ذكرني بالشوقيات صدور أمر مولانا العزيز العباس أيده الله تعالى بالإنعام على صاحبها الأديب الفاضل أحمد شوقي بك بلقب (شاعر الحضرة الخديوية) والإذن له بأن يكتب هذا على دواوينه ومؤلفاته. ذكرني هذا - وما كنت ناسيًا - بأن صاحب الشوقيات تفضل بإهدائها وأنني لما أقيم بشكر هذه اليد له بالتقريظ الذي تستحقه , وما كان مني هذا عن تعمد ولكنني نظرت فألفيت أن التقريظ إما إظهار محاسن الكتاب الذي يقرظ للتشويق إليه والترغيب فيه وإما الانتقاد على مساوئه. فأما إظهار المحاسن لأجل التشويق فما أغنى غانيات (الشوقيات) عنها وعن لازمها من الإشهار فهي التي جاوزت الأمصار حتى عمت شهرتها الأقطار. سارت بها الركبان تطوي نفنفًا ... فنفنفًا وسبسبًا فسبسبًا ولذلك لجأ الأدباء والكتاب في تقريظها إلى الكلام العام في الشعر ومحاسنه وتأثير التخييل في الوجدان، والحمل على ما يريد الشاعر منه، والشوقيات لم تدع في هذا المقام مقالاً لقائل حيث وفته حقه في المقدمة التي شهدت لشوقي بك بالإجادة في المنثور كالمنظوم، وهي التي لم تتفق - كما قال ابن خلدون - إلا للأقل. نعم إنه في الشعر أعلى كعبًا وأرسخ قدمًا , وإن روح الشعر اللطيفة تطوف في جميع منثوره. وأما الانتقاد فالشوقيات أعصى منظوم العصر على الانتقاد السديد. معان عالية. وعبارات زاهية. وأفكار دقيقة. في أساليب رشيقة. اللهم إلا ما لا يخلو عنه كلام المولدين ولا سيما المتأخرين من كلمة لم تنطق العرب بها. أو لفظة وضعت في غير موضعها. كلفظ (احتار) فقد استعمله شوقي وإنما سرى إليه من مثل ابن الفارض القائل: وما احترت حتى اخترت حبيبك مذهبًا ... فواحيرتى إن لم تكن فيك خيرتي والشيخ عبد الغني النابلسي القائل: حكم حارت البرية فيها ... وحقيق بأنها تحتار ومن هنا سمى ابن عابدين حاشيته المشهورة (رد المحتار إلى الدر المختار) أما ابن الفارض فقد أوقعه في الخطأ الغرام بالتجنيس وتبعه ابن عابدين فيه، وأما النابلسي فلعلها سرت إليه من استعمال مثل ابن الفارض، وكذلك شأن شوقي بك وغيره. مثل هذه الهنات لا تذكر في تقريظ الكتب إلا ممن يتصدى لخدمة اللغة بإظهار أغلاط الخواص كما فعل الحريري ونواب بهوبال وعند ذلك يكون تناول الشوقيات بيد الانتقاد تعظيمًا لشأنها فإن أكثر شعراء العصر وكتابه لا تحصى أغلاطهم وخطؤهم وإنما يحصى صوابهم. للشوقيات أبواب تدخل فيها أنواع القول وفنونه , وضروبه وشجونه من آداب وأخلاق , وحكم وأمثال , وغزل ونسيب , ومديح ورثاء , وحاشاها من الذم والهجاء , فقد ضربت آداب (شوقي) بينه وبين الهجو بسور لا باب له فيفتح , ولا يخرق ولا يتسلق , فأما حكمه ومواعظه فصوادع , وأما غزله فخلوف رائع , وأما مديحه فقد أحله محله , وارتقى به إلى مكانة تليق به , فجعله مقصورًا على أمراء مصر - إسماعيل , وتوفيق , ومولانا العباس أطال الله حياته. وأما الرثاء فلم يتجاوز به الأمراء. إلا إلى بعض العلماء والكبراء. ولا تسل عن سائر الشجون. وما فيها من الفنون والفتون. وأعلى من هذا كله وهو القول الوحيد الذي أقرظ به الشوقيات أن في الكلام (روح التأثير) وهو الغاية التي تقصد بالبلاغة فإذا وفق صاحب الشوقيات للنظم في انتقاد العادات ونحوه من المواضيع الاجتماعية الإصلاحية ينفع أمته نفعًا يحفظه له التاريخ ويشكره له الله تعالى والناس. وبهذا يكون الشعر من أنفع وسائل التهذيب وأجل حاجات العمران خلافًا لما في الصفحة ١١ من مقدمة الشوقيات من إطلاق أنها من الكماليات الأدبية فإن قولهم هذا إنما يصح باعتبار صناعة الشعر وانتحالها لا بالنظر إلى آثارها , ولنا في هذا المقام كلام نرجئه لفرصة أخرى.