للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


باب الانتقاد على المنار
نقد عبارة في المنار
والمناظرات بين دعاة النصرانية وعلماء الإسلام
أرسل إلينا طاهر أفندي التنير من بيروت نبذتين في الرد على دعاة
النصرانية الذين فتح لهم الدستور باب الجرأة على توزيع رسائل الطعن في الإسلام
في سوريا حتى قاربوا أن يجهروا فيها كما يجهرون في مصر، وقد رأينا في كل
من النبذتين شذوذًا في التعبير فحذفنا ونقحنا وتصرفنا في العبارة بحذف بعض
المعاني الشعرية التي تؤثر تأثيرًا رديئًا بِلا فائدة، وقد ظهر لنا بعد ذلك أنه بقي في
الكلام ما ينتقد على الكاتب، وكذا على الناشر؛ لأنه يؤلم القارئ من النصارى، إذ
كاشفنا بعض أصدقائنا السوريين بما انتقدوه، وقالوا: إن مثل هذا لا يعهد من المنار،
فهو يرد على المبشرين من سنين طويلة ولم ننتقد عليه كلمةً واحدةً تعد جارحةً،
أو بعيدة عن الأدب، ثم إنه قد عرف بأنه داعيةُ وفاقٍ ومودةٍ، فلا ينبغي له أن
ينشر - لِمَنْ لا يراعون مشربه هذا - ما ينافيه؛ فرأينا أن نكتب كلمات في
هذا الموضوع تزيل اللبس، وتكون هي القول الفصل، وهي:
(١) إننا نحمد الله تعالى أن جعلنا من دعاة الوفاق ومن محبي الأدب
والنزاهة، وإنه ليسوءنا ويحزننا أن نقع في سهوٍ أو غلط ينافي ذلك ويعارضه،
وإذا عثرنا نسارع إلى التوبة والندم، ونتلافى ما يمكن تلافيه بما تحمله الطاقة،
وتناله الاستطاعة.
(٢) إن المنار لا يشترك فيه النصارى كما يشترك المسلمون في صحفهم
الدينية - دع السياسة التي تسمّى عامة - فلا يوجد في مشتركيه عشرة نفر من
النصارى؛ لأجل هذا لا يخطر في بالنا عند كتابة كل شيء أو نشره أن نراعي فيه
موقعه من نفوسهم، وتأثيره في جمهورهم، والأدب مطلوب عندنا لذاته. وإنما
يطّلع عليه عدد قليل من أهل العلم والأدب كأصحاب الصحف التي يبادلها المنار،
وهؤلاء من الأحرار أصحاب الصدور الواسعة، فإذا هم استنكروا شيئًا لا يذيعونه في
جمهور قومهم، ونتيجة هذا أن ما ينشره المنار لا تأثير له في عامة النصارى حتى
يقال: إن المجلات كالجرائد يجب أن يراعى فيها شعور جميع الملل التي تقيم في
الوطن التي تصدر فيه أو تنطق باللغة التي تكتب بها. فهو إذًا من كتب الإسلام
الدينية، فلا وجه لمطالبتنا بأن نراعي شعورهم فيه، ولا لدعوى أن ما ينشر مخالفًا
لعقائدهم، أو ردًّا عليها يوجب التفرقة والعداوة.
(٣) إن دعاة النصرانية هم المعتدون على المسلمين بالطعن في دينهم بما
ينشرون من الكتب والرسائل والصحف، وبما يعقدون من المجامع لدعوى المسلمين
إلى دينهم وفي مدارسهم ومستشفياتهم، فصار من الواجب علينا شرعًا أن ندافع عن
ديننا، وننفِّر عوامنا عن قبول دعوتهم؛ فالفرق بيننا وبينهم أنهم مهاجمون ونحن
مدافعون، وأنهم يكتبون مطاعنهم لينشروها في المسلمين، كما يبثون مطاعنهم
القولية فيهم، ونحن لا ننشر مطاعننا بين النصارى ولا نشافههم بها، ولا يكاد
يطّلع عليها إلا عدد قليل من محبي الوقوف على الشؤون العامة، فمن ينتقد ما نكتبه
بدعوى أنه يوجب العداوة والتفرقة بين عامة الفريقين مخطئ؛ وإنما يكون مصيبًا
إذا قال ذلك فيما يكتبه أهل ملته ودينه؛ لأنهم ينشرونه بين المسلمين فينفرونهم من
النصارى، ولا يغفل عن هذا أو يتغافل عنه إلا الغالي في التعصب.
(٤) قال بعض أصحابنا: إن الطاعنين في الإسلام من النصارى كلهم من
الأجانب كالأمريكانيين والإنكليز؛ لا من أبناء وطننا، فلا ينبغي أن نسيء إلى
أبناء وطننا بردنا عليهم.
ونقول (أولاً) : إن هذا القول غير صحيح، فكتاب (الضلالة) المسمى
بضد اسمه تأليف رجل من متعصبي القبط، وهو أقذر هذه الكتب وأقلها أدبًا في
الطعن في نبينا صلى الله عليه وسلم، وكتاب (أبحاث المجتهدين) مؤلفه سوري، بل
أقول: أكثر تلك الكتب والرسائل والصحف الطاعنة في الإسلام يكتبها أجراء
المبشرين من الوطنيين أو يترجمونها؛ إذ لا يكاد يوجد في أولئك الأجانب من يحسن
الكتابة العربية، وإنما ينشرها الأجانب لأن لديهم أموالا كثيرة مرصدة لذلك من أهل
بلادهم الذين يقول لنا أبناء وطننا إنهم هم البُرَآء من التعصب الديني دون أهل
الشرق! ! ولأن لهم من الامتيازات والنفوذ السياسي ما يحميهم من سلطة الحكومة.
ونحن نبرئ جمهور الوطنيين من ذنب أولئك الأجراء ولا نعده مانعًا من الاتفاق
بيننا وبينهم.
(وثانيًا) إذا فرضنا أن هذا العدوان من الأجانب خاصة، فهل من العدل أن
يطالبنا نصارى بلادنا بأن لا نرد عليهم، ولا نحذر عوامّنا ونَحُول بينهم وبين
إفسادهم لعقائدهم؛ لأن دفاعنا عن ديننا يجرح عواطفهم الدينية؟ ! أليس منتهى
التعصب والسعي للعداوة والتفرق أن تطالب ابن وطنك بأن يترك الدفاع عن دينه،
وتعليم أهله ما يصونهم عن الارتداد عنه، أو عن فساد العقيدة الذي قلّما تنتج دعوة
المبشرين غيره، وأن يرضى بأن يُكذَّب قرآنه ويُشتم رسوله، إكرامًا لخاطرك،
ومراعاة لعواطفك؟
(٥) إن القاعدة الصحيحة للاتفاق هي قاعدة المنار الذهبية التي دعا إليها
المختلفين في المذاهب والأجناس من المسلمين، والمختلفين في الأديان والأجناس
من العثمانيين، وهي: (نتعاون على ما نشترك فيه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما
نختلف فيه) . وقد شرحناها غير مرة ولكن كثيرًا من الناس لا يحبون الوفاق، ومنهم
أعوان المبشرين من الوطنيين، وبعض الكتاب والصحافيين، كالشيخ يوسف
الخازن من نصارى السوريين، الذي وضع قاعدة للخلاف ضد القاعدة التي
وضعتها للوفاق، وصرّح بها في ملأ مِن أدباء نصارى السوريين كنت أكلمهم في
وجوب السعي إلى الوفاق والوحدة؛ فسخر من هذه الدعوة، وقال: إذا كان الخلاف
بين مسلم ونصراني فأنا مع النصراني على المسلم كيفما كان - أي في الحق
والباطل - وإذا كان بين كاثوليكي فأنا مع الكاثوليكي مطلقًَا، وإذا كان بين كاثوليكي
غير ماروني فأنا مع الماروني مطلقًا، قال: وكل الناس كذلك.
فمثل هذا لا يعذر المسلمين في كلمة يخالفون فيها النصارى ولا بقولهم ولو
في كتبهم وصحفهم الخاصة بهم أننا على الحق، والطاعن في ديننا على الباطل،
ولذلك أقام النّكِير على المنار مرة لأنه ذكر اسم المبشرين في سياق الكلام على ما
أفسد بلادنا من سعي فسّاق الإفرنج كمواخير البغاء وحانات الخمر وبيوت القمار.
ونحن نرى المبشرين أشد إفسادًا في بلادنا من غيرهم لأن صاحب الحانة يحمل
المسلم أو يساعده على مخالفة الإسلام في أمر واحد وهو السُّكر، والمبشر يحمله
على ترك دينه كله، وزد على ذلك أن المبشرين هم الذين يوقدون نار العداوة بين
المسلمين والنصارى ويفسدون المسلمين أنفسهم بتشكيكهم في الدين الذي هو أساس
الفضيلة والتقوى والوحدة والاتفاق. فمثل الشيخ يوسف الخازن من متعصبي
النصارى السوريين، وبعض أصحاب الجرائد من متعصبي القبط، أشد سعيًا في
التفريق بين المسلمين والنصارى من المبشرين الأجانب؛ لأنهم يبحثون عن كلمة
يقولها مسلم في الدفاع عن دينه فيجردونها عن سببها والحامل عليها من الأعذار،
ويزفونها إلى قومهم في صورة مشوّهة، وإضافات باطلة، وما بلَّغ المكروهَ إلا من
نقل.
(٦) إن مجالنا في الردّ على النصارى أضيق من مجالهم لأننا نؤمن بنبيهم
المسيح ونعظّمه ونعظّم حواريه، ونعدّ الطعن فيه كفرًا وردةً عن الإسلام {لاَ نُفَرِّقُ
بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} (البقرة: ٢٨٥) ?وهم يطعنون بلا قيد ولا حد.
فغاية ما يمكن أن يكتبه المسلم هو النقل من كتبه الدينية أو كتب أحرار
الأوربيين بشرط إظهار البراءة من كل ما لا يليق بكرامة المسيح أو غيره من أنبياء
الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والتصريح بأن نقل ما ذكر من باب (ناقل
الكفر ليس بكافر) وأنا لا أحب لنفسي سلوك هذه الطريقة، وهي التي اضطر إليها
بعض من كتب في المنار، وكتابة التنير من هذا الباب، وإنني حبًّا في النزاهة
والأدب، وكراهة للشعريات في المناظرة والجدل، عملاً بقوله تعالى: {وَلاَ
تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: ٤٦) قد نقحتها، فإذا
كان قد بقي فيها كلمةً شاذةً ككلمة الثالوت الزنائي في سياق قصة ولادة سليمان عليه
السلام، فإنما ذلك من السهو الذي يظهر بما نبين من سببه، وهو أن الكاتب جعل
عنوان مقالته (الثالوث الزنائي المقدس) وصدر الكلام في كل قصة من القصص
الثلاث التي نقلها من التوراة بقوله: (الأقنوم الأول من الثالوث الزنائي المقدس)
إلخ، وكان يختمها بمثل هذه الكلمة، ويكررها في أثناء العبارة، فرمجنا (شطبنا)
كل هذه الكلمات لأن فيها امتهانًا لاصطلاحات محترمة، وغرضنا من تحذير
عوامّ المسلمين من الاستجابة للمبشرين لا يتوقف على ذلك، ولا هو ممّا ترضاه
آدابنا، وجعلنا مكان كلمة الأقنوم كلمة الجد، وحذفنا لفظ الثالوث من العناوين ومن
تضاعيف الكلام، واتفق أننا لم نقرأ تلك الأوراق في وقت واحد لكثرة الشواغل
وضيق وقتنا عنها، ولذلك جعلنا في القصة الثالثة لفظ (الشاهد) بدل (الجد)
وبقي في آخرها كلمة (الثالوث الزنائي) على أنني أتذكر جيدًا أنني حذفت هذه
العبارة التي كانت في العنوان الأول وتكررت في الكلام، فلا أدري أكان ترميجها
(شطبها) غير ظاهرٍ فجمعت حروفها، أم كنت قد نسيتها؛ لأنني قرأت تلك
الورقة التي هي فيها وحدها. ولهذا قلت فيها: الشاهد الثالث بدل الجد الثالث.
وقد ظهر بهذا الذي شرحته أن هذه الكلمة قد بقيت في المقابلة كالعضو الأثري، وإن
اللام فيها لام العهد الذِّكري؛ أي الثالوث الذي تقدم ذكره. وإنني لما ذكرت لي ما
صدقت حتى راجعت ورأيتها بعيني. وقد امتعضت امتعاضًا شديدًا ظهر عليّ
وسئلت عن سببه، فإن من خلقي وغريزتي أن أتألم مما يقع مني مخالفًا لمشربي
ورأيي، ولو سهوًا أو نسيانًا، ولا أبالي بما ينتقده الناس إذا كنت أعتقد أنه
حق وصواب وغير خارج عن حدود الآداب.
ومثل هذا الغلط والسهو يقع كثيرًا، وفي هذا الجزء من المنار غلط في آية من
القرآن غفلنا عنها؛ لأجل هذا قلت لمن نبهني ولغيره: إنني أحب أن أتلافى هذا
الخطأ بما يرضي المتألمين منه، وأدع لأهل الإنصاف من النصارى اقتراح ما
يرونه ويرضونه من اعتذار أو انتقاد لما كتب، أو حذف الكراسة من المنار وطبع
كراسة بدلها خالية من كل كلمة جارحة، وإنما أقبل في هذا قول المعتدلين البرآء
من التعصب كإسكندر بك عمون وسامي أفندي الجريديني من فضلاء المحامين
السوريين، على أن هذه الكتابة يصح أن تعد ترضية للمنصفين ودليلاً على أننا لم
ننشر تلك العبارة عمدًا.
وأما المتعصبون فلا يرضيهم منا إلا خروجنا من ديننا، فلا زالوا ساخطين
وقد سعوا مع بعض المبشرين من قبل لإقناع الوكالة البريطانية بإلغاء المنار ومنع
إصداره ظنًّا منهم بأن الجو يخلو لهم ولغيرهم من أعداء الإسلام فلا يتجرأ أحد على
الرد عليهم.
(٧) إن سبب نشر هذه المقالة والمعنى الذي أردنا أن يفهمه المسلمون
منها هو: أن إيماننا بالمسيح والأنبياء أصح من إيمان المبشرين، وتكريمنا لهم خير
من تكريمهم، فهم قد جمعوا فيما قالوه في المسيح عليه السلام بين الضدين فأطروه
حتى اتخذوه ربًّا وإلهًا، ونقلوا في نسبه لأمه وأبيه الناموسي (لا الحقيقي) أنه من
نسل سليمان بن داود من سبط يهوذا، وقد ثبت في العهد العتيق عندهم (لا عندنا)
أن بعض أجداده في هذا النسب (الذي سرده متّى ولوقا في إنجيليهما) من أولاد
الزنا. وثبت عن مقدسهم بولس أنه صار لعنة لأجلهم، ونحن المسلمين نقول: إنه
عليه السلام أهلٌ لكل كرامة وفضيلة، وإنه من روح الله وآية منه؛ ولكن ما اتخذ
الله من ولد وما كان معه من إله. ونقول: إنه طاهر من نسب طاهر، فنحن ننقل
ما نقلنا عن العهدين العتيق والجديد مما لا يسعهم إنكاره، لإقامة الحجة عليهم،
وإعلامًا لعامة أهل ديننا بأننا لسنا في حاجة إلى مَن يدعونا إلى الإيمان به عليه
السلام، بل نحن أحق بأن ندعو هؤلاء الدعاة إلى تبرئته من اللعنة ومن دنس
النسب، كما نبرئ سائر الأنبياء عليهم السلام مما لا يليق بهم، ونحثو التراب في
فم من يزعم أننا نقول كلمة فيهم تشعر بنقصهم، قال البوصيري - رحمه الله -
في لاميته:
وأبيك ما أعطى يهوذا خاتمًا ... لزنا بمحصنة ولا منديلا
لَوّوْا بغير الحق ألسنةً بما ... قالوه في ليّا وفي راحيلا
ودعوا سليمان النبي بكافرٍ ... واستهونوا إفكًا عليه مقولا
***
(٨) صفوة الكلام وفصل الخطاب
إن المسلمين مدافعون لا معتدون، وهذا الدفاع فرض ديني عليهم، والمنار الذي
يرد عليهم يوزع على المسلمين أيضًا ليحذرهم من الارتداد عن دينهم أو يَحُول دون
شكهم فيه، والمشتركون فيه من غير المسلمين يعدّون على أصابع اليد، فما يكتبون
يثير سخط الرأي العام الإسلامي؛ ولذلك طَفِق المسلمون يؤلفون الجمعيات في مصر
لمقاومتهم وما يكتبه المسلمون - على كونه دفاعًا - لا يكاد يشعر العالم
النصراني؛ لأنه يوزع على المسلمين دونهم، إلا إذا بحث عنه بعض المتعصبين من
أصحاب الصحف أو غيرهم - والمعلول يدوم بدوام علته - فنحن لا نترك الرد
عليهم ما داموا يدعوننا إلى دينهم قولاً وكتابةً ويتعرضون في خطبهم وكتبهم وصحفهم
لديننا، فإن تركوا تَركْنا، وإذا استمروا استمررْنا، ونلتزم الأدب في العبارات بقدر
فهمنا واجتهادنا، فمن كان ساعيًا في منع ذلك بإخلاص وحب للوفاق فليبدأ
بإسكات المبشرين عن ذكر كتابنا ونبينا وأصول ديننا وفروعه، ويبقى لهم مجال
واسع في الدعوة إلى دينهم بذكر محاسنه وما عندهم من الدلائل عليه، ومن لم
يرضه منا إلا أن نسكت لهم عن الطعن في ديننا والتنفير عنه والتحريف لنصوصه فلا
زال ساخطًا غاضبًا حاقدًا - إلى ما شاء من لوازم تعصبه - ولعلّ سوء تأثير هؤلاء
المبشرين سيضطر الحكومة والمحتلين إلى وضع حد لهذا الأمر إما بقانون أو بغير
قانون، ولا نظن أن الإنكليز يجبروننا على السكوت ويدعونهم يبغون كما
يريدون.