) ومنها ما يكون مصنوعًا من الفخار أو الفحم (وهو أردؤها) وقد يستعمل الرمل لتنقية الماء بالنضح أيضًا. والنواضح عبارة عن أنبوبة من الفخار جوفاء يمر في مسامها الماء من ظاهرها إلى جوفها الفارغ، والدافع للماء على هذا المرور هو الضغط عليه. وفي البلاد التي فيها الشركات المائية يندفع الماء بسبب ارتفاع الخزانات التي تضعها هذه الشركات دائمًا في مكان أعلى من المدينة. ويجب تنظيف هذه النواضح كل ثلاثة أيام بغسلها جيداً بالماء والصابون مع شيء خشن كالمسفرة (الفرشة) أو الليف ثم تغلى في الماء لمدة عشر دقائق على الأقل لقتل جميع الجراثيم الساكنة فيها. وأسهل طريقة لتنظيف الخوابي (الأزيار) هي غسلها أولاً بالماء المغلي من الداخل والخارج غسلاً جيدًا، ثم طرحها في الشمس مدة طويلة حتى تجف تمامًا وبذلك يمكن أن تموت جل أو كل ميكروباتها الضارة. أما مرور الماء أو خزنه في أنابيب أو خزانات من الرصاص ففيه ضرر، وهذا الضرر يختلف باختلاف أنواع المياه والمواد الذائبة فيها: فأملاح الكلوريد والنترات تساعد على إذابة شيء من الرصاص في الماء وكذلك الهواء والأحماض؛ فإذا اشتمل الماء على شيء من هذه الأشياء المذكورة - وهو قَل أن يخلو منها - ذاب من الرصاص ما يكفي لإفساد صحة الإنسان. أما الأملاح الأخرى الآتية - وهي السلفات والفسفات والكربونات - فإنها تعوق ذوبان الرصاص في الماء ولذلك قلنا: إن ضرر الرصاص يختلف باختلاف الأشياء الذائبة في الماء. وإذا استمر الإنسان على تعاطي الماء الملوث بالرصاص أدى إلى أعراض مَرَضية كثيرة منها: الضعف، والصغار، والمغص الشديد، وزرقة تشاهد في اللثة، ومرض في الكُلَى. وضعف واضطراب في أعضاء التناسل، وشلل في بعض أعضاء الجسم فيحصل في اليدين ارتخاء يسمى عند الأطباء (الرسغ الساقط) . ولتوقي هذا المضار يجب أن يوضع الماء في خزانات من الحجر أو الحديد ونحوهما وأن تكون المواسير مصنوعة من مثل الحديد المصبوب (الزهر) أو الفخار. (يتبع) ((يتبع بمقال تالٍ)) ... ... ... ... ... ...