للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي


نساء العرب السياسيات
مقتبس من كتاب سيرة السيدة (خديجة أم المؤمنين) [*]
للشهيد الشهير السيد عبد الحميد الزهراوي
رحمه الله تعالى

ولقد كان كثير من نساء العرب يشاركن في السياسة , والأمور العمومية ,
وناهيك أن الحرب التي ظلت مستمرة نحوًا من أربعين سنة بين بني ذبيان , وبني
عبس لم يتفكر في إطفاء نارها إلا امرأة , ولم تتمكن من إطفائها إلا بما لها من
المكانة , وحسن الرأي , وذلك أن بيهسة بنت أوس بن حارثة بن لام الطائي لما
زوجها أبوها من الحارث بن عوف المري , وأراد أن يدخل عليها قالت: أتتفرغ
للنساء , والعرب يقتل بعضها بعضًا؟ - تعني بني عبس وبني ذبيان - فقال لها:
ماذا تقولين؟ قالت: (اخرج إلى هؤلاء القوم , فأصلح بينهم , ثم ارجع إلي) ,
فخرج وعرض الأمر لخارجة بن سنان , فاستحسن ذلك , وقاما كلاهما بهذا الأمر ,
فمشيا بالصلح , ودفعا الديات من أموالهم.
وحسبك من اشتهرن من العربيات في السياسة، منهن اللاتي كن من شيعة
الإمام علي أيام مناصبة معاوية له كسودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانية، وبكارة
الهلالية، والزرقاء بنت عدي بن قيس الهمدانية، وأم سنان بنت جشمة بن خرشة
المذحجية، وعكرشة بنت الأطرش بن رواحة، ودارمية الحجونية، وأم الخير
بنت الحريش بنت سراقة البارقي , وأروى بنت الحارث بن عبد المطلب الهاشمية.
وفدت سودة على معاوية بعد موت علي , فاستأذنت عليه؛ فأذن لها , فلما
دخلت عليه؛ سلمت سودة , فقال لها: (كيف أنت يا ابنة الأشتر؟) , قالت:
(بخير يا أمير المؤمنين) ، قال لها: آنت القائلة لأخيك:
شمر كفعل أبيك يا ابن عمارة ... يوم الطعان وملتقى الأقران
وانصر عليًّا , والحسين , ورهطه ... واقصد لهند وابنها بهوان
إن الإمام أخا النبي محمد [١] ... علم الهدى ومنارة الإيمان
فقد الجيوش , وسر أمام لوائه ... قِدَمًا بأبيضَ صارمٍ وسنان
قالت: يا أمير المؤمنين، مات الرأس، وبتر الذنب، فدع عنك تذكار ما قد
نسي) , فقال: (هيهات , ليس مثل مقام أخيك ينسى) , قالت: (صدقت والله يا
أمير المؤمنين، ما كان أخي خفي المقام، ذليل المكان، ولكن كما قالت الخنساء:
وإن صخرًا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
وبالله أسألك يا أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيته. قال: (قد فعلت ,
فقولي حاجتك) , فقالت: (يا أمير المؤمنين إنك للناس سيد، ولأمورهم مقلد، والله
سائلك عما افترض عليك من حقنا، ولا تزال تقدم علينا من ينهض بعزك، ويبسط
بسلطانك، فيحصدنا حصاد السنبل، ويدوسنا دياس البقر، ويسومنا الخسيسة،
ويسألنا الجليلة، هذا ابن أرطاة قدم بلادي، وقتل رجالي، وأخذ مالي، ولولا
الطاعة لكان فينا عز ومنعة، فإما عزلته؛ فشكرناك، وإما لا؛ فعرفناك) , فقال
معاوية: (إياي تهددين بقومك؟ والله لقد هممت أن أردك إليه على قتب أشرس ,
فينفذ حكمه فيك) , فسكتت , ثم قالت:
صلى الإله على روح تضمنه ... قبر فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالف الحق لا يبغي به ثمنا ... فصار بالحق والإيمان مقرونا
قال: (ومن ذلك؟) , قالت: (علي بن أبي طالب رحمه الله تعالى) , قال:
(ما أرى عليك منه أثرًا) , قالت: (بلى أتيته يومًا في رجل ولاه صدقاتنا , فكان
بيننا وبينه ما بين الغث والسمين , فوجدته قائمًا , فانفتل من الصلاة , ثم قال برأفة
وتعطف: (ألك حاجة؟) , فأخبرته خبر الرجل , فبكى , ثم رفع يديه إلى السماء
فقال: (اللهم إني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا ترك حقك) , ثم أخرج من جيبه قطعة
من جراب , فكتب فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
{قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} (الأعراف: ٨٥) , {وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن
كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} (هود: ٨٥-٨٦) , إذا أتاك كتابي هذا ,
فاحتفظ بما في يديك حتى يأتي من يقبضه منك , والسلام) .
قال معاوية: (اكتبوا لها بالإنصاف لها , والعدل عليها) , فقالت: (أَلِي
خاصة , أم لقومي عامة؟) فقال: (ما أنت وغيرك؟) قالت: (هي والله الفحشاء
واللؤم؛ إن كان عدلاً شاملاً , وإلا يسعني ما يسع قومي) , قال: (اكتبوا لها
بحاجتها) .
ووفدت بكارة الهلالية أيضًا على معاوية بعد موت علي , فدخلت عليه , وكان
بحضرته عمرو بن العاص , ومروان , وسعيد بن العاص , فجعلوا يذكرونه
بأقوالها التي قالتها في مشايعة علي , ومعاداة معاوية , فقالت: (أنا والله قائلة ما
قالوا , وما خفي عنك مني أكثر) , فضحك , وقال: (ليس يمنعنا ذلك من برك) .
وكتب معاوية إلى عامله بالكوفة أن يوفد إليه الزرقاء ابنة عدي بن قيس
الهمدانية مع ثقة من ذوي محارمها , وعدة من فرسان قومها , وأن يوسع لها في
النفقة , فلما وفدت على معاوية؛ قال: (مرحبًا قدمت خير مقدم قدمه وافد , كيف
حالك؟) فقالت: (بخير يا أمير المؤمنين) , ثم قال لها: (ألست الراكبة الجمل
الأحمر , والواقفة بين الصفين تحضين على القتال , وتوقدين الحرب , فما حملك
على ذلك؟ قالت: (يا أمير المؤمنين، مات الرأس , وبتر الذنب، ولا يعود ما
ذهب، والدهر ذو غير، ومن تفكر؛ أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر) . قال لها:
(أتحفظين كلامك يومئذ؟) قالت: (لا - والله - لا أحفظه) , قال: (لكني
أحفظه) , وتلا عليها خطبة من خطبها التي هي في منتهى البلاغة , ثم قال لها:
(والله يا زرقاء لقد شركت عليًّا في كل دم سفكه) , قالت: (أحسن الله بشارتك ,
وأدام سلامتك؟ فمثلك يبشر بخير , ويسر جليسه) ، قال: (أو يسرك ذلك؟) ,
قالت: (نعم والله) فقال: (والله لوفاؤكم له بعد موته، أعجب من حبكم له في
حياته، اذكري حاجتك) , فقالت: (يا أمير المؤمنين، آليت على نفسي أن لا أسأل
أميرًا أعنت عليه أبدًا , ومثلك من أعطى من غير مسألة، وجاد عن غير طلبة) ,
قال: (صدقت) وأمر لها وللذين جاءوا معها بجوائز.
ووفدت عليه أيضًا أم سنان بنت جشمة , وعكرشة بنت الأطرش، ولما حج
سأل عن دارمية الحجونية , فجيء بها إليه , فقال لها: بعثت إليك؛ لأسألك:
علام أحببت عليًّا وأبغضتني , وواليته وعاديتني؟ فاستعفته؛ فلم يفعل , فقالت
له: (أحببت عليًّا على عدله في الرعية، وقسمه بالسوية، وأبغضتك على قتال من
هو أولى منك بالأمر، وطلبتك ما ليس لك بالحق، وواليت عليًّا على حبه المساكين،
وإعظامه لأهل الدين، وعاديتك على سفكك الدماء، وجورك في القضاء، وحكمك
بالهوى. ثم قال لها: يا هذه هل رأيت عليًّا؟ قالت: (إي والله) قال: (فكيف
رأيته؟) قالت: (رأيته - والله - ولم يفتنه الملك الذي فتنك، ولم تشغله النعمة التي
شغلتك) , قال: (فهل سمعت كلامه؟) قالت: (نعم - والله - فكان يجلو القلوب
من العمى كما يجلو الزيت صدأ الطست) قال: (صدقت , فهل لك من حاجة؟)
قالت: (نعم تعطيني مائة ناقة حمراء) قال: (ماذا تصنعين بها؟) فقالت: (أغذو
بألبانها الصغار، وأستحيي بها الكبار، وأكتسب بها المكارم، وأصلح بها بين
العشائر) قال: (فإن أعطيتك ذلك , فهل أحل عندك محل علي بن أبي طالب؟)
قالت: (سبحان الله , أو دونه؟) ، فقال: (أما والله لو كان علي حيًّا ما أعطاك منها
شيئًا) , قالت: (لا والله , ولا وبرة واحدة من مال المسلمين) .
وكذلك وفدت عليه أم الخير بنت حريش من الكوفة , ووفدت عليه أروى بنت
الحارث , وجرى لهما معه حديث من مثل ما تقدم.
فهكذا كان مقام المرأة العربية، من أخوات سيدتنا القرشية، وهكذا كان
حظهن من الفصاحة , والحصافة، ومبلغهن من المشاركة في الأمور العمومية ,
والأخذ بالأسباب، والمشايعة لبعض الأحزاب، وما أتينا إلا باليسير؛ توطئة
لمعرفة مقام السيدة خديجة في قومها.