للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


طعام أهل الكتاب ومجاملتهم

كتب إلينا بعض القراء الفضلاء من مسلمي (بوسنه) ما يأتي:
إلى حضرة العالم الكامل الأفخم!
أيها النحرير الشهم الفاضل.
ما مرادكم بالعبارة الآتية في الجزء السابع من المجلد الثامن من المنار الغراء
في صحيفة ٢٥٥، ألا وهي: (وأراد تعالى أن نجاملهم ولا نعاملهم معاملة المشركين
استثنى طعامهم فأباحه لنا بلا شرط ولا قيد) .
وهذا لا يصح نظرًا إلى الظاهر لأنه لا بد أن يكون مقيدًا بأمور ولا أقل من
التقييد بالوجوه التي تبيح أكل مال الغير لنا.
وقد وقعت بعد العبارة السابقة في السطر الخامس في تلك الصحيفة أيضًا هذه
العبارة: (ولأجل كون حل طعام أهل الكتاب ورد مورد الاستثناء من المحرمات
المذكورة بالتفصيل في سورة المائدة) فإن الظاهر من تينك العبارتين أن النص الوارد
في تحليل طعام أهل الكتاب مطلق لا يتقيد بقيد ما أصلاً، وأنه مستثنى من جميع
المحرمات الواردة في آية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ} (المائدة: ٣) إلى آخره،
فيلزم من هذا أن يكون طعام أهل الكتاب حلالاً لنا ولو كان مطبوخًا من الميتة أو
لحم الخنزير أو الدم المسفوح أو الخمر أو غير ذلك.
وأما تعليلكم بالمجاملة فلا نسلم أنَّّا محرضون عليها من الشارع إلا إذا كانت في
حدود الشرع. والقول الواقع في الآية بمقابلة هذا يدل صريحًا على أن المراد بحل
طعامهم المجاملة معهم في المعاشرة كالإجابة إلى دعوتهم ودعوتنا إياهم إلى موائدنا
وكالمساهلة في البيع والشراء معهم، وإلا فلا معنى لحل طعامنا بالنسبة إليهم؛ لأن
الحلّين عائد لنا.
وأول الآية وآخرها ينفي صراحة الحل المطلق ويدل على الحِلّ المقيد
بالحدود الشرعية، فينتج من هذا أن مجاملتنا إياهم، وإن وسعت في الشريعة بالنسبة
للوثنيين لكنها أيضًا محدودة بالأحكام الشرعية. وإلا فالمجاملة الكلية لا تقع إلا
باتباعهم في الجميع {وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم} (البقرة: ١٢٠) ولسنا مأمورين بل نحن منهيون عن تجاور حدود الله في مجاملة أخ
ديني ولو كان أشرف من في الأرض فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ألتمس من فضلكم التفصيل الشافي على هذه الاستفسارات لتزيلوا تحيري في
هذا الشأن، ولكم من الله الأجر الجزيل ومني المنة العظيمة، وإن لم يمكن لجنابكم
تعريف المراد بالكتابة القصيرة فأرجو من مروءتكم أن تكرموني بإرسال الأجزاء
الباحثة في هذه المسئلة. وإن كان عليكم بأس بفصل بعض الأجزاء من المجلد
الواحد فأرسلوا المجلد المطلوب بتمامه وأنا أرسل لكم على الفور قيمته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ع. ق. م
***
(المنار)
المراد بطعام أهل الكتاب الذي أحله الله لنا هو ما كان حلالاً في دينهم والميتة
والدم ولحم الخنزير من المحرمات في التوراة، ولم ينسخ المسيح تحريمها وإنما أكله
النصارى بقول بولس: الذي يدخل الفم لا ينجس الفم وإنما ينجسه ما يخرج منه وهذا
مبالغة منه في ذم الكلام القبيح. ونحن لا نقول بأن الخنزير يدخل في عموم طعامهم
فإذا خالفوا دينهم وأكلوه فأكلهم إياه لا يبيحه لنا. ولا ينافي هذا قولنا أن الله تعالى
أباح لنا طعامهم بلا شرط ولا قيد لأن هذا بيان للآية ولا شرط فيها ولا قيد. وقد
صرح بعض علماء السلف من الصحابة وغيرهم أن المراد بطعام أهل الكتاب في
الآية ذبائحهم؛ لأنها مظنة التحريم وغيرها حل بمقتضى الأصل في الأشياء وهو
الإباحة إلا ما حرم بالنص علينا وعليهم، وهو الميتة المحرمة لعارض ولحم
الخنزير المحرم لذاته. وهذا لا ينافي الإطلاق في العبارة ولا في بيانها كما قلنا؛ إذ
لم يعهد في أساليب لغة من اللغات عند بيان مسألة علمية أو حكم شرعي أن يذكر
معها أو معه جميع ما تقرر في بيان مسألة أو حكم آخر يمكن أن يكون له علاقة
بالمبين بتقييد أو تخصيص. مثال ذلك إذا قلنا: إن العسل نافع، فإن هذا الإطلاق
صحيح ولا حاجة لتقييده بقولنا: بشرط أن لا يكون آكله أو شاربه محرورًا وأن لا
يسرف في الإكثار منه. وإذا قلنا: إن الشرب في آنية الزجاج، فلا حاجة في صحة
القول إلى تقييده بقولنا: إذا كان الإناء طاهرًا وغير مغصوب: إذا تدبرتم
هذا علمتم أنه إذا قال قائل: تستحب مجاملة أهل الكتاب أو برهم: فلا يجب عليه
أن يقيد ذلك بقوله: بشرط أن لا يشاركهم في عبادتهم وتقاليدهم الدينية ولا يرتكب
معهم محرمًا كشرب الخمر، فإن هذا لا يدخل في إطلاق القول فيحتاج إلى إخراجه
بالقيود، ولا أقول: إنه يدخل فيها وتعتبر في إخراجه القرائن المعلومة بالضرورة كما
يتوهم الضعيف في اللغة.
هذا وإننا قد فصلنا القول في مسألة الذبائح وطعام أهل الكتاب في المجلد
السادس وإننا نرسله إليكم فطالعوه، وإن لاحت لكم شبهة فاكتبوا إلينا بها.