للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تتمة فتوى اللباس والزي

وفد نشرت إحدى جرائد مصر مقالاً لكاتب ألماني كبير، يخطئ فيه مصطفى
كمال باشا في إكراهه لقومه الترك على تغيير زيهم الوطني، وخاصة ترك القبلق،
واستبدال البرنيطة به، وإنما خطأه تخطئة صديق ناصح، لا عدو كاشح، وقال:
إن هذا ينافي غرضه وهو تكوين القومية التركية، معللاً له بالقاعدة التي بيناها آنفًا،
وشرحناها من قبل مرارًا، ومما قاله: إن القلبق يفوق البرنيطة جمالاً ومهابة..
ونحن نظن أن مصطفى كمال باشا - وإن لم يكن من علماء الاجتماع
والأخلاق وطبائع الشعوب - لا يجهل أن المحافظة على المشخصات القومية مما
يقوي تكوين الأمة، وأن تقليد شعب لآخر يراه أرقى منه يضعف قيمة المقلد في
نظر نفسه، ويحقرها في قلوب أهلها، ويرفع منزلة الشعب الذي قلده بقدر ذلك،
ونعتقد أنه يتعمد هدم جميع مقومات الشعب التركي ومشخصاته، ما عدا اللغة؛
لأنها إسلامية، أو مستندة إلى الإسلام، وهو يريد أن يسله من الإسلام كما تسل
الشعرة من العجين إن أمكن، وإلا انتزعهم منه كما ينتزع الحسك ذو الأضلاع من
الصوف، أو انتزعه منهم كما تنتزع الروح من الجسد، وقد بحث الذين بثوا هذه
الدعوة في الترك من ملاحدة الروسيين وغيرهم عن مقومات ومشخصات تركية أو
تورانية يستبدلونها بالإسلام، حتى عبادة الذئب الأبيض الذي عبده سلفهم من همج
الوثنيين، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، فاختاروا التشبه بالإفرنج، ولا سيما أفسدهم
دينًا وآدبًا كاللاتين بحجة الحضارة والترقي العصري، وسموه التمغرب، ونحن
نسميه التفرنج، حتى إن بعضهم يستحسن استبضاع نسائهم من الإفرنج بالحلال
وبالحرام لإدخال دمهم (الشريف المدني) في دم الشعب التركي (الفاسد)
لإصلاحه.
فظهر بمجموع ذلك أن هؤلاء الزعماء الدخلاء يريدون إفساد هذا الشعب
التركي بكل نوع من أنواع الفساد الجسمي والعقلي والنفسي، وتكوين شعب آخر
في بلاده مذبذب بين أمشاج الشعوب، روحه غير روحه، ودمه غير دمه،
وأخلاقه غير أخلاقه، وعقائده غير عقائده، فيكون كلغته التي يسمونها التركية،
هي لغة هذبها الإسلام كما هذب أهلها بما دخل في مادتها من الأسماء والأفعال
العربية، وكذا الفارسية. وهم يريدون الآن أن يفعلوا بها ما يفعلون بأهلها، وإن لم
يبق فيها من لغة قدماء الترك بعد أن تتفرنج وتتمغرب معهم، وتكتب بالحروف
اللاتينية كما هو مقرر عندهم إلا قليل، وما يدرينا بعد ذلك لعلهم يغيرون اسمها
أيضًا؟
ومن الثابت في سنن الاجتماع أن تغيير القوانين والنظم والأزياء لا يغير
طبائع الأمم - كما يقول الدكتور غوستاف لوبون - فإن اللاتين الجمهوريين
كاللاتين الملكيين في تشابه حكومتهم وطباعهم، حتى إن الذين مرقوا من الدين منهم
لا تزال التربية الكاثوليكية الموروثة هي الحاكمة على قلوبهم وأرواحهم بعصبيتها،
وإنما فقدوا من الدين فضائله فقط، وكذلك السكسونيون تشابهت حكومتهم الملكية في
بريطانية، وحكومتهم الجمهورية في الولايات المتحدة كما تشابه أهلهما. فالترك
يفقدون بهذا التفرنج اللاتيني ما بقي فيهم من فضائل الإسلام ورابطته الملية، وما
كان لهم من الزعامة في مئات الملايين من البشر، ثم لا يقدرون على التفصي من
الوراثة القومية التي طبعتها الأجيال والقرون في أنفسهم.
فالغرض الأول لهم الآن التفصي من الإسلام بحجة الترقي العصري، وما
في الإسلام شيء مانع من الترقي الذي يطلبونه، وأساسه القوة العسكرية والثروة
والنظام، بل الإسلام يهدي إلى ذلك، ولولاه لم ينل العرب عقب اهتدائهم به من
القوة والحضارة ما فاقوا به جميع الأمم، وظلوا كذلك إلى أن سلبهم الأعاجم
سلطانهم بالقوة الهمجية، ونال الترك وغيرهم به حضارة وملكًا لم يكن لسلفهم مثلها،
ولا ما يدانيها، ولو أنهم فهموا الإسلام فهمًا استقلاليًّا بإتقان لغته، والاجتهاد في
شريعته، لملكوا به الغرب مع الشرق، ولسبقوا جميع شعوب الإفرنج إلى العلوم
والفنون والصناعات، وسائر أسباب القوة والسلطان كما فعل العرب من قبلهم،
وهذا ما يطلبونه الآن بترك ما بقي لهم من تقاليد الإسلام، ويتوسلون إليه بتقليد
الإفرنج في زيهم وفجورهم، قبل إتقان شيء ما من علومهم وفنونهم، والوصول
إلى مثل قوتهم وثروتهم.
أما الزي فقد علمت مما بيناه في أول هذه الفتوى أن ما ورد في السنة وعمل
السلف فيه هو الذي اتبع المسلمين فيه أرقى أمم أوربة، وأما إباحة الفسق والفجور
فهي التي أهلكت جميع أمم الحضارات السابقة، وستهلك أوربة به أيضا كما يتشاءم
جميع حكمائها وعقلائها، وسيعلم العالم مصير الترك بمحاولة مصطفى كمال جعلهم
خلقًا جديدًا بهذه الطرق التي سلكها، ونسأل الله تعالى أن يقيهم سوء عاقبتها.
وجملة القول في لبس البرنيطة وغيرها من أزياء الإفرنج: إنه مباح لذاته،
وإنما يحرم بما يكون وسيلة له من ضعف الرابطة الملية، وتفضيل مشخصات
خصوم الأمة الطامعين فيها على مشخصاتها كما يقصده المتفرنجون في بلاد الترك
وأمثالها كسورية ومصر، وإذا قصد به ما يقصده ملاحدة الترك مما شرحناه في هذه
الفتوى من التوسل به إلى الكفر كان كفرًا.
جواب س ٦ السكروتة:
اختلف أكثر الناس في هذا النسيج الذي يرد من الشرق الأقصى ما أصله؟
كما أشير إليه في السؤال، وقد سألت عنه في العام الماضي السيد محمد بن عقيل،
إذ كان ممن اتجر به، فأجابني بأنه رديء الحرير وخشنه، وظاهره أن دوده عين
دود الحرير المعروف عندنا، فإن كان له دود آخر كما روي عن آخرين من تجاره،
ففي جعله من الحرير نظر؛ لأن الديدان والحشرات التي تبني لأنفسها بيوتًا من
لعابها كثيرة، ومنها العنكبوت، وقد اتخذ الإفرنج من بيوتها قفازًا لليدين كما روي
لنا، على أنني كنت عازمًا قبل سؤال ابن عقيل عنه على استجداد ثياب منه؛ إذ
كنت ألبسها في الصيف لخفتها في الحر، ثم تركت ذلك بعد جوابه بما ذكر.
وإنني بعد كتابة ما تقدم وقبل نشره جاءني كتاب من الأخ المحب في الغيب
خادم الإسلام الأمين، ومدير المعارف في الصين (سعيد سليمان) ، ذكر فيه أنه
مرسل إليَّ قليلاً من الحرير الصيني هدية مودة، ثم جاءت الهدية فإذا هي من هذا
النسيج الذي نسميه (السكروتة) ، فعلمنا قطعًا أنهم يسمونه حريرًا.
(ج٧و٨) حكم التحلي بلبس الرجال الحرير:
قد ثبت نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير، والوعيد عليه
بعدم لبسه في الآخرة، كما في حديث الصحيحين عن عمر وأنس (رضي الله
عنهما) ، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر مرفوعًا (إنما يلبس الحرير في
الدنيا من لا خلاق له في الآخرة) ، وما ثبت من لبس النبي - صلى الله عليه وسلم
- له محمول على أنه كان قبل النهي عنه، وما قاله أبو داود من أنه لبس الحرير
عشرون نفسًا من الصحابة أو أكثر، منهم أنس (الذي روى خبر الوعيد) ،
فيحتمل أن بعضهم لم يبلغه النهي، أو أنهم حملوه على الكراهة، كما قال به بعض
العلماء، وقووه بأنه لو كان حرامًا لم يلبسه مثل هذا العدد الكثير، ولا سيما مثل
أنس (رضي الله عنه) ، ولأنكره عليهم باقي الصحابة، ولم ينقل ذلك، وحديث
التحريم فيه من العلل ما يمنع الاحتجاج به، والجمهور على أن الخالص منه حرام
على الرجال، وكذا ما أكثره حرير خلافًا للإمامية، وعلى حل ما أكثره قطن أو
صوف مثلاً وكذا المتساوي، واختلفوا هل هو من الكبائر أو الصغائر؟ فجمهور
الشافعية على أنه من الصغائر، وناهيك بتشددهم، وقال بعضهم: بل هو من
الكبائر، ورجحه ابن حجر المكي في الزواجر بناءً على ما اعتمده مؤلف أصله من
تفسير الكبيرة الذي جعل به الكبائر ٤٦٧ كبيرة، وقد عد منها ما هو مكروه عند
الجمهور تنزيهًا، وقد علمت أن بعض العلماء قال بحله، وبعضهم قال بكراهته،
وأما لبسه لحاجة كحكة فقد صح الإذن به.
(ج٩و١٠) الكبائر والصغائر وعذابهما:
اختلف العلماء في تعريف الكبيرة والصغيرة من الذنوب فقيل: إن الذنب
الواحد يكون كبيرة في بعض الأحوال وصغيرة في بعض؛ إذ من الناس من يرتكب
المعصية بجهالة من غلبة غضب أو شهوة وهو خائف وجل، ولا يلبث أن يتوب
ويصلح عملاً، ومنهم من يرتكبها بغير مبالاة بالدين، ولا خوف من الله، فالكبر
والصغر يرجع إلى حال العاصي لا إلى الذنب في نفسه، وقيل: إن مناط الكبر
والصغر ما يترتب على الذنب من الضرر الذي حرم لأجله، وقيل: إن الكبيرة ما
ورد في الكتاب أو السنة وعيد شديد عليه، وهو ما اعتمده صاحب كتاب الزواجر.
والتحقيق أن من المعاصي ما هو كبيرة في نفسه كالتي وردت بها النصوص في
الصحاح، ومنها ما يختلف باختلاف حال فاعله، ويراجع التفصيل في الزواجر.
وأما كون العقاب على الكبيرة أشد من العقاب على الصغيرة فهو ضروري.
(ج١١-١٣) مسائل عذاب القبر:
المشهور عن جمهور أهل السنة أن عذاب القبر على الروح والجسد معًا،
والمراد بعذاب القبر ما يسمونه عذاب البرزخ؛ أي: مابين الموت والحشر يوم القيامة
سواء دفن الإنسان في قبر أم لا، ففي هذه المدة يشعر الأخيار بنوع من النعيم
والأشرار بنوع من العذاب، ويقول الجمهور: إن النفس وإن كانت هي التي تشعر
بالألم وباللذة لا مانع يمنع أن يكون لها نوع اتصال بالبدن، يصحح كون العذاب
واقعًا عليهما معًا ما دام البدن موجودًا، ومن المعلوم أن الراجح عند متكلمي
الأشاعرة أن الجسم ينعدم فلا يبقى منه شيء، أو إلا عجب الذنب كما قال في
الجوهرة:
وقل يعاد الجسم بالتحقيق ... عن عدم وقيل عن تفريق
ونقل السفاريني في شرح عقيدته عن شيخ الإسلام ابن تيمية أن بعض أهل
السنة يقولون كالمعتزلة: إن البرزخ على الروح فقط، وإنما يكون العذاب على
الروح والجسد معًا بعد البعث، قال: وهذا القول قاله طوائف من المسلمين من أهل
الكلام والحديث وغيرهم، وهو اختيار ابن حزم وابن مرة (قال) : وليس هذا من
الأقوال الشاذة، بل هو مضاف إلى من يقر بعذاب القبر، ويقر بالقيامة، ويثبت
معاد الأبدان والأرواح إلخ (ص٢٢ج٢)
ثم نقل السفاريني (في ص٢٤ منه) أدلة ابن حزم في كتابه (الفصل في الملل
والنحل) على امتناع حياة الإنسان بعد موته قبل يوم القيامة، وتعقبها بما لابن القيم
فيها من التفصيل والتحقيق الذي يؤيد به جمهور أهل السنة.
وأما كون ذلك العذاب مستمرًّا دائمًا أو منقطعًا فظواهر بعض النصوص تدل
على أنه غير دائم، منها قوله تعالى في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُواًّ
وَعَشِياًّ} (غافر: ٤٦) ، قالوا هي في عذاب البرزخ بدليل ما بعدها وما ورد من
دوام عذاب جهنم، ومنها ما جاء في الصحيحين من خبر اللذين يعذبان في قبورهما،
وإن وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - جريدة خضراء شقها وغرزها على
كل قبر منهما مما يرجى أن يكون سبب التخفيف عنهما، وهذا من أمور الغيب التي
لا تعرف إلا بنص من الشارع، وأقرب منه ما ورد من الأمر بالاستغفار للميت، والدعاء له بالتثبيت عند دفنه؛ إذ هو داخل فيما صح من نفع الدعاء عند الله تعالى.
ورد في بعض الأحاديث أن بعض الأعمال الصالحة في الدنيا تنجي فاعلها
من فتنة القبر وعذاب القبر: كالرباط في سبيل الله، وقراءة سورة {تَبَارَكَ الَّذِي
بِيَدِهِ المُلْكُ} (الملك: ١) رواهما الترمذي، وقد أوجزنا في هذه المسائل؛ لأن ما
صح من أخبار عالم الغيب لا ينبغي البحث في صفته وكيفيته ولا الزيادة فيه على
الوارد، ولا يجوز قياسه على المعهود لنا في حياتنا الدنيا، وقد ضرب أبو حامد
الغزالي لمنكري عذاب القبر مثلاً ما يراه النائم أحيانًا من ألم يمسه أو ثعبان يلسعه
ولا يرى عليه أثر للألم بحيث يعرفه من في حضرته.
(ج أسئلة ١٤- ١٦) العقاب على حقوق العباد:
من مات وعليه حقوق للعباد من قتل عمد، وديون، ومظالم، وخيانات،
وسرقات، وكذب، وغش لأناس لم يسامحوه بها في الدنيا؛ يعاقبه الله تعالى عليها
في الآخرة، وإن عذبه في البرزخ فإن عذاب الآخرة هو الجزاء الأوفى الذي يكون
بعد الحساب، وأما عذاب البرزخ فهو دون ذلك، ولعله مبني على ما تشعر به
النفس من دنسها وخبثها وسوء تأثير الشرور والفساد والعصيان فيها، والتوبة قد
تسقط عن التائب حقوق الله - عز وجل - ولكنها لا تسقط حقوق العباد، والعقاب
على حقوق العباد نوعان بَيَّنَهُمَا النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (المفلس
من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا،
وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته
وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم
فطرحت عليه، ثم طرح في النار) رواه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة.
(ج١٧) تفسير حديثين:
أما حديث (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله
فيغفر لهم) ، فقد رواه مسلم بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة بزيادة القسم في أوله
(والذي نفسي بيده) ، ورواه من حديث أبي أيوب الأنصاري بلفظ (لولا أنكم
تذنبون؛ لخلق الله خلقًا يذنبون يغفر لهم) ، وبلفظ (لو أنكم لم تكن لكم ذنوب
يغفرها الله لكم لجاء الله بقوم لهم ذنوب يغفرها الله لهم) ، وكان أبو أيوب - رضي
الله تعالى عنه - يكتم هذا الحديث طول حياته؛ خوفًا من تهاون بعض الناس
بالذنوب اتكالاً على المغفرة، ثم حدث به حين حضرته الوفاة؛ لئلا يكون كاتمًا للعلم.
والمراد من الحديث ترغيب المذنبين في الرجوع إلى الله وطلب المغفرة منه،
وعدم اليأس من رحمته، فهو دواء لمن يغلب عليه الخوف من عقاب الله تعالى
حتى يخشى عليه القنوط من رحمته تعالى، ومعناه أن المغفرة من صفات الأفعال لله
عز وجل، ومن أسمائه الغافر والغفار والغفور، ولا يتحقق ذلك إلا بوجود مذنب
يغفر ذنبه، كما أن من شأن الإنسان أن يذنب جاهلاً أو ناسيًا أو مغلوبًا لغضبه أو
شهوته، ومن شأن المؤمن أن يندم إذا أذنب، ويستغفر ويكفر عن ذنبه، ومن
شأن الرب الغفور الرحيم أن يقبل التوبة، ويستجيب للمستغفرين، قال تعالى:
{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: ٨٢) ، وقال عز
وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ
مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العَامِل} (آل عمران: ١٣٥- ١٣٦) .
ويقابل ذلك أن من أسمائه تعالى المنتقم؛ أي: المجازي بالحق والعدل، ويجمع
بين الأمرين قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ
العَذَابُ الأَلِيمُ} (الحجر: ٤٩-٥٠) ، ومن عقائد أهل السنة الإيمان بوعد الله
ووعيده، وأن الوعد لا يتخلف جملة ولا تفصيلاً، وأن الوعيد ينفذ في الكافرين،
وفي طائفة من عصاة المؤمنين، وهم الذين لا تدركهم المغفرة، وأنه يجب على
المؤمن الخوف من الله والرجاء في الله؛ إذ لا يعلم المغفور لهم إلا الله، ولأبي
الحسن الشاذلي - من أئمة الصوفية - كلمة جامعة في ذلك، وهي: (وقد أبهمت
الأمر علينا؛ لنرجو ونخاف، فأمن خوفنا، ولا تخيب رجائنا) .
وأما حديث (كل شيء بقدر [١] حتى العجز والكيس) ، أو قال: (الكيس
والعجز) ، فقد رواه أحمد ومسلم، كما قال، فهو صحيح السند، والكيس بوزن
البيع: مصدر كاس يكيس، وهو الحذق وحسن التصرف في الأمور، ويقابله
العجز عن حسن التصرف والقيام بالواجب، ومنه حديث (الكيس من دان نفسه،
وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني) ،
رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححوه. ومعنى الحديث المسؤول
عنه أن الغرائز والصفات النفسية للبشر مخلوقة بقدر الله تعالى الذي أقام به نظام
الكون، وليست من المصادفات أو من الجزاف، وذلك أن القدر هو النظام الذي سبق
في علم الله تعالى لخلق الأشياء، فلم يقع شيء في العالم إلا بخلقه تعالى وتقديره
السابق في علمه، ومنكرو القدر يزعمون أن الله تعالى يخلق الأشياء جزافًا، كما يريد
عند خلقها لا بحسب ما قدره ودبره، وسبق به علمه الأزلي، وهو ما يعبرون عنه
بقوله: (الأمر أُنف) ؛ أي: جديد مستأنف، ولفظ القدر ينافي هذا المعنى، وهو
ثابت بنص القرآن كقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: ٤٩) ،
وقوله: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} (الحجر:
٢١) ، وقد فصلنا هذه المسائل من قبل مرارًا.