(س ٤٢ ٤٤) من صاحب الإمضاء. حضرة الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا دام بقاه السلام عليكم، أرجوكم إجابتي عن الأسئلة الآتية: ١ - ما معنى الباقيات الصالحات في قوله تعالى: {المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} (الكهف: ٤٦) . ٢ - هل يجوز إعطاء جماعة الدعوة والإرشاد من مال الزكاة؛ ليضعوه في مشروعهم الخاص بالمسلمين، فإن جاز، فهل يجوز نقلها لهم لمحلهم، ولو كان أبعد من مسافة القصر كَمِن الإسكندرية لمصر. ٣ - ما معنى الدنيا والآخرة وحرثهما في الآيات، وما ماثلها {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} (الشورى: ٢٠) {مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (هود: ١٥-١٦) فهل الذي يعمل للدنيا يبعد عن الآخرة ويقرب من عذابها؟ وما هو العمل الخاص بالآخرة. أفيدونا ولكم الأجر والثواب. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد ميلاد (الباقيات الصالحات) أما الجواب عن السؤال الأول فهو أن الباقيات الصالحات هي الأعمال التي تصلح بها النفس وتتزكى، حتى تكون أهلاً لدار الكرامة في الآخرة، سميت باقيات؛ لأن أثرها يبقى في نفس عاملها بما تطبع فيها من الملكات الفاضلة والصفات الجميلة التي يترتب عليها الجزاء بالحسنى في الآخرة، وذكرت في مقابلة المال والبنين اللذين كان المشركون يفاخرون بهما فقراء المسلمين من السابقين الأولين كعمار وصهيب، ويظنون أنهم ينالون بهما سعادة الآخرة، كما حكى الله عنهم غرورهم بهما في قوله: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} (سبأ: ٣٥) . *** (إعطاء مال الزكاة لجماعة الدعوة والإرشاد) وأما الجواب عن السؤال الثاني فهو القول بجواز إعطاء جماعة الدعوة والإرشاد من مال الزكاة؛ لأنها تنفق هذا المال في مصارفه الشرعية؛ لأنها تعلم طائفة من الفقراء والمساكين وتربيهم وتنفق عليهم، ومن هذه المصارف ما فرضه الله تعالى لصنف المؤلفة قلوبهم وهذه الجماعة، هي الجديرة بمعرفة هذا الصنف والاستعانة بمال الزكاة على تأليف أفراده؛ ليتمكن الإيمان من قلوبهم بتصديها للدعوة إلى الإسلام. وقد اختلف الفقهاء في جواز نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر، فمنعه بعضهم؛ واستدلوا بحديث معاذ عند الشيخين؛ إذ أمره عندما أرسله إلى اليمن أن يأخذها من أغنيائهم ويضعها في فقرائهم، وما في معناه. وأجازه آخرون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل عماله، فيأتون بالزكاة من الأعراب إلى المدينة، فينفق منها على فقراء المهاجرين والأنصار، وهذا معروف مشهور، وحديث معاذ وغيره ليس فيه ما يدل على منع النقل، ولكنه قد يدل على أنه خلاف الأصل؛ إذ النقل لا يكون إلا لسبب أو مصلحة، وهذا هو المختار عندي في المسألة. تظهر حكمة الشرع ظهورًا بينًا في قيام أغنياء كل بلد بسد ضرورات وحاجات الفقراء والمساكين فيها، فإن البائس المعوز الذي تراه هو أولى برحمتك ورعايتك ممن تسمع ببؤسه وإعوازه على البعد، وأجدر أن تحول بينه وبين حسده لك على ما يرى من نعمتك، وتمني زوالها عنك، وإنما يكون ذلك بأن تفيض عليه منها، وتجعل له نصيبًا فيها، والبلاد المجاورة لبلدك التي تعرف فقراءها أو يعرفونك حكمها حكم بلدك، وهي التي يتردد أهلها بعضهم على بعض عادة، وإن كانت دون مسافة القصر، فهذه المسافة التي يقدر بعض الفقهاء بها لا دليل عليها، ولا يظهر ما ذكرنا من الحكمة ولا غيره فيها وحديث معاذ في أهل اليمن كافة، فهو إن دل على منع نقل الزكاة، فإنما يدل على منع نقلها من القطر اليماني الذي جعل عاملاً عليه إلى الحجاز وغيره من البلاد التي لا ولاية له عليها، فالمنع لأجل الولاية لا لأجل المسافة، فيكون مخصوصًا بما يأخذه الولاة والعمال؛ كزكاة الأنعام والزرع. وإما ما يوزعه المالك من زكاته فلا دليل على الحجر عليه فيه. ويظهر من عبارة الحديث أيضًا تخصيصه بسهم الفقراء والمساكين، ويلزمه سهم العاملين عليها خاصة؛ لأنهم يأخذونه مما يجمعونه، فالذي يجمع زكاة أهل اليمن مثلاً لا يأخذ سهمه من زكاة أهل الحجاز. وهذا إذا كان كل وال يوزع زكاة البلد الذي يتولاه فيه. وكذلك المؤلفة قلوبهم والغارمون وأبناء السبيل، يعطون سهامهم حيث يوجدون، والأقرب منهم أولى من الأبعد على ما ذكرنا في الفقراء، فلا يتجاوز الأقرب مكانًا أو نسبًا إلا لمصلحة؛ كأن يرى المزكي أن من في البلد الآخر أحوج، أو أن إعانته أنفع. وأما السهم الذي في سبيل الله فمجاله أوسع ولا سيما على ما اختاره الأستاذ الإمام من شموله لمصالح المسلمين العامة كلها. *** (حرث الدنيا والآخرة) وأما الجواب عن الثالث؛ فهو أن الحرث عبارة عن الزرع، ومنه الأثر المشهور: الدنيا مزرعة الآخرة والحرث والزراعة هنا من باب المجاز، فمريد حرث الدنيا هو من يعمل عمله فيها؛ لأجل التمتع بلذاتها، لا يبتغي من حياته فيها غير ذلك. ومريد حرث الآخرة هو من يعمل أعماله التي هي غرضه من حياته لأجل الآخرة، أي يكون مخلصًا في عباداته ويلتزم في معاملاته أحكام الشرع التي تحدد بها الحقوق، فلا يظلم ولا يأكل مال أحد بالباطل، ويتحرى الحق وعمل الخير، فيتصدق من فضل ماله على الأفراد وفي المصالح العامة، وهو يتمتع بالطيبات وزينة الدنيا من طريق الحل، ولكن ذلك لا يكون هو مراده من حياته، بل يكون له مراد أعلى وهو الاستعداد لحياة الآخرة الباقية، وقد فصلنا القول في هذه المسألة تفصيلاً في تفسير قوله تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} (البقرة: ٢٠٠-٢٠١) .. إلخ فراجعه في الجزء الثاني من التفسير، وقوله تعالى: ?? {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} (آل عمران: ١٤٥) وقوله تعالى: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} (آل عمران: ١٥٢) فراجعهما في الجزء الرابع من التفسير.