للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

حقيقة الجن والشياطين
(س ٨٧) من أحد فضلاء القراء في (تونس) :
من رجال العلم والتقوى في بلادنا العلامة المقدس الشيخ محمد بن علي قويسم
المتوفى سنة ١١١٤ وله فضائل مأثورة وتآليف مشهورة أحسنها وأكملها الكتاب
المسمى (سمط اللآل في معرفة الرجال) في أحد عشر جزءًا في القالب النصفي
الكبير ترجم فيه لنخبة أهل الإسلام , وخصوصًا لرجال الشفا للقاضي عياض , وقد
جاء فيه بالجزء الرابع عند تعرضه للكلام على الجن والشياطين ما يستفاد منه
اختلاف علماء الإسلام في ماهية هاته العناصر التي نسمع بها ولا نراها , فمن قائل:
إنها أجسام هوائية قابلة للتشكل , ومن قائل: إنها أجسام غير متحيزة ولا حالَّة في
متحيز , ومن قائل: إن الشيطان هو عبارة عن القوة الغضبية التي في الإنسان.
وإلى هذا الرأي ذهب جماعة من الفضلاء منهم حجة الإسلام الغزالي , وقد نقل
الشيخ قويسم المذكور آنفًا في جملة أخذه ورده في هذا الموضوع حديثًا عزاه للنصير
الطوسي نقله في شرح كتاب الإشارات هذه عبارته: (ما من مولود ولد في بني
آدم إلا ولد معه قرينه من الشيطان) فهل لكم معرفة بصحة هذا الحديث؟ وعلى
تقدير صحته نطلب الإفادة بتأويله لأنه إذا أخذ على ظاهر عبارته يبقى الفكر معه
متحيرًا؛ إذ تعلمون أن علماء الإحصاء يقدرون سكان المعمورة بألف وخمسمائة
مليون من الأنفس , فإذا كان لكل واحد منهم قرين من الشياطين؛ فلا مشاحة في أن
إحصاء الجغرافيين كاذب لأنهم أغفلوا منه النصف , ثم إنه على فرض صحة وجود
شيطان لكل إنسان فهل إذا مات الإنسان تبعه شيطانه للقبر , أو بقي عالة على
إخوانه الشياطين؟ وفي هذه الحال يمكن الجزم بأن أكثر بلاد الله شياطينًا في هذا
اليوم هي بلاد الشرق الأقصى حيث نيران الحرب محتدمة بين الروسيا واليابان
لأنه في كل يوم تزهق أرواح الألوف من البشر , ولم نسمع بموت شيطان واحد من
الشياطين المولودة مع العساكر التي اقتطفتها يد الفناء من شجرة الشباب - أفيدونا
يما عندكم من العلم عن ماهية الشياطين , وخصوصًا عن القول الذي توفق لفهمه
الإمام الغزالي ولكم الشكر سابقًا ولاحقًا اهـ.
(ج) الجن والجان والجنة بالكسر مأخوذة من مادة ج ن ن , وهذه المادة
تدل على الستر والخفاء. قال في القاموس: (وكل ما ستر عنك فقد جُنّ عنك)
بضم الجيم , ويقال أيضًا: أجن عنه واستجن , ومنه الجنين: الولد مادام في البطن.
وأطلق لفظ الجان على ضرب من الحيات قالوا: هي الحية البيضاء إلى صفرة
التي توجد في الدور. والشيطان في اللغة كل عاتٍ متمرد حتى من الدواب
والشاطن: الخبيث. والشيطان: الحية الخبيثة، قال جرير:
أيام يدعونني الشيطان من غزل ... وهن يهوينني إذ كنت شيطانا
وقال الراغب: كل قوة ذميمة للإنسان شيطان. أقول: ومنه قولهم: ركب
شيطانه: إذا غضب , ونزع شيطانه أي كبره. ومادة شطن تدل على البعد والإيغال
في الشيء , ومنها شطن البئر وهو الحبل الذي يُسقى به. وبئر شطون بعيدة القعر ,
وشطن في الأرض شطونًا دخل إما راسخا وإما واغلا، وتدل على المخالفة
والمواربة، يقال: شطن صاحبته: إذا خالفه عن نيته ووجهه , وكذلك يفعل
العتاة الخبث.
وقيل: إن الشيطان مشتق من شاط يشيط أي احترق غضبًا، فهذه اللغة تدل
على أن اللفظين (جن وشيطان) وضعا لأشياء معروفة. وكانت العرب تعتقد
كسائر الأمم أن في الكون عالمًا خفيًّا عاقلاً سموه الجن، وقالوا: إن منه الخيار
الصالحين والشرار الشياطين , وجاء الوحي يخاطبهم بما يعتقدون في الجملة لا في
التفصيل.
قال تعالى في سورة الأنعام: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواًّ شَيَاطِينَ الإِنسِ
وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورا} (الأنعام: ١١٢) . وقد
ورد لفظ الشيطان والشياطين كثيرًا في القرآن , ومنه ما فسروه بالأِشرار الخبثاء
كقوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} (البقرة: ١٤) وكانوا
يعتقدون أن من هذا العالم ما يلابس النفوس فيلقي فيها الخواطر , ومنه الهاجس
الذي يلقن الشعراء الشعر.
إن هذا الاعتقاد قديم في البشر لا يُعرف تاريخه , وفي أناجيل النصارى أن
الشياطين كانت تدخل في الناس فتؤذيهم , وأن المسيح عليه السلام كان يخرجها
منهم , وكانت اليونان تعد الجن والشياطين من عالم الأرواح , وكذلك الروم
(الرومانيون) وجعلوهم على ثلاث طبقات: طبقة الآلهة ورئيسهم الخالق الأكبر ,
وطبقة توابع الأمم والشعوب والمماليك والبلاد , وكان لجني رومية تمثال من الذهب,
والطبقة الثالثة توابع الأشخاص. وكان الهنود القدماء يقسمونهم إلى جن أخيار
وجن أشرار. ولبقية الأمم والشعوب عقائد متقاربة فيهم. وكان الناس يأخذون كل
ما يسمعونه من ذلك بالتسليم إلا بعض الفلاسفة الذين حكَّموا الدليل والتعليل في ذلك,
فأنكر بعضهم الجن , وبعضهم سلم بأن الجن من العالم الروحاني أو الهوائي حتى
إذا ما انتشرت العلوم المادية في أوربا صار يضعف هذا الاعتقاد في الناس
المشتغلين بهذه العلوم والمقلدين لهم والمتأثرين بحالهم. على أن أخبار رؤية الجن
أو سماع أصواتهم والإحساس بهم كثيرة في كل أمة , ولكن أكثرها باطل وزور ,
وبعضها صحيح رواية , ولكن لا يعسر على المنكر أن يحمله على ضروب من
التأويل ترجع في الغالب إلى أن الوهم يُري صاحبه التخيل حقيقة محسوسة , ولا
يزال الكثيرون من علماء أوربا وعقلائها يعتقدون بالجن وعلاقتهم بالإنس. وقد
حدثني واحد من كبار عمال الحكومة منهم هنا بأن رجلاً كان يستحضر الشياطين
في لوندره , وقد حضر مجلسه هناك بعض الكبراء والعلماء فأحضر لهم شيطانًا
سمعوا كلامه , ولكن لم يفهموه فقالوا له: ما هذه اللغة التي ينطق بها؟ قال: إنها
الأفغانية.
أما إنكار شيء ونفيه لعدم الإحساس به فمما يمنعه العقل , ولو أنكرنا كل ما
لم نطِّلع عليه وندركه بالحواس لما توجهت نفوسنا إلى اكتشاف هذه المجهولات
الكثيرة كالكهربائية وغيرها مما نرى آثاره أعجب مما يعزى إلى الجن. والقاعدة
العقلية أن عدم وجدان الشيء لا يقتضي عدم وجوده , فتكذيب جميع أصناف البشر
في الاعتقاد بوجود عالم خفي لا تظهر آثاره إلا نادرًا لبعض الناس بناءً على أن
المكذب لم يدرك ذلك بحواسه غير سديد , ويعجبني قول الدكتور فانديك في كلامه
على الحواس الخمس: لو كانت لنا حواس أخرى فوق الخمس التي لنا لربما
توصلنا بها إلى معرفة أشياء كثيرة لا نقدر على إدراكها بالحواس الخمس التي
نملكها , ولو كانت حواسنا الموجودة أحدَّ مما هي لربما أفادتنا أكثر مما تفيدنا وهي
على حالتها الحاضرة. ومما ذكره من الأمثلة لهذا قوله: ولو كان سمعنا أحدَّ لربما
سمعنا أصواتًا تأتينا من عالم غير العالم الذي نحن فيه إلخ. ولم يقل هذا وحده بل
قاله غيره , ويقوله كل عاقل , وقد أعجبنا منه أنه جعله في المسألة الأولى من
الجزء الأول من كتابه (النقش في الحجر) الذي ألفه للمبتدئين. فإن قيل: نسلم
أن العاقل لا ينكر وجود شيء لعدم علمه أو إحساسه به , ولكنه أيضًا لا يثبته بغير
دليل , وما يذكر من أخبار الجن عند جميع الأمم لم يقم عليه دليل , بل يجزم العقل
في بعضه أنه كذب وزور؛ نقول: هذا قول حق , والدليل منه عقلي , ومنه حسي,
ومنه الخبر الصادق الذي عرفنا به تاريخ الأولين والآخرين , وما في العالم من
الأمور التي شاهدها غيرنا وأخبر فصدقنا , وإن علم أكثر الناس بالخبر أكثر من
علمهم بالاختبار. فإذا كان أكثر ما ينقل عن الناس من أخبار الجن ظاهر البطلان
فإن بعضه ليس كذلك , وعندنا الخبر اليقين فيه , وهو خبر الوحي الذي دلت
الآيات البينات على صدق من جاء به وهو لم يخبر بشيء محال في نظر العقل أو
مجريات العلم وأعني بالوحي هنا القرآن , وأما أخبار الأناجيل في إخراج الشياطين
من الناس فإنه ليس لها سند متصل وإنما وجدت بعد المسيح بزمن طويل , وهي
منقطعة الإسناد إليه , وإن اشتهرت بعد ذلك. وكذلك الأحاديث النبوية عند من
صحت عنده فصدق الرواية. وجملة ما في القرآن أن في الكون عالمًا عاقلاً خفيًّا
يقال له الجن , وأن منه المؤمن والكافر والصالح والقاسط , وأنه يرى الناس ولا
يرونه , وأن شياطين الجن مثارات للوساوس الضارة التي تسول للإنسان الشر
وتزين له الشهوات القبيحة , ولم يرد فيه شيء ينبئ بعدد الجن ولا بحقيقتهم ,
وقوله تعالى: {وَخَلَقَ الجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} (الرحمن: ١٥) لا يدل على
الحقيقة كما أن خلق الإنسان من تراب ومن حمأ مسنون لا يدل على حقيقته.
ويحتمل أن يكون ذلك على حد قوله تعالى: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَل} (الأنبياء:
٣٧) . وإذا كان هذا العالم لا يُرى فلا يرد علينا إهمال الإحصائيين له , ولا
سكوتهم عمن يموت ويولد من أفراده.
أما حديث القرين فقد أخرجه أحمد ومسلم عن ابن مسعود بلفظ: (ما منكم
أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة) قالوا: وإياك يا رسول
الله؟ قال: (وإياي، إلا أن الله أعانني فأسلم) . ومسلم من حديث عائشة بلفظ: (ما
منكم أحد إلا ومعه شيطان) قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: (وأنا، إلا أن الله
أعانني عليه فأسلم) ضبط الجمهور (فأسلم) بالفتح على أنه فعل ماضٍ من الإسلام ,
وقيل: هو مضارع للمتكلم من السلامة أي فأسلم من وسوسته. ورواه الطبراني من
حديث المغيرة وابن حبان والبغوي وابن قانع والطبراني عن شريك بن طارق ,
وليس له غيره نحو حديث عائشة , ولم أجد أحدًا من المحدثين رواه باللفظ الذي نقله
صاحب سمط اللآل عن شرح الإشارات , وفي حديث ابن مسعود عند الترمذي
والنسائي وابن حبان (إن للشياطين لمة بابن آدم , وللملك لمة , فأما لمة الشيطان
فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق , وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق , فمن
وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله , ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان)
واللمة بالفتح الإلمام بالشيء.
وللغزالي في كتاب شرح عجائب القلب من الإحياء كلام فيها يعبر فيه عن
المَلَك بسبب إلهام الخير , وعن الشيطان بسبب خاطر الشر. ولو سمي الشيطان
هنا قوة الشر وداعيته؛ لكان له من اللغة شاهد ودليل كما علمت مما ذكرناه في أول
الجواب عن الراغب , ولكن لا يمكن أن ينطبق هذا القول على كل ما ورد في
الجن. على أن القوى العامة أمور مجهولة لم يصل البشر إلى اكتناه أمرها وكشف
سرها. ولا فرق بين أن يكون معنى الحديث: إن لكل امرئ في نفسه داعية إلى
الشر تسمى الشيطان , وهي قوة من القوى المدبرة للنفس , وبين أن يكون معناه أن
بعض العوالم الخفية التي لا تحس تتصل بالنفوس المتوجهة إلى الشر فتزين لها
خواطره ودواعيه , فإن داعية الشر نجدها في أنفسنا لا ننكرها , ولكننا لا نعرف
حقيقة سببها هل هو قوة أم هو شيء خارجي يتصل بالنفس المستعدة له فيؤثر فيها
كما تؤثر العوالم الخفية المسماة بلسان الطب (ميكروبات) بالمستعدين للمرض
فتحدثه فيهم ولا تحدثه في غير المستعدين , وإن ألمت بهم. ولو قيل لنا قبل
اكتشاف هذه الأحياء (الميكروبات) : إن السل والطاعون وغيرهما من الأمراض
والأوبئة يحدث بسبب عوالم مادية صغيرة سريعة النمو في بدن المستعد للمرض
لعددناه من الخرافات أو الخيالات. وقد تقدم لنا في المنار أن هذه الميكروبات من
الجن.
أما كون التأثير في النفوس كالتأثير في الأجسام بحسب الاستعداد فيدل عليه
قوله تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (الزخرف: ٣٦) أي من يعرض عن القرآن وهدايته إلى مخالفته تكون له داعية
الشر المعبر عنها بالشيطان قرينًا ملازمًا. هذا هو الظاهر , ولكن ورد في سبب
نزول هذه الآية أن المراد بالشيطان شيطان الإنس. أخرج ابن أبي حاتم عن محمد
ابن عثمان المخزومي أن قريشًا قالت: قيضوا لكل رجل من أصحاب محمد صلى
الله عليه وسلم رجلاً يأخذه فقيضوا لأبي بكر طلحة بن عبيد الله إلخ , وكذلك نرى
لكل شرير شيطانًا أو أكثر من قرناء السوء.
وجملة القول أن الوحي نطق بأن في الكون جنًا لا نراهم , وكل ما قيل في
حقيقتهم فهو رجم بالغيب , وما ورد في ذلك ممكن فيجب الإيمان به من غير تأويل ,
ولا يصدنا عن ذلك خرافات الناس في الجن فإنها أشياء يتوارثونها ما أنزل الله
بها من سلطان.
***
مشاركة الشيطان للناس في الأموال والأولاد
(س ٨٨) الشيخ مصطفى محمد السيد في (طما)
المرجو من حضرة السيد إفادتنا عن معنى قوله تعالى في سورة الإسراء:
{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي
الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} (الإسراء: ٦٤) لأني اطلعت في تفسير الخازن فوجدته يفسر
المشاركة في الأولاد - وهو غرضنا من السؤال - بجملة أقوال منها أنها الموءودة
وأولاد الزنا والتسمية بعبد العزى ونحوه , ومنها أيضًا - وهو موضع الريب - أن
الشيطان يشارك الرجل في مباشرة زوجته إذا لم يقل: بسم الله عند المباشرة , ويقع
منه كل ما يقع من الرجل فيأتي الولد من ماء الرجل وماء الشيطان، ثم عُزي إلى
ابن عباس أن رجلاً سأله عن امرأته قائلاً: إنها استيقظت وفي ... شعلة نار , فقال:
هذا من وطء الجن. فيُعلم من هذا أن الشيطان قد ينفرد بالمباشرة , وحيث إن
هذا كان من أكبر مواضع الجدال هنا , وأن أناسًا غير قليلين يؤكدون زعمهم أن
أحد التوأمين يتشكل في صورة القط حتى يبلغ , وما ذلك إلا لكونه من نسل
الشيطان في الأصل؛ لم أر حلاًّ لهذا المشكل إلا رفع هذا الموضوع إلى حضرتكم
راجيًا الإفادة عن المعتمد الصحيح , وما عليّ إلا رفع أكف الضراعة إلى الله تعالى
أن يديمكم ملجأ للسائلين.
(ج) الاستفزاز: الاستخفاف , والإجلاب بالخيل والرجل: تمثيل لتسلط
الشيطان على من يغويه كما رجحه الإمام الرازي , وذكره من قبله من المفسرين
وجهًا , وأما المشاركة في الأموال والأولاد فجماهير المفسرين على أن المراد بها
الإغواء بالحمل على كسب الحرام والتصرف والإنفاق في الحرام , وهذه الكلية التي
ذكرها البيضاوي وغيره تشمل كل الجزئيات التي ذكرها بعضهم وزيادة. والإغواء
بالحمل على التوصل إلى الولد بالسبب المحرم , والإشراك فيه كتسميته بعبد العزى ,
والحمل على العقائد الباطلة والأفعال القبيحة والحرف الذميمة. هذا ما قالوه
واعتمدوه , ويمكن اختصاره بأن يقال: إن المشاركة في الأولاد عبارة عن الإغواء
في أمر اختيار المرأة والاتصال بها , وفي كيفية تربية الولد؛ فمن يختار فاسدة
الأخلاق والأعراق افتتانًا بجمالها أو يتصل إليها بالحرام , ويهمل هو وإياها تربية
ولده العقلية والنفسية حتى ينشأ ضالاًّ فاسقًا فإنما يفعل ذلك بوسوسة الشيطان
وإغوائه ومشاركته إياه في هذا الأمر العظيم وهو أمر الولد من أحدهما الوسوسة
بالإغواء ومن الآخر اتباع الشهوة وسوء الاختيار. فالآية مبينة لمجامع وساوس
الشيطان وإغوائه , والأمر فيها للتكوين كقوله تعالى للشيء: كن؛ أي تعلق إرادته
بكونه ووجوده. وحاصل المعنى أن الله خلق الشيطان وكوّنه على هذه الصفة وهي
الوسوسة وتزيين القبيح الضار في هذه الأمور , وهي لا تبين حقيقة الشيطان ,
وهل هو داعية للشر في النفس تقوى وتضعف بحسب الاستعداد , أو هي داعية
خارجية كما هو الظاهر. وما نقله الخازن وغيره عن ابن عباس غير صحيح ولا
يعقل ألا يكون الشيطان من عالم الحس له أعضاء كأعضاء الإنسان , وهو مخالف
لنص القرآن. ولو صح لكان كل من يترك التسمية يشاركه الشيطان، فتجد امرأته
النار الذي وجدته تلك المرأة وهو ظاهر البطلان.
***
عقوبة ترك الصيام والصلاة
(س ٨٩) جاءنا كتاب في أثناء كتابة جواب السؤال الماضي من حمزة
أفندي الزهيري من وجهاء شرمساح , فإذا هو في الظاهر باسمنا , وفي الباطن
باسم مفتي الديار المصرية (ولعله أرسل غيره باسمنا وكتب عليه عنوان المفتي)
وإذا هو سؤال عن عقاب تارك الصوم والصلاة. سببه مناظرة بين السائل وبين
رجل ادعى أنه لا عقاب على تارك هاتين الفريضتين لأن القرآن لم يذكر لهما عقابًا
كما ذكر للزاني والسارق وغيرهما , فرد عليه حمزة أفندي بأن الإلزام بالصيام يدل
على أنه لابد من عقاب تاركه , وكذا الصلاة وذكر له قوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (النساء: ١٤)
فزعم الرجل أن ترك الصلاة والصيام لا يدخل في العصيان وتعدي الحدود لأنهما
من حقوق الله التي يتسامح فيها. وطلب السائل كشف هذا الغامض. وإننا نعجل
بالجواب لأن السؤال يتعلق بالصوم , فنقول:
(ج) لا غموض في المسألة ولا شبهة لذلك المجادل فتُرد , وإنما هو مكابر
يجادل في دين الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير , فإن العصيان مخالفة الأمر ,
والصلاة والصيام مما أمر الله به بل هما من أركان الإسلام التي ينهدم بهدمها وهي
من حدود الله تعالى أيضًا , فإنه تعالى قال بعد بيان أحكام الصيام: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
فَلاَ تَقْرَبُوهَا} (البقرة: ١٨٧) وتقدم تفسيرها في هذا الجزء. ولا خلاف بين
المسلمين في أن الفرض هو ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه , فمن أنكر
فرضية الصلاة والصيام فليس بمؤمن , ومن اعترف بالفرضية فقد اعترف
بالعقوبة على الترك.
ثم ماذا يقول المجادل في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن
صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} (الماعون: ٤-٥) أليس الويل هو الهلاك أو وادٍ في جهنم؟
وقوله مخبرًا عن أصحاب النار {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ *
وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ} (المدثر: ٤٢-٤٤) أليست صريحة في أن العذاب
مرتب على أمور أولها: ترك الصلاة , وثانيها: منع حقوق المساكين بترك الزكاة.
روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (ليس معنى أضاعوها
تركوها بالكلية ولكن أخروها عن أوقاتها) وروي مثله عن سعيد بن المسيب.
وفي حديث أحمد ومسلم: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) وقد ورد
من الأحاديث في الوعيد على ترك الصلاة والصيام ما لا محل لنشره هنا , وهو لا
يفيد المجادل إذا لم يفده التذكير بما تقدم من معنى الفرض , وبمكانة أركان
الإسلام الخمس من سائر الفرائض , وبكون وعيد الآية التي احتج بها عليه حمزة
أفندي يشمل ذلك كله قطعًا , فحسبنا هذا من الحجة النقلية إن كان مجتهدًا , وإذا كان
مقلدًا لأحد الأئمة الأربعة؛ فليعلم أنه ما من مذهب منها إلا وهو يجزم بعقاب
تارك الصلاة والصيام في الدنيا , ويدين بعقابه في الآخرة. وتفصيل مذاهبهم في
ذلك معروف مشهور.
وأما التفرقة بين حقوق الله تعالى وحقوق العباد فليس معناه أن الله تعالى
يطلب من عباده حقوقًا لنفسه لا حظ لهم فيها إلا مجرد الطاعة له , وبناها على
المسامحة فسواء عليهم فعلوها أم لم يفعلوها , وحقوقًا أخرى لبعضهم على بعض
رتب على الإخلال بها العقوبات لأنها مبنية على المسامحة. كلا , إن هذا نقض
لدين الله تعالى من أساسه , وإنما شرعت التكاليف كلها لمصالح المكلفين وسعادتهم
في الدنيا والآخرة , والله غني عن العالمين , وبيان ذلك بالتفصيل يطول جدًّا ,
وما زال المنار يشرحه في أبوابه لا سيما باب تفسير القرآن الحكيم , وملخصه أن الله
تعالى شرع الدين لعباده لأجل صلاح أرواحهم وقلوبهم بالعبادة لأجل صلاح حالهم
في الدنيا وسعادتهم في الآخرة , فالفرائض كالعلاج الباطني الذي يقوي الدم
والعصب والعضل , ومنع المحرمات كالحمية , فإن الذي يربي روحه بالصلاة لكي
يكون كريمًا شجاعًا صبورًا بمعرفة الله وثقته به , منتهيًا عن الفحشاء والمنكر لزكاة
نفسه وطهارة قلبه - وبالزكاة ليكون عونًا لإخوانه على مصالحهم رحيمًا بالمحتاجين
شاعرًا بفضيلة الحياة الاجتماعية - وبالصيام ليتقي ربه , ولتقوى إرادته , ويتعود
على ضبط نفسه بمراقبة ربه كما تقدم شرح ذلك في الجزء الماضي - وبالحج لما
ذكرناه قبل من فوائده - ألا يجب أن يمنع في أثناء هذه المعالجة النفسية من إتيان
ما ينافيها كالتعدي على حقوق الناس الذين يطلب منه أن يكون عونًا لهم ونصيرًا
وعن الشهوات الضارة التي تفسد القلب وتستعبد الإرادة؟ بلى , وإذا كان من فوائد
العبادة أن يمتنع من يقيمها على وجهها عن جميع المحرمات بإرادته واختياره
وارتياح نفسه ألا يجب أن يمنع عن هذه المحرمات (كالقتل والسرقة والزنا)
بوضع العقوبة البدنية على ارتكابها حتى يتم له ذلك باختيار؟ بلى , فمن قبل
الإسلام فقد قبل أن يعالج روحه ويربيها بعباداته , وأركانها خمسة منها الصيام ,
فإذا رفض مع ذلك الحمية عن المعاصي التي لا تتم المعالجة إلا بتركها؛ ألزم بذلك
إلزامًا , وأما إذا ادعى الإسلام ورفض القيام بأركانه؛ فإنه يعاقب عقاب المرتد كما
حارب الصحابة مانعي الزكاة لأنهم مرتدون , وسميت تلك الحرب حرب الردة.
وكذلك يجب على إمام المسلمين أن يحارب كل قوم يتركون شعيرة من شعائر
الإسلام حتى يعودوا إليها. وأما إذا ترك بعض الأفراد ذلك؛ فعقوبة الفرد تختلف
باختلاف حاله , ولذلك جعلت من التعزير الذي يفوض تعيينه إلى رأي الحاكم.
وأما المسامحة والمشاحة التي قالوها , وتمسك بها المجادل - مع أنها لم تذكر
في القرآن - فيتضح معناها في الأمر الذي فيه حق للناس وحق لله تعالى كالقتل ,
فمن قتل يقتل , ولكن إذا عفا عنه وليّ الدم فإنه لا يقتل لمجرد المخالفة لأمر الله
بحفظ الدم؛ لأن الله تعالى لا ينتفع بقتله ولا يضر باستحيائه , وإنما حرم عليه
القتل لأنه يضره إذ يجعله شريرًا في نفسه وفي نظر الناس , ولأنه يفسد الأمن
ويغري الناس بالاعتداء والتسافك. فإذا امتنعت الفتنة المتعلقة بحقوق الناس امتنع
القتل لأن ما يريده الله بتحريمه من صلاح النفس قد يتم بالبقاء بأن يتوب القاتل
ويصلح العمل. وقد بينا غير مرة أن عذاب الآخرة على ترك الفرائض وارتكاب
المحرمات ليس من قبيل عقوبة الحكام في الدنيا , وإنما هو على حسب ارتقاء
الروح وتزكيها , أو تدسيتها وتدليها. وإنما ترتقي الروح بالعقائد الصحيحة التي لا
خرافات ولا أوهام فيها , وتتزكى بالعبادة والتهذيب , وتفسد وتتدلى باعتقاد
الخرافات وارتكاب السيئات. أفيقول المجادل: إن الذي يدعي الإيمان بالله وكتابه
لا يضر روحه ولا يدسيها ترك الفرائض التي حث عليها كتاب الله , وجعلها أركان
دينه وبين أنها تزكي النفوس وتعدها لرضوانه وقربه؟ ما أظن أنه يقول بذلك ,
فأرجو أن يتوب علن الاستهانة بأركان الإسلام , والسلام.
***
الجرائد الإسلامية والبورصة
(س ٨٩) م. ج. في سورية: كثيرًا ما أرى الجرائد الإسلامية في
سوريا ومصر تنشر أخبارًا عن أحوال (البورصة) وتقلباتها في صعود وهبوط ,
فهل ذلك محرم شرعًا أم لا؟ أرجو إفادتنا في المنار الأغر جزاكم الله عن الإسلام
خيرًا.
(ج) القاعدة في معرفة المحرم الذي لم ينطق الشارع بتحريمه: أن كل
ضارّ محرم , فإذا كان خبر البورصة ينشر بإيعاز من المتلاعبين فيها لأجل غش
الناس وحملهم على بيع ما عندهم من العروض والحاصلات كالقطن وغيره توهمًا
أن المبادرة إلى البيع خير لهم , والحقيقة غير ذلك فلا شك أن نشره محرم ,
وكثيرًا ما يحصل هذا كما يحصل ضده , وهو إيقاف الناس على ما يجري هناك
من المساومات والعقود ليكونوا على بصيرة من أمرهم , والأمور بمقاصدها. ولا
يقال: إن أعمال البورصة وعقودها مخالفة للشرع؛ فالإخبار بها محرم على كل
حال. إذ العلم ببعض المخالفات والمحرمات ينفع أحيانًا كما إذا تواطأ قوم على
السرقة في بعض الأمكنة , فإعلام الناس بخبرهم ينبههم إلى توقي شرهم. هذا
وبعض الجرائد التي تسمى إسلامية لأن أصحابها من صنف المسلمين لا تلتزم فيما
تنشر أحكام الإسلام، ولا حدود الحلال والحرام، فتنشر (إعلانات) الخمور
والقمار المحض الذي يضر ولا ينفع , وهو محرم بالإجماع {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ
ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} (المؤمنون: ٦٣) فإن غشهم للناس في السياسة أعظم من
غشهم في المعاملة.