للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الحياة المِليَّة بالتربية الاجتماعية

(هذا ما وعدنا به في مقالة
روابط الجنسية والحياة الملية في الجزء السابق)
ذهب كثيرون من نابتة الترك والمصريين مذاهب الخيال الذي انعكس إلى
أفكارهم مما شهدوا من ظواهر مدنية أوربا، فحسبوا أن فلاح كل شعب وكل قطر
معلول لعلة واحدة هي تقليد أوربا بنشر العلوم الرياضية والطبيعية ونظام الحكومة
والأخذ بعادات أهلها، ويستدلون على رأيهم هذا بما كان من ارتقاء اليابان في نحو
ربع قرن بهذا التقليد، ويحسبون هذا برهانًا قاطعًا لا سبيل إلى المكابرة فيه إلا ممن
كان أعمى البصيرة جاهلاً بحال هذا العصر مغرورًا بحال قومه في حاضرهم أو
ماضيهم وكأني بمن تعود منهم قراءة الكلام المعقول في المنار وقد أنكر فاتحة هذا
القول وساء ظنه بمن سمى هذه القضية البديهية اليقين عنده تخيلاً وحسبانًا.
لا تعجلوا بالإنكار عليّ فلست بمنكر فائدة تلك العلوم، ولا أقول: إن أمة تعز
وتقوى في هذا العصر مع الجهل بها وبطرق الاستفادة منها وارجعوا إلى أنفسكم
فأنتم أعلم بها منكم بأوربا واليابان. إنكم قد سبقتم اليابانيين إلى هذا التقليد
فالمصريون منكم قد مرّ على أخذهم بهذا التقليد قرن كامل والترك قد ناهزوا ثلاثة
أرباع القرن، ولم يدرك أحد من الفريقين غبار اليابانيين الذين لا يزيد سنهم في
المدنية على ربع القرن إلا قليلاً. فدولة اليابان قد دوخت في بضع سنين أكبر دولة
شرقية، وأكبر دولة غربية وطفقت ترث الأرض وتستعمر البلاد، وبلادكم تنقص
من أطرافها، ويقتات عليكم فيما بقيت لكم رسومه منها، فأيُّ أثر لتقليد أوروبا
تحمدون، وأيُّ فائدة له في أنفسكم تعرفون.
هل يستطيع المصري أن يقول: إن حكومتنا لم تتشكل بشكل الحكومات
الأوربية فلم يتم لنا التقليد الذي هو علة النجاح؟ أنى؟ وكل ما عرفته هذه البلاد من
نظام أوربا ومدنيتها فهو من حكومتها لا من الأهالي، ولا تزال الحكومة أرقى من
الرعية تسوقها في كل طريق وتقودها بكل زمام. منح الشعب المصري حرية القول
والعمل والاجتماع منذ ربع قرن ولم توجد له جريدة ذات مذهب مليّ نافع ورأي
اجتماعي ثابت، ولا مدرسة كلية، بل ولا جزئية يعتد بتعليمها وتربيتها تنظر البلاد
إلى المتخرجين فيها نظر الرجاء بما ترى من امتيازهم على المتخرجين في مدارس
الحكومة، فمدارس الحكومة وهي في أيدي الأجانب ترجح على جميع المدارس
الأهلية رجحانًا مبينًا، ولم تؤسس فيها شركات كبيرة للزراعة أو للتجارة أو
للصناعة نجحت في عملها، فكانت موضعًا للثقة بها، ولم يوجد فيها للمسلمين وهم
السواد الأعظم غير جمعية خيرية واحدة لا تزال فقيرة بالنسبة إلى الجمعيات الخيرية
في أوربا واليابان على ما قاسى مؤسسها من العناء والبلاء في سبيلها ولا يزال
مجلس إدارتها يمحو من دفاترها في كل سنة أسماء كثير من الأغنياء الذين يشتركون
فيها وتمر عليهم السنون ولا يؤدون إليها ما فرضوه على أنفسهم لإعانة فقرائهم
وأكثرهم من المتعلمين علوم أوربا في باقي بلادهم أو في أوروبا نفسها.
وأما الأتراك فقد ملأ طلاب المدنية الآفاق أنينًا وشكوى من حكومتهم وطعنًا في
سلطاتهم وإنني على اعترافي لهم بأنهم في مجموعهم أرقى من المصريين علمًا
وأخلاقًا وأقوى عزيمة واستقلالاً أقول ما قاله كبير من كبرائهم: إننا بطعننا في
السلطان وصراخنا بالشكوى من حكومة (المابين) نعترف للعالم علنًا بأننا لسنة أمة
إذ لو كنا أمة لما قدر رجل واحد على أن يفعل فينا ما يشاء ويحكم ما يريد، ولما
عجزنا عن وضع بناء حكومتنا على أساس الشورى الشرعية التي فرضها ديننا
ورأينا نجاح الأمم بها، فهؤلاء الخائضون منا في السلطان إنما يبصقون على ذقونهم.
يريد هذا التركي الكبير أن الشعب لم يرتق إلى المستوى الذي يقدر فيه على
تغيير شكل الحكومة فهو إذًا لم يستفد من تقليد أوربا ما اعتزت به أمته وارتقت به
دولته بل كان كل خذلان أصيبت به الدولة أثرًا من آثار خيانة هؤلاء المقلدين أوروبا
المعبر عنهم بالمتفرنجين، فهم الذين اقترفوا جريمة الخيانة في حربها الأخيرة مع
روسيا وهم هم الذين أفسدوا البلاد بظلمهم وبيعهم الدماء أو الحقوق بالرشوة لأجل
إرضاء شهواتهم التي استفادوا التفنن بها من مدنية أوربا.
لا ريب أن معظم ما أخذناه عن أوربا كان سببًا في زيادة نفوذها فينا
واستيلائها على كثير من بلادنا وامتصاصها لثروتنا وقد ضعفنا وما قوينا وبعدنا عن
الاستقلال ولم نقرب منه، فلماذا كان هذا منتهى حظنا منها وكان حظ اليابان ما نعلم
من القوة والمنعة والعزة والثروة؟ وكيف السبيل إلى استخراج لبن هذه المدنية من
بين فرثها ودمها؟ أم كيف السبيل إلى نجاح أمتنا؟ فهذه الصين قد أنشأت تقتدي
باليابان في إصلاح شأنها وتنظيم حكومتها، وهذه روسيا قد وضعت الثورة حكومتها
في البوتقة لتذيبها وتنقيها من أوضارها، فإذا صلحت حال هاتين الحكومتين فإن فساد
الأرض ينحصر فينا وحدنا، وإذا جعلنا الكلام في الشعوب والملل، لا في
الحكومات والدول، فإننا لا نجهل أننا قد دفعنا من صدرها إلى عجزها، وصرنا إلى
ساقتها بعد أن كنا في مقدمتها، فماذا يجب علينا من العمل، قبل أن ينقطع منا
الأمل؟
أقول في الجواب: يجب أن نكون أمة واحدة تربطنا رابطة واحدة تصل
بعضنا ببعض حتى يشعر كل صنف وقبيل منا بل كل فرد بأنه عضو من جسم كبير
له حياة واحدة عامة منبثة في جميع الأعضاء ما دامت الأعضاء متصلة فإذا ما
انفصل عضو منها فارقته الحياة؛ إذ لا حياة له في نفسه. وإننا لا نشعر الآن بهذه
الحياة وإنما يشعر كل واحد منا بنفسه وحدها فهو يعمل لها وحدها: فالمهندس
والطبيب والفقيه والقانوني والمدرس، وسائر أهل المعارف هم كالحداد والنجار
والزارع والصانع والأجير والخفير، وغيرهم من أهل الحرف والصنائع كل
واحد منهم يتعلم ليتوسل إلى رزقه وما يمتع به نفسه وأهله لا يلاحظ مصلحة عامة
ولا رابطة جامعة فوجوده لا ينبسط إلى أكثر مما ينبسط له وجود بعض الذباب
والحشرات على ما شرحناه في مقالة روابط الجنسية، فالعلوم الرياضية والطبيعية
والشرعية وغيرها لا حظ فيها عندنا لما يسمونه الهيئة الاجتماعية وهي الأمة في
مجموعها لا أجزائها فلو صار كل فرد منا عالمًا بفن من الفنون التي ارتقت بها
أوربا ونحن على هذه الحال لما كان ذلك كافيًا لجعلنا أمة عزيزة كاملة الاستقلال
قصارى هذا العلم أن ينقل هؤلاء الأفراد من مرتبة الخزف والودع إلى مرتبة الخرز
زجاجًا كان أو جوهرًا مع بقاء كل خرزة منفردة عن الأخرى إذ لا سلك هناك تنتظم
فيه ولا ناظم يؤلف بينها في السلك فيجعلها عقدًا، وأعني بالسلك هنا رابطة الجنسية،
وبناظم العقد المربي الاجتماعي لا المربي الصناعي. حدثني محمد توفيق البكري
قال: سمعت السيد جمال الدين في الآستانة يقول: إن المسلمين لا ينتفعون بشيء من
هذه العلوم التي يتعلمونها لأن السلك عندهم منقطع ولا فائدة بدونه؟ أو ما هذا معناه
قال لي البكري: وقد فاتني أن أسأله عن مراده بهذا السلك فما رأيك فيه.
مثل المعلم الفني والمربي الصناعي كمثل من ينظف قطع المعدن أو الجوهر
لينتفع بها في الجملة ولا يبالي أكانت حبة في عقد أو فصًّا لخاتم أو كمثل من ينحت
الحجارة النحت الأول لتباع لمريدها فهو لا يبني ولا يعنيه أمر الباني أكان يريد
مسجد صلاة أم هيكل أوثان. وأما المربي الملي والمعلم الاجتماعي فهو الذي يقيم
بناء الأمة أو ينظم عقدها فيجب أن يكون هو الرئيس على معلمي الفنون والعلوم
المدير لمدارسهم؛ لأنهم هم الذين يمهدون العمل ويهيئون له الحجارة التي يقيم بها
البناء فإذا خلت مدارس الأمة من هؤلاء المربين والمعلمين فبشرها بأنها تهيئ
أفرادها للدخول في بناء غير بنائها، وهكذا نرى الذين تعلموا العلوم والفنون منا هم
الذين مكنوا الأجانب منا بنصحهم لهم في خدمتهم، وإن لم يصلوا في التشرف بهم
إلى أن يجعلوا من بنيتهم، وهكذا تتبدل أحوال الأمم وتتغير أشكالها كما صارت
كنائس القسطنطينية مساجد ومساجد قرطبة كنائس.
إلا أن حياتنا المِليَّة التي هي سلك اجتماعنا وينبوع سعادتنا لا تنفخ روحها فينا
إلا بالتربية الدينية الدنيوية، فيجب أن يكون جل اهتمام طلاب الإصلاح منا في
الدعوة إلى هذه التربية والسعي لها وإزالة العقبتين اللتين ذكرناهما في مقالة الجزء
الماضي من طريقها أعني عقبة السياسة وعقبة الجهل وكيف يكون ذلك؟
كتبت ما تقدم فلم يقف القلم دقيقة ولا لحظة انتظارًا لما يُمْليه عليه الفكر حتى
إذا انتهى إلى هذه النقطة وقف ساعة من الزمان، وكان هذا شأنه في المقالة الأولى
جرى فلم يقف إلا عند نقطة بيان العمل الواجب علينا فكانت وقفته خاتمة المقالة.
وقف القلم لوقوف الفكر، ووقف الفكر لأن تصور العاملين حال بينه وبين تصوير
العمل، انتقل من إملاء الواجبات التي يعلمها إلى البحث عن العاملين الذين يجهلهم
كأن صائحًا أهاب به: قف لا تخاطب من لا يسمع، ولا تطالب من لا يعمل،
فوقف هنيهة ثم أنشأ يجوب البلاد ويتصفح الوجوه فرأى أن أكثر الذين يعقلون ما
يقال ويقدرون على الأعمال، أحلاس بيوت وأحلاف خمول، ومن قد ظهر بما
نصح للأمة، قد استفاد بنصحه الظنة، فلا يثق به الجمهور، ولا يكلون إليه تدبير
الأمور، ثم عاد إلى قبر الأستاذ الإمام، فبكاه بالدموع السجام، وتذكر أن الأمة ما
فقدت رأيه ونصيحته، وإنما فقدت زعامته وإمامته، فإنها لم تكد تشعر بأنه رب
السلك، وربان الفلك، فتستعد لقبول ما يأتيه من النظام، إلا وقد اختطفه منها الحمام.
فإن لم يأتنا ندب بسلك ... فلا عمل هناك ولا نظام
وإن لم يأتنا نوح بفلك ... على الإسلام والشرق السلام
هذا ما كان من الفكر في سكوته عن الإملاء قد أملاه، ثم عاد إلى ما كان وعد
القلم به فوفاه.
يجب على العامل في مصر والهند ما لا يجب على العامل في الأستانة والشام
ويطلب من المصلح في تونس والجزائر ما لا يطلب من المصلح في فارس
أو قزان، ولا أذكر مراكش إذ ليس فيها -على ما أظن- رجال، ولا الصين لأن
المسلمين فيها لا يهمهم غير جمع المال، وجملة القول: إن الشعوب الإسلامية متمزقة
، في بلاد متفرقة، وليس لشعب منها من الحرية في العلم والعمل للدنيا والدين مثل ما
لمسلمي مصر والهند وهم في مقدمة المسلمين ذكاء وفطنة ولولا ما
يعوزهم من العزيمة والثبات والاستقلال الشخصي الذي تفضلهم به الشعوب العثمانية
لكانوا هم الرجاء لسائر المسلمين، ولا أعد دعوة أحداث الوطنية في مصر مانعًا
لانتفاع المسلمين بالمصريين، فإن دعوتهم لا تزال ضعيفة لا يخشى أن
تفصل هذا العضو من جسم الملة.
إنما يكون العاملون لخير الإسلام في مصر والهند بمأمن من غائلة السياسة إذا
هم اتقوا الاصطدام بالسياسة والافتتان بها، فيجب أن يكون عملهم للإسلام نفسه لا
لهوى أمير أو مليك، ولو اتكالاً على دولة أو حكومة، ولا لأجل مقاومة السلطة، أو
معاندة القوة، ولولا افتتان المصريين بالسياسة وتعلق نفوسهم بمناهضة إنكلترا اتكالاً
على فرنسا لنجحوا في ظل حرية الاحتلال الإنكليزي نهضة كانوا بها أئمة المسلمين
ولكنهم لم يكادوا يشفوا من داء الغرور بفرنسا حتى قام من خطباء الفتنة من يغرهم
بألمانيا ويغريهم بمناصبة القوة المحتلة الحقيقية اتكالاً على قوة ألمانيا الوهمية.
يخدع بعض المصريين أنفسهم ويخادعون قومهم؛ إذ يقولون: إن الحياة
الوطنية إنما تكون بكثرة الكلام في ذم كل عمل للمحتلين وإظهار الميل عنهم إلى
غيرهم، ويتوهم الأكثرون منهم ويوهمون قومهم بأن من يعمل لخير ملته وأمته في
مصر فهو على خطر إيقاع الإنكليز به؛ لأن الحرية التي عندهم لا تعدو إباحة القول
وعمل المنكر، وإن كلاًّ لَمخطئ فيما يقول ويزعم، فإن القول لا يزلزل القوم ولذلك
أباحوه؛ فإذا آنسوا أن وراءه عملاً فلا يعجزهم إحباطه، وهم هم الذين يلعبون
بالأمم والدول كما يشاءون. وأما من يعمل في سلطتهم لخير نفسه بالاهتداء بدينه
والارتقاء في دنياه فإنهم لا يصدونه عن السبيل، ولا يقيمون في وجهه العراقيل،
وقد ارتقى وثنيو الهند في ظل حريتهم ارتقاء مبينًا والمسلمون نائمون فلم يقعدوا
القائم، ولا أيقظوا النائم، ولما انتبه المسلمون من نومهم، ودعاهم الداعي إلى
العمل لقومهم، قال لهم الإنكليز إن تعملوا لأنفسكم فإنا مستعدون، وإن تهملوا
شؤونكم فما نحن لكم إلا مهملون.
الإنكليز قوم يحبون الكسب بهدوء وسلام فهم لا يحركون أضغان الناس عليهم
ولا يقصرون في تسكين ما تحرك من نفسه أو حركة خصم آخر يناظرهم، لا
يعاندون الطبيعة ولا يساعدونها على أنفسهم، فمن استعدت طبيعته لعلم أو عمل مع
مسالمتهم، اقتنعوا بأن يستفيدوا منه بحسب حاله، فهم يرضون من العالم ما
لا يرضونه من الجاهل، ويعاملون الشعب المستقل المتحد، بغير ما يعاملون به
الشعب المستذل المستعبد فما أجبن من يقول: إنهم لا يمكنوننا من العمل، وما أجهل
من يقول لماذا لا يعملون لنا ما لا نعمل لأنفسنا؟ إنهم إذًا أعداؤنا. نعم إنهم أعداؤك
العقلاء وأنت بجهلك أعدى أعداء نفسك.
إذا ما أهان امرؤ نفسه ... فلا أكرم الله من يكرمه
هذه ما نقتحم به عقبة السياسة في مصر والهند أعيده مختصرًا، وهو أن يكون
عملنا لإحياء ملتنا وترقية أمتنا بالعلوم النافعة والأعمال المالية المشتركة والجمعيات
العلمية الخيرية مع مسالمة القوة بالصدق لا بالرياء والمخادعة، وما مسالمة القوة إلا
ترك العبث بمقاومتها لأجل قوة خارجية سواها. أما مطالبتها بترك كذا مما يضر
البلاد أو فعل كذا مما يفيدها فلا ينافي المسالمة ولا يقتضي المقاومة وإذا صار في
البلاد أمة تطالب بذلك على بصيرة وحق، فإن طلبها لا يكاد يرد إذا كان معقولاً فإن
العاقل لا يظلم مع العاقل لا سيما إذا كان أمة (الكلمة للسيد جمال الدين رحمه الله)
ولن تكون هذه الأمة أمة إلا بالحياة الملية التي ندعو إليها.
تلك الحقيقة وقد يتوهم ضعفاء العقول أن فيها مصانعة للمحتلين، وما أنا
بمحتاج إلى مصانعتهم لدنيا أريدها منهم، وهم أغنى بقوتهم وبراعتهم في استعمار
البلاد وتدبير أمور الأمم عني. ولو كنت أصانع لكنت أحوج إلى مصانعة العوام
بمجاراتهم على أهوائهم لتزداد مجلتي رواجًا فيهم أو بعض الكبراء الذين يبذلون
الأموال لمن يواتيهم على ما يريدون، وما كان هذا مني ولا ذاك ولن يكون إن شاء
الله تعالى. إن أريد إلا إقناع طائفتين من الناس بما لو اقتنعوا به رجي أن تستفيد
الأمة من عملهم: الطائفة الأولى جماعة من أهل المعرفة بما ينفع الأمة يصدهم عن
العمل لها اعتقاد أن الإنكليز واقفون بالمرصاد لكل عامل لملته لأنهم أعداؤها ولا
قدرة لنا عليهم فعلينا السكون والسكوت وهؤلاء الواهمون. والطائفة الثانية مؤلفة من
أفراد كثيرين لا يعرفون النافع للأمة والمحيي للملة، وإنما يظنون أن الواجب على كل
وطني أو مسلم أن يعتقد أن كل ما يعمله المحتلون البلاد ضارٌّ، فإن كان نافعًا في
الظاهر فهو ضار في الباطن وأن يقاوم القوم بالقول فيذمهم ويقبح أعمالهم ويظهر
الميل إلى دولة أوروبية أخرى نكاية فيهم، وهؤلاء هم المخدوعون. فأولئك لجبنهم
لا يعملون بعلمهم النافع وهؤلاء لحمقهم يقولون ما لا يفعلون، والغارّون لهم
يخادعونهم بما لا يعتقدون.
أريد العمل لما يحيي الملة وينهض بالأمة ولا حرية لنا في غير مصر والهند
فأحب أن يقدرها العارفون بالخير والشر قدرها ويستفيدوا منها لينشط أهل الهند
ولكيلا يطول على المصريين أمد الوهم وسوء الظن بالإنكليز كما طال على مسلمي
الهند فحرموا الاستفادة من حريتهم حقبة من الزمن ولم يشعروا بخطئهم إلا بعد أن
رأوا الوثنيين قد علوهم بالعلم والعمل والثروة والحكم. فحسب المصريين ربع تلك
المدة وليعلموا أن اقتحام العقبة سهل كما ذكرنا، ومن بيّن لنا خطأنا فإنا له شاكرون،
ولرأيه ناشرون، نعم إن حكومة فارس - إيران - لا تعادي العلم، ولا تمنع
الاجتماع، ولكن الشعب نائم، يحلم بظهور المهدي القائم، وهي عاجزة عن
النهوض بنفسها، وما أحوجها إلى يقظة شعبها، قبل أن يفرغ لها الجاران، فتغتالها
الغيلان.
بينَّا معنى الحياة الملية وأن رابطة الملة في الإسلام هي أقوى الروابط وأعمها
نفعًا للبشر، وأن العاقل إذا فقه سرها لا يرغب عنها ولا يفضل عليها غيرها ولو لم
يكن من أهلها وأنها الآن منحلة وأنها على انحلالها موضع للأمل، وأنه يجب على
المسلمين توثيقها وتوكيدها وأن أحرى الناس بالعمل والسعي لها مسلمو الهند ومصر؛
ويليهم مسلمو التتر في روسيا واستعدادهم قوي وستظهره الحرية المنتظرة بعد
الثورة، وإن ما يمنعهم من العمل ليس إلا وهمًا يقويه الجبن أو جهالة يمدها الخداع
والغرور. هذا وسنشير إلى اقتحام عقبة الجهل فيما يأتي:
أما العمل الواجب فلا يشرح بالتفصيل إلا للعاملين، ويجب أن يكون دائرًا
على أقطاب هذه المسائل الكلية:
(١) كون تعليم الدين مؤيِّدًا للعقائد دافعًا للشبهات الرائجة في هذا العصر.
(٢) كون تعليم التاريخ وعلم الاجتماع والأخلاق والآداب موثقًا للرابطة الملية بين
شعوب المسلمين وعناصرهم المختلفة.
(٣) تعليم العبادات مع بيان حكمها وفوائدها في تزكية النفس وتعليم أحكام
المعاملات مع بيان انطباقها على مصالح البشر ومنافعهم في هذا الزمان، ومن ذلك
بيان أن كل محرم ضار وكل حلال نافع.
(٤) تعلم العلوم الرياضية والطبيعية بقصد ترقية النفوس بمعرفة سنن الله وحكمه
في الخلق وترقية مجموع الأمة بالأعمال التي تزيد في ثروتها وعزتها.
(٥) إحياء اللغة العربية بإلزام المتعلمين التحاور بها استبدالاً لها باللغة العامية
وبتعليمهم البلاغة في القول والكتابة ليكونوا كتابًا بارعين وخطباء مؤثرين. ... ... (٦) تعليم الصنائع التي يمكن العمل بها في البلاد وفنون التجارة بقصد إنماء ثروة الأمة بغنى أفرادها.
(٧) الجمع بين التعليم على النهج الذي شرحناه وبين التربية العملية في المدارس
الإسلامية المفقودة من الأرض.
(٨) جعل مدار التعليم والتربية على استقلال الفكر واستقلال الإرادة والاستقلال
في العمل الذي يعبرون عنه بالاعتماد على النفس، وعلى حب الأمة وشرف الملة.
والكافل لهذه الأركان الثمانية هم المعلمون المربون الذين بينا وظيفتهم. وههنا
تعترضنا عقبة الجهل جهل رجال الدين - والعامة من ورائهم - بهذه الطريقة للتعليم
الديني وبفائدة العلوم الدنيوية وجهل علماء الدنيا بهذه الطريقة لتعليم علومهم. على
أن أمر هؤلاء أهون، وإرشادهم إلى المطلوب منهم أيسر، وإذا بعدنا عن علماء
الرسوم الدينية ومعاهدهم كالأزهر وما ألحق به في هذه الديار فإننا نأمن معارضتهم
ومناصبتهم لنا في تعليمنا على أن صوتهم في مصر قد خفت ونفوذهم قد ضعف،
ولا نعدم من يعلم الدين على الوجه النافع الذي أشرنا إليه حتى ممن كان تعلم في هذه
المعاهد وصادف علومًا وهداية أخرى بشرط أن يوجد المدير العام رب السلك وناظم
العقد.
لا يكون هذا إلا في المدارس الكلية فلا حياة بدونها، ولو بقي الأستاذ الإمام
حيًّا لأسست في مصر مدرسة كلية، وشرع فيها قبل مضي هذا العام فقد كان أعد لها
عدتها، وعزم على جمع المال لها في هذا الشتاء، جزاه الله عن نيته وعمله أفضل
الجزاء، وقد كان مضطلعًا بهذا الأمر ولعله يوجد في مصر من يستخدم الاستعداد
الذي تم لها كما كان يريد رحمه الله. أما إنشاء الجمعيات والشركات فإن البلاد
المصرية والهندية شرعت فيه ويرجى لها النجاح بالتدريج إن شاء الله تعالى.
هذا ما نذكر به أهل العقل والغيرة من مسلمي مصر والهند وقزان وغيرهم من
مسلمي الفرس على نومتهم، ومسلمي العثمانيين والتونسيين على ضيق عطنهم
وحيف زمنهم، وضعف مُننهم، على أن استعدادهم الفطري للعمل ربما كان أقوى،
واستقلالهم في الإرادة والفكر أقوى، ولكن اقتحام العقبتين أشق عليهم وأعسر، فهم
أحق بالاجتهاد وأجدر، ويتوقف ذلك على أعمال تعرف مما تنفثه الأخطار في
الصدور، لا مما تبثه الأفكار في السطور، وكل ميسر لما خلق له {أَلاَ إِلَى اللَّهِ
تَصِيرُ الأُمُورُ} (الشورى: ٥٣) .