للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المؤتمر النجدي الشوري العام
ومثال ديمقراطية الإسلام

(ننقل تفصيل هذا النبأ العظيم عن العدد ٢٠٨ من جريدة (أم القرى)
الغراء ثم نُقَفِّي عليه ببيان ما فيه من الفوائد والعبر) قالت الجريدة:

عوامل الاجتماع
لقد علم القاصي والداني ما كان من نقض العراق لعهودنا واختراقها لحرمة
استقلالنا، وامتهانها لمبادئ الحقوق المتبادلة بين الجوار، ونصبها لحبائل الشر
بإقامة حصون بصيه والشبكة والسلمان، وعزمها على إتمام ذلك بسلسلة من
حصون تطوق بها نجدًا في أراضٍ هي ملك نجد وأهله من قبل ومن بعد، وإنما
ظروف قاهرة مجبرة حكمت بالتنازل عن تلك الأراضي بالكره للعراق على أن تبقى
مرتعًا للجميع فاتخذتها حكومة العراق قاعدة لحصون ومعاقل تريد بها في الظاهر
حفظ الأمن في دارها وفي الباطن والحقيقة ليس لها منها غرض غير جعلها مركزًا
لمهاجمة نجد ومنع أهل نجد من ارتياد مراتعهم ومياههم كما نص على ذلك في بنود
عهدية صريحة لا تحتمل تأويلاً ولا تضليلاً.
غضب لذلك أهل نجد في العام المنصرم غضبتهم، وظهرت بوادر غيظهم
ونقمتهم ببضع غزوات قام بها بعضهم واجتمع منهم لغزو العراق كله دفاعًا عن
بلادهم الذين ظنوا أن الاعتداء على الآمنين من أهل نجد في عقر دارهم مما يُسَكِّن
جأش الغاضبين من نقض العراق لعهده في بناية تلك الحصون، فكان جوابهم أن
غلت مراجل القلوب، وانكشف الغطاء عما في الصدور، من أن هذه النفوس
العربية المنحدرة من أصلاب الشم الأشاوس، أباة الضيم من العرب الخالدين
بمآثرهم وأخلاقهم لن تقر على ضيم، ولن ترضى بالدَّنِيَّة، وأنه لا سبيل إلى
صبرها على انتقاص شيء من كرامتها، أو خفر مثال حبة من خردل من ذمتها،
فهبت تلك الهبة التي علم الناس بعض أخبارها، ولم يكن من جلالة الملك في تلك
الأيام الرهيبة التي عزم فيها أهل نجد على أن يبيعوا الدماء فيها بثمن بخس
ويهدروها بغير حساب إلا أن يشد بيديه على تلك النفوس الجامحة فيكبح جماحها
ويرد عصيها ويوقف سيلها بعزمه وحزمه، وقد استعمل في ذلك أسلوب الإقناع
فوعد الذين طارت حلومهم أنه سيوصل نجدًا إلى حقها بطريق السلم والسكينة،
فأطاع الناس أمره، وأمسكوا على أنفسهم يستنجزونه وعده، وينظرون ما تأتي به
المفاوضات.
ترك جلالة الملك نجدًا تغلي مراجلها ويمم الحجاز حيث وصل إليه المندوب
المفوض البريطاني ومستشاروه من موظفي العراق، وكان حوار وأحاديث انتهت
بما علم الناس من إصرار الفريق الثاني المفاوض على استبقاء ما بني من قلاع
وحصون وزاد في حراجة الموقف أنه والمفاوضون يتفاوضون كانت سيارات من
في العراق تجوس خلال الديار النجدية والطيارت تصب العذاب على الآمنين
المطمئنين في (لينا) و (جالها) وما والاها من ديارنا النجدية، وكان من جراء
إصرار المسئولين في العراق على ذلك الموقف أن أعلن كل من الفريقين المتفاوضين
صاحبه أننا وصلنا للفشل من مفاوضتنا، ولم ننجح وانقطع حبل البحث على (لا
شيء) .
***
النفس العالية
إن القلب العظيم الذي يشعر بمسئولية عظيمة أمام ربه ثم أمام ضميره الحي
الذي امتلأ شرفًا وشهامة وشجاعة ونبلاً لا يستصغر الموقف الذي وراء انقطاع
المفاوضات على ذلك الشكل وبلاده وشعبه ومحارمه موضوعة على كفه ينظر إليها
ليحميها والخطر يداهم هذا الحمى، أيوقد النار ويضرب القلوب بالحديد حتى تنال
تلك النفوس إحدى الحسنيين، أم يغمض العين على قذى، وذلك ليس من دأبه ولا
شيمته؟ النفوس جامحة، والقلوب طائرة، والأهواء متضاربة، والخصم مُصِرٌّ
على نكثه ونقضه، أيطلق للجواد العنان؟ وإذا أطلقه أين يصل بالجواد المدى؟
ومن يردي إذا عدا؟
***
كتاب الدعوة
إن قوة الإيمان في النفس العالية الكبيرة لتجسم لصاحبها المخاطر وتكثر لديها
المحاذير، أما هذا المواقف وأمام هذه المخاطر العظيمة لم ير جلالة ملك الحجاز
ونجد، وملحقاتها عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل إلا أن يرى السير محفوفًا
بمخاطر لا يريد تحمل مسئوليتها بنفسه، بل رأى أن يكون واحدًا من أفراد شعبه
يتحمل من المسئولية ما يتحمله أدناهم؛ لأن خشيته من ربه وخوفه من عقابه لم
تحمله على تحمل ما يبصر من مستقبل الحوادث، لذلك لما وصل إلى نجد بعث لكافة
أهل نجد بكتاب (يستقيله ببيعتهم ويدعوهم للاجتماع لانتخاب (ولي الأمر) لهم
يسير بهم حسبما يُجْمِعُون عليه أمرهم في الخطة التي يرونها، وإن عبد العزيز بن
عبد الرحمن الفيصل واحد من أولئك الجمع من العرب المسلمين يرى في (ولي
الأمر أو الإمام) ما تراه الجماعة) .
***
تأثير الكتاب
صارت النجائب بصور من الكتاب الرهيب شرقًا ومغربًا وجنوبًا وشمالاً،
تخبر البادية والحاضرة، حتى جاب النبأ نجدًا بكامله في أقل من شهر فضجت نجد
للهول، ولم يكن ما أصابها من سماع ذلك النبأ من ألم وحزن ليوازيه حزن أو ألم
لحادث من حوادث الزمان؛ إذ إنهم يعلمون أن الله بعبد العزيز قد أعطاهم كل ما
يتمتعون به من استقلال وبلاد وأمن وراحة، وكانوا قبله شيعًا وقبائل يعدو بعضهم
على بعض ويتخطفهم الناس من كل مكان، فمهما فقدوا فهم يرجون من الله أن يرده
لهم بفضله ثم بسعي عبد العزيز، ولكنهم إن ترك عبد العزيز أمرهم ضاعت ريحهم
وفقدوا كل شيء.
سمع الناس النبأ فأصابتهم السكرة منه ثم أخذوا يشدون الرحال للرياض
وقلوبهم تطير فزعًا، وقدم أكثرهم النجائب أمامه تنهب الأرض نهبًا؛ لتخبر من
في الرياض أن النفوس طارت خوفًا وفرقًا لنبأ الأنباء، وإننا قادمون طائعين راجين
مستغفرين، ولو أن المجال يتسع لنشر ما ورد من الكتب من جميع أنحاء نجد لرأى
الناس حقيقة الروعة التي أصابت النجديين من ذلك الخبر العظيم.
لقد حاسب كل من تلقى الدعوة العامة نفسه وحادثها في سره ماذا لعل الإمام
نقد عليَّ شيئًا؟ أو تأثر من عمل حتى عزم على ما عزم عليه، أو لعله متألم من
أحد، حيرة ودهشة تدع الحليم حيران وكيف لا يحتار الحليم، ولو سمع أهل نجد
هذا النبأ في أحلامهم لنهضوا منه فزعين؟ فكيف بهم وهو يسمعونه مستيقظين.
سارت نجد إلى سيدها، وكل واحد من رجالها قد وطَّن العزيمة في قلبه أنه
إن كان ما أغضب الإمام عمل من أعمالي فإني أستغفر الله وأتوب إليه وإنني طائع
مستسلم، وإن كان ما أغضبه عمل قريب أو بعيد فهذه النفوس والأموال والعيلات
كلها تفدي دونه، ذلك هو الشعور العام الذي استولى على جميع من وفد إلى الرياض
في هذا الاجتماع العظيم.
***
قبيل المؤتمر
وصل الناس للرياض وفدًا وفدًا، وكان كل وفد حين يقابل الإمام يقص له ما
كان للخبر من وقع أليم لديه، وكانت دموع الكثيرين تسبق ألسنتهم، إذ ما كانوا
يظنون أن سيسمعوا تخلي إمامهم عنهم، وكان الإمام يطمئنهم بأنه على كل حال
نازل على رأي الجماعة في هذا الأمر، وقد بلغ ببعضهم أن أرسل الكتاب معلنًا
السمع والطاعة، ولكنه غلظ الأيمان بأنه لا يحضر مجلسًا يذكر فيه خبر تنازل
الإمام عن إمامته، ولم يكن سعي المؤتمرين في مجالسهم الخاصة قبيل المؤتمر
ليتناول معالجة شيء أهم من هذا الأمر حتى تمكنوا في النتيجة من حمل جلالة
الملك على عدوله عن رأيه في هذه القضية، ثم نظرًا لأن موعد اجتماع المؤتمر
كان في منتصف ربيع الثاني وتأجل إلى منتصف جمادى الأولى ربما تصل بقية
الوفود فقد كان لدى الوفود التي وصلت الرياض متسع في الوقت لدرس المواضيع
التي يمكن أن تكون موضوع المناقشة في المؤتمر، وقد عقد لذلك مجالس متعددة
خاصة وتبادل أكثر الزعماء الرأي مع جلالته في كثير من الشئون الداخلية
والخارجية حتى أصبح هناك رأي عام متحد في مواضيع البحث ونضوج في
الأفكار توفر من أوقات المناقشات داخل المؤتمر، ولم يدخل الناس المؤتمر حتى
كادوا يكونون مجتمعين على قرار واحد سواء في الأمراء أو العلماء أو الزعماء أو
القادة.
وإن العربي الناظر لهذه الاجتماعات والسامع لتلك المحاورات لتأخذه أريحية
ويخامره سرور لهذا التبادل الذي يراه في التطور الفكري في قلب هذه الجزيرة
العربية؛ إذ يرى أن أولئك البُدَاة الحُفَاة الذين لم يكن الرجل منهم يدرك وينظر لأبعد
من الوصول لشهواته البدنية من مأكل ونكاح أخذت تبدو عليه علائم الجد والنشاط
للبحث والتفكير بحماسة واهتمام في أمور دينية لها علاقة عظيمة بأمور الاجتماع
والعمران والسياسة ويناقش كل موضوع بما فطر عليه من ذكاء وفطنة فتسمع كلامًا
جميلاً وقولاً سديدًا.
***
لغة المؤتمر
ومما هو جدير بالذكر قبل رواية ما كان في المؤتمر أن أذكر شيئًا عن اللغة
التي كان يتكلم بها المؤتمرون فهي بالضرورة اللغة العربية، ولكني شهدت كثيرًا
من المؤتمرات والمجتمعات في حواضر المدن من مصر وسوريا، وفي تلك
المؤتمرات خلاصة المتعلمين في تلك الأمصار، ويمكنني أن أقول: ولست بمسرف
ولا جانف أن من كانوا يتكلمون في مؤتمر الرياض كانوا أفصح لسانًا وأقوى بيانًا،
وإنك لتسمع للفظ العربي الفصيح رنة في الأذن تسترعي السمع أكثر من ذلك اللفظ
الذي كان يتداول في مؤتمرات الأمصار في اللفظ العامي الساقط الذي ينبو عنه سمع
الأديب الذي مارست حافظته القول العربي الرصين من أقوال العرب الأولين وكان
يعجبني من بعضهم؛ إذ كان يرتجل الأسجاع الرصينة التي لا أثر فيها للتكلف ولا
يخامر السامع ريب في أنها مرتجلة، ولم تكن أعدت لتقال، وقد يكون ملقيها ممن لم
يحسن القراءة والكتابة، وإن آسف في هذا المؤتمر فلأني لم أوفق لأن أنقل أقوال
القائلين بألفاظها، ولكني كنت أقيد المعاني وأعد القراء بأني لم أهمل معنى ذكر في
ذلك الاجتماع إلا نقلته لهم.
***
نظام المؤتمر
لقد كان الوافدون يعدون بالألوف، ولذلك كان من المتعذر أن يدعى الجميع
للحضور والاشتراك في الكلام فاختير من بين هذه الجموع العلماء والأمراء
والرؤساء والقادة فبلغ عددهم الثمانمائة أو يزيدون، وقد عرضت أسماؤهم بقائمة
خاصة على جلالة الملك، فأمر بدعوتهم فردًا فردًا، وأخبروا أن موعد الاجتماع
سيكون الساعة الثانية من صباح يوم الإثنين الواقع في ٢٢ جمادى الأولى، وقد
أعدت غرف انتظار خاصة يجمع كل فريق من المؤتمرين فيها حتى يتكامل عددهم
فخصصت غرفة لانتظار العلماء وغرفة أخرى لانتظار أمراء الحاضرة ورؤسائهم
وغرفة لانتظار رؤساء الهجر من القبائل، وعُيِّن لكل غرفة من هذه الغرف خدم
ومستقبلون يتلقون الوافدين ويجلسونهم في أماكنهم، وقبيل الوقت المضروب
بنصف ساعة تقريبًا شرف جلالة الملك مكان المؤتمر وجلس في مجلسه المُعَدّ له
وكان حوله أصحاب السمو الأمراء من رجال العائلة المالكة وجلسوا بين يديه
يتحدث إليهم ببعض الشئون، ولما لم يبق للموعد غير دقائق معدودات أمر بصاحب
الضيوف إبراهيم بن جميعه، فحضر وسأله هل تكامل جميع المدعوين فأخبر
بأسماء بعض من تأخر، فأمر بتأخير الاجتماع بضع دقائق حتى وصل الخبر
لجلالته باستكمال عدد المجتمعين، فنادى ببعض رجال حاشيته وعين مواقع كل
فريق من المؤتمرين فجعل العلماء في الصف الأول عن يمينه وشماله وكان الشيخ
عبد الله بن بليهد والشيخ عمر سليم والشيخ العنقري عن يساره، وتبعهم بقية العلماء
عن اليمين والشمال، فلما استقر بعلماء المجلس نودي أهل حواضر المدن فجلسوا
بعد العلماء عن اليمين والشمال فملأ الجميع محيط الرواق من جوانبه الأربع ثم
نودي برؤساء الهجر من قبائل العرب فدخلوا هجرة هجرة وقبيلة قبيلة وجلسوا صفًّا
صفًّا مقبلين على جلالة الملك بوجوههم وقد احتمل هذا الترتيب وعمله ما يقرب من
١٥ دقيقة إلى أن غصَّ المكان بالمدعوين.
***
مكان المؤتمر
لم يكن المؤتمر الذي اجتمع فيه المؤتمرون ذا أبهة وفخار، ولكنه كان يمثل
البساطة العربية والديموقراطية الإسلامية العربية التي يتساوى فيها الكبير والصغير
لقد كان المجتمعون كما يرى القارئ لا يقل عددهم عن ثمانمائة مندوب بين أمير
وعالم ورئيس، وإيجاد مكان فسيح في بلد مثل الرياض يسع مثل هذا العدد الوفير
ليس من الهينات لذلك أمر جلالة الملك أن يختار للمؤتمر أكبر مكان يوجد في قصر
جلالته فاختير لذلك رواق في بيته الكبير من قصره تبلغ مساحته ٢٣٨ مترًا مربعًا
وقد فرشت أرض الرواق بسجاد جميل وبُسُط أنيقة وصُفَّت المساند على الأطراف
ولم يتميز مقعد جلالة الملك في ذلك المؤتمر الحافل بغير وسادة وضعت عن يمينه
كان يسند يده إليها في بعض الأحيان، وكان الرواق مكشوفًا للسماء فنصبت في
مشرق الشمس منه بعض أقمشة من (الشراع) لصد الشمس عن المجتمعين، وقد
فرشت بعض الأروقة التي حول الرواق الكبير بالسجاد أيضًا لجلوس المستمعين
فيها كما أعد في الطابق العلوي مقاعد لبعض المستمعين الذين لا يشتركون في
أحاديث المؤتمر.
***
أحاديث المؤتمر
فلما استقر بالوافدين المجلس وأخذ كلٌّ مكانه أمر جلالة الملك بالقهوة فأديرت
على الحاضرين ولم تمر إلا هنيهة حتى تناول الجميع القهوة ثم أقبل جلالته على
الجالسين فحمد الله ثم قال ما خلاصته:
خطاب جلالة الملك
(أيها الإخوان: تعملون عظم المنة التي مَنَّ الله بها علينا بدين الإسلام؛ إذ
جمعنا به بعد الفُرْقَة، وأعزنا به بعد الذِّلَة، واذكروا قوله سبحانه: {وَقُلِ اعْمَلُوا
فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} (التوبة: ١٠٥) إن شفقتي عليكم وعلى ما مَنَّ الله به علينا
وخوفي من تحذيره سبحانه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: ١١) كل هذا دعاني لأن أجمعكم في هذا المكان لتتذكروا أولا
ما أنعم الله به علينا فنرى ما يجب عمله لشكران هذه النعمة، وثانيًا لأمر بدا في
نفسي وهو أنني خشيت أن يكون في صدر أحد شيء يشكوه مني أو من أحد نوابي
وأمرائي بإساءة كانت عليه أو بمنعه حقًّا من حقوقه، فأردت أن أعرف ذلك منكم
لأخرج أمام الله بمعذرة من ذلك وأكون قد أديت ما عليَّ من واجب، وثالثًا لأسألكم
عما في خواطركم وما لديكم من الآراء مما ترونه يصلحكم في أمر دينكم ودنياكم.
إن القوة لله وحده وكلكم يذكر أنني يوم خرجت عليكم كنتم فِرَقًا وأحزابًا يقتل
بعضكم بعضًا وجميع من ولاه الله أمركم من عربي أو أجنبي كانوا يدسون لكم
الدسائس لتفريق كلمتكم وإنقاص قوتكم لذهاب أمركم، ويوم خرجت كنت محل
الضعف وليس لي من عَضُد ومساعد إلا الله وحده ولا أملك من القوة غير أربعين
رجلاً تعلمونهم، ولا أريد أن أقُصّ عليكم ما مَنَّ الله به عليَّ من فتوح ولا بما فعلت
من أعمال معكم كانت لخيركم؛ لأن تاريخ ذلك منقوش في صدر كل واحد منكم،
وأنتم تعلمونها جميعًا وكما قيل (السيرة تبين السريرة) إنني لم أجمعكم اليوم في
هذا المكان خوفًا أو رهبًا من أحد منكم فقد كنت وحدي من قبل وليس لي مساعد إلا
الله فما باليت بالجموع، والله هو نصرتي، وإنما جمعتكم هنا في هذا المكان لأمر
واحد ولا أجيز لأحد أن يتكلم هنا في غيره، ذلك هو النظر في أمر شخصي،
وحدي فينبغي أن تجتنبوا في هذا المجلس الشذوذ عن هذا الموضوع، ولا أبيح
لأحد أن يخاصم في المجلس أحدًا في رأيه ولو أخطأ فالجميع أحرار فيما يتكلمون به
في هذا الموضوع، أما الأشياء الخارجة عن هذا فسأعين لكم اجتماعات خاصة
وعامة في غير هذا الاجتماع العلني ننظر فيها بجميع الشئون التي ينبغي النظر فيها
من سائر شؤوننا.
أريد منكم أن تنظروا أولاً، فيمن يتولى أمركم غيري، وهؤلاء أفراد العائلة
أمامكم فاختاروا واحدًا منهم، ومن اتفقتم عليه فأنا أقره وأساعده، وأحب أن تكونوا
على يقين بأنني لم أقل هذا القول استخبارًا أو استمزاجًا؛ لأنني ولله الحمد لا أرى
لأحد منكم مِنَّة عليَّ في مقامي هذا، بل المنة لله وحده، ولست في شيء من مواقف
الضعف حتى أترك الأمر لمنازع بقوة، سواء كان المنازع ضعيفًا أو قويًّا، وسواء
كنت في كثرة أو قلة وما يحملني على هذا القول في هذا الموقف الذي لا فضل لأحد
في وقوفي فيه إلا الله وحده الذي نصرني وأيدني إلا أمران: الأول محبة لراحتي في
ديني ودنياي، والثاني أني أعوذ بالله أن أتولى قومًا وهم لي كارهون، فإن
أجبتموني إلى هذا فذلك مطلبي ولكم أمان الله أنه من يتكلم في هذا فهو آمن ولا
أعاتبه لا عاجلاً ولا آجلاً، فإن قبلتم طلبي هذا فالحمد لله، وإن كنتم لا تزالون
مصرين على ما كلمتموني به على أثر دعوتي لكم فإني أبرأ إلى الله أن أخالف أمر
الشرع في اتباع ما تجمعون عليه مما يؤيد شرع الله) .
(أصوات: كلنا مُصِرُّون على آرائنا ولا نريد بك بديلاً)
(فإذا لم يحصل ذلك منكم أن تبحثوا أمر آخر، ذلك هو شخصي وأعمالي
فمن كان له عليَّ أنا يا عبد العزيز شكوى أو حق أو انتقاد في أمر دين أو دنيا
فليبينه، ولكل من أراد الكلام عهد الله وميثاقه وأمانه أنه حر في كل نقد، يبينه وأنه
لا مسئولية عليه، وإني لا أبيح إنسانًا [١] من العلماء أو من غيرهم أن يكتم شيئًا من
النقد في صدره، وكل من كان عنده شيء فليبينه ولكم عليَّ أن كل نقد تذكرونه فما
كان واقعًا أقررت به وبينت سببه وأحلت حكمه للشرع يحكم فيه، وما كان غير بيِّن
هو عندكم من قبيل الظنون فلكم عليَّ عهد الله وميثاقه أنني أبينه ولا أكتم عليكم منه
شيئًا، وأما الذي تظنونه مما لم يقع فأنا أنفيه لكم وأحكم في كل ما تقدم شرع الله فما
أثبتَه أثبتُه وما نفاه نفيتُه.
لذلك فأنتم [٢] أيها الجماعة أَبْدُوا ما بدا لكم بما سمعتموه وبما يقول الناس من
نقد وَلِيّ أمركم أو من نقد موظفيه المسئول عنهم، وأنتم أيها العلماء اذكروا أن الله
سيوقفكم يوم المعرض [٣] وستسألون عما سُئِلْتُم عنه اليوم، وعما ائتمنكم عليه
المسلمون فأبدوا الحق في كل ما تسألون عنه ولا تبالوا بكبير ولا صغير وبيِّنوا ما
أوجب الله للرعية على الراعي، وما أوجب للراعي على الرعية في أمر الدين
والدنيا، وما تجب فيه طاعة ولي الأمر وما تجب فيه معصيته، وإياكم وكتمان ما
في صدروركم في أمر من الأمور التي تسألون عنها فمن كتم ما في صدره فالله
حسبه [٤] يوم القيامة، ولكل من تكلم بالحق منكم عهد الله وميثاقه أنني لا أعاتبه
وأكون ممنونًا منه، وأني أنفذ قوله الذي يُجْمِع عليه العلماء، والقول الذي يقع
الخلاف بينكم فيه أنتم أيها العلماء فإني أعمل فيه عمل السلف الصالح؛ إذ أقبل منه ما
كان أقرب إلى الدليل من كتاب الله وسنة رسوله أو قول لأحد العلماء الأعلام المعتمد
عليهم عند أهل السنة والجماعة، إياكم أيها العلماء أن تكتموا شيئًا من الحق
تبتغون بذلك مرضاة وجهي فمن كتم أمرًا يعتقد أنه يخالف الشرع فعليه من الله اللعنة،
أظهروا الحق وبينوه وتكلموا بما عندكم) .
***
كلام العلماء
ثم تكلم بعض العلماء وخلاصة ما قالوا: إنا نبرأ إلى الله أن نكتم ما ظهر لنا
من الحق، أو أن تأخذنا في الله لومة لائم، وحاشا لله فما علمنا أنه منذ ولاك الله
أمرنا أننا نصحناك في أمر من الأمور وخالفتنا فيه، ونبرأ إلى الله أن نكون قد
رأينا في عملك عملاً يخالف الشرع وسكتنا عنه، اللهم إلا أن يكون في بعض أمور
يجب علينا أن ننصحك عنها فقط لا يجوز لنا الخروج عليك من أجلها، كما أنه لا
يجوز للرعية الخروج عليك فيها؛ ذلك لأنه ما معصوم إلا محمد صلى الله عليه
وسلم فهو المعصوم من الخطأ والذنوب، أما الأمر الذي يوجب مخالفتك أو يوجب
حضّ الرعية على مخالفتك فيه فيأبى الله، ووالله إننا ما رأينا ما يوجبه فيك وسكتنا
عنه، ولا علمنا من سيرتك وأعمالك إلا حرصك على إقامة شعائر الإسلام واتباع
ما أمر الله به ورسوله في أعمالك.
***
كلام رجال الؤتمر
(إنه كما يرى القراء أن المجتمعين كانوا حول الثمانمائة نفر وإذا كان كل
إنسان سيتكلم فسيضيع الوقت بغير الوصول إلى نتيجة، وحيث إن الموضوع
محصور ومعلوم ما بخاطر كل فريق من الناس فقد ناب عن الحاضرين بالتعبير
عما في نفوسهم فريق من كبار الحاضرين منهم الدويش من أمراء مطير والبهيمة
والفرم والذويبي وابن بخيت من رؤساء حرب وابن ربيعان من رؤساء عتيبة وابن
عمر وابن خشر من رؤساء قحطان.
وقد تكلم هؤلاء بعد أن استأذنوا الإمام بالكلام واستأذنوا الإخوان بالتعبير عن
آرائهم، وكان خلاصة ما قالوه ينحصر فيما يأتي:
يا عبد العزيز: ما يخفاك أننا كنا بالأول بادية نعمل جميع الأعمال المخالفة
للشرع والسمت والشرف وكنا نَعْمَه في طغياننا، فلما مَنَّ الله علينا بهدايتنا للرجوع
إلى هذا الدين كان بفضل الله ثم بسعي آبائك وأجدادك في أول الأمر، وفي الأيام
الأخيرة كانت هدايتنا بفضل الله ثم بمساعيك، فقد تركنا عشائرنا وأموالنا وهاجرنا
لوجه الله، ولا نبتغي إلا مرضاته ووقفنا أموالنا وأنفسنا للجهاد في سبيل الله، لا
نريد بذلك عرضًا من أعراض الدنيا وما نريد إلا أن تكون كلمة الله هي العليا ودينه
الظاهر، وأن يكون رأسنا في هذا الأمر أنت ثم أحد أولادك وأحفادك، وأعمالنا ما
تخفى عليك ونبرأ إلى الله أن نعتدي في القول عليك وما نقول إلا جزاك الله عنا
خيرَ الجزاء، لقد علمتنا ما يجب علينا في ديننا فأعنتنا على هجرتنا، وبنيت لنا
المساجد وقدمت لنا العلماء، وأشركتنا في بيت المال، ورحمت ضعيفنا ووقرت
كبيرنا، ونبرأ إلى الله أن ننازعك الأمر أو أن نترك من ينازعك ما أقمت فينا
الصلاة، وما زلت لم تفعل كفرًا بواحًا معنا من الله عليه برهان، وإننا نسمع
ونطيع ما دمت فينا كذلك ولو ضربت الظهر وأخذت المال، نبرأ إلى الله أن نركن
إليك لدنيا لديك كما نبرأ إليه إن شاء الله أن تكون من قال فيهم: {وَمِنْهُم مَّن
يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} (التوبة: ٥٨) فأنت جزاك الله عنا خيرًا لم تقصر علينا في شيء، فهؤلاء طلبة
العلم الذين أقمتهم فينا نسألهم ما يعرض لنا في أمر ديننا، وما قصروا فيه رجعنا
لأكابر علمائنا الأعلام فاستفتيناهم وأجابونا، وامتثلنا أمر الله، أما وقد ألححت علينا
في القول، فإن كان هناك إشكال لدينا ففي بعض أمور نسردها أمامك وأمام العلماء؛
لأن لبعض الناس في بعضها شبهًا وبعضها في نفوس الناس من أمرها الشيء
الكثير، ونحن نعرضها على مسامع الجميع إذا سمحت بذكرها، فقال جلالة الملك:
كل ما بدا لكم في أمر أعمالي فلا تكتموا منه شيئًا وقولوه:
فقالوا: أولاً مسألتان واحدة منها سأل عنها بعض الإخوان وأجيب عنها وقنع
بها وبعضهم لا يزال يذكرها ولا بد من سماع قول العلماء فيها لينتهي مشكلها على
وجه صريح تلك هي مسألة (الإتيال) فإنه يقال: إنها سحر ولا يخفى حكم السحر
والسحرة في الإسلام، وأما المسألة الثانية فهي: من الواجبات ونخشى أنك إن لم
تقم بها كما يجب نخاف أن يسلط الله علينا أَعْدَاءَنَا بسبب تركنا لها، وهي المرادة
بقوله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ
فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ
عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: ٤٠-٤١) تلك هي تعاليم الدين على وجهه الصحيح فإنا
رأيناك في الأطراف التي توليتها قد منعت أهلها من السرق والنهب وأخذت منهم
الزكاة، ولكننا لم نعلم أنك أرسلت إليهم من يعلمهم أمر دينهم، ونحن نخشى من
سخط الله عليك وعلى علمائنا إن كان في هذا الأمر تهاون.
هذا أولاً، وثانيًا هنا أمر عفنا فيه الأموال والأرواح والبنين وليس لنا من
مقصد فيه إلا مخافة أن يلحقنا في ديننا منه حرج ولا يمكن أن نأمن على أوطاننا
منه ولا تستقيم لنا حياة بوجوده أو وجود أمثاله، وفيه كل الخطر على أوطاننا بل
الخطر منه على رأسك أنت بنفسك يا عبد العزيز، ونحن نتمنى أن يقبض الله
أرواحنا ولا نرى فيك أو في عائلتك ما يسوؤنا، وأنت وحدك المقصود في ذلك من
دون سائر الناس، إننا نحن الرعية إذا أصاب هذه البلاد ضرر فالطيب في دينه
يأوي إلى الكهوف والجبال والخائب يكون كما كان في السابق، ذلك هو الأمر الذي
أمرضنا من زمن ووضع في أكبادنا غصة ولا نستطيع الصبر عليه، وهو أمر
يستوي في التأثر منه يا عبد العزيز الكبير والصغير والأمير والوضيع حتى النساء
في خدورهن، وفي جميع الناس تأثر منه حمية دينية وطنية: تلك هي القصور،
القصور التي قدمها وبناها أعداؤنا في أوطان هي أوطاننا ومراتعنا فماذا يريدون
منها غير الاعتداء علينا؟
إنك تعلم أن البادية كلها باديتنا نحن أهل نجد وتذكر احتجاجنا عليك يوم
جعلت لهم حدودًا في البادية بغير حق، وهل يجوز لك دينك وضع تلك الحدود لهم
في بلادنا؟ فأجبتنا إذ ذاك أن تحديد الحدود ليس معناه تملكًا لهم وإنما الحدود لأجل
بعض المنازعات التي قد تقع بين البادية، وأننا أحرار في مراعينا حيث نشاء من
هذه البادية، وأخبرتنا أنه بناء على معاهدتك معهم في العقير أنهم لا يبنون في تلك
الأراضي أبنية ولا يعملون معسكرات لا على الآبار ولا على المياه فالصبر على
هذه لا يقنعنا فيه غير أمرين: أولا أن تحكم الشريعة في أننا إذا سكتنا وتركنا هذه
المسألة فليس علينا حرج من قبل الله، ولو كان في سكوتنا ضرر على الإسلام
والمسلمين: والثاني أن تقسم لنا أنت بالله أنه لا يوجد علينا من هذه القصور ضرر
في ديننا ولا في أوطاننا لا في العاجل ولا في الآجل، وبغير ذلك فلا والله ما
نتركها قائمة وفينا عرق ينبض أو في أحد منا نسمة من حياة، فكوننا نموت أو نقتل
عن بكرة أبينا هو أفضل بكثير من أن نرى الخطر على ديننا وأوطاننا ونرضى به؛
إن هذا أمر لا يمكن يا عبد العزيز أن نتحول عنه.
وهناك مسألة في خواطرنا غير هذه ونحب أن نبديها لك لتبرأ ذمتنا منها، إننا
لا نريد أن نعترض في أمر من أمور السياسية، ونحن واثقون بالله ثم بك في هذا
الأمر، وعلى كل حال علينا السمع والطاعة لك في الأمر الذي نبديه، ذلك هو منع
الناس من الجهاد وعدم السماح به لتكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر، فهذه
مسألة نذكرك بها لتعلم أنه لو تلفت النفوس ونفدت الأموال فليس ذلك بشيء بجانب الله
من الجزاء للمجاهدين في سبيله، وعلى كل حال فنحن نسمع ونطيع لك فيما تأمرنا به
في هذا.
وأما مسألة القصور فو الله ما يرضى ببقائها ويقرها إلا إنسان (يقر محرمه
على الفساد) يا عبد العزيز أدبك وقتلك لنا وغضبك كله أهون من غضب الله،
وأن تهتك محارمنا ونحن ننظر، فاتق الله في أمرنا وأمرك، ومحارمنا ومحارمك،
واتق الله في أوطاننا، هذا الذي عندنا أبديناه ولم نُخْفِ في صدورنا شيئًا.
ولما فرغ المتكلمون ووصلوا لهذا الحد، وأنصت المجلس قليلاً نادى جلالة
الملك في الحاضرين هل أحد عنده شيء يقال في أعمالي أو عليَّ غير هذا؟ فما
أجاب أحد، ثم كرَّر السؤال ثانيًا وثالثًا فأجابوا ليس لدينا شيء غير ما تقدم.
فالتفت جلالة الملك إلى العلماء وقال: ليتكلم العلماء بما عندهم في شبهة
البعض بمسألة (الإتيال) أولا، فتلا أحدهم فتوى للعلماء في شأنها وخلاصة ما
جاء فيها: إننا لم نعلم دليلاً في تحريمها من كتاب أو سنة ولا من أقوال أحد من
العلماء ولا من أخبار من رواها من الثقاة، ونبرأ إلى الله أن نقول شيئًا بتحريمها
وإن من يقول بتحريمها مفترٍ على الله الكذب ونبرأ إلى الله من حاله:
فقال جلالة الملك أما مسألة الأمر بالمعروف وتعليم الناس دينهم فإننا قد عَيَّنَّا
في جميع البلدان التي توليناها دعاة إلى الله ما عدا بعض عربان في شمال الحجاز
وما عدا العرب الذين قضى الله عليهم هذه الأيام (يعني قبيلة بني مالك جماعة بن
فاضل) فهؤلاء أسعى اليوم في إرسال الدعاة لهم، وإذا كان المشايخ يعلمون
تقصيرًا في هذا السبيل فليخبروني، وأنا أنفذ ما يقولون.
فقال العلماء: إن أمر الرعايا بإقامة دين الإسلام ونفي ضده واجب وأبدى من
كل شيء، وهو من الفرائض التي أوجبها الله على الناس عامة، وعلى ولاة
الأمور خاصة، والذي نعلمه من الإمام أنه مهتم بهذا الأمر، وهو عامل فيه بكل
جهده.
فقال جلالة الملك: أما مسألة القصور فإن القوم يدعون أنكم أنتم الذين بدأتموهم
بالعدوان وذلك بقتل السرية التي أرسلها الدويش لأهل بصيه، ثم غزوات الدويش التي
تبعتها في حين إنني أنا يا ابن السعود ما قمت بذلك، وأنتم يا أهل نجد ما حميتم ذمة
ولي أمركم، وإنهم يزعمون أن هذه القصور ما بنيت إلا مخافة من الخطر منكم:
(الإخوان: نعم إنا نبرأ إلى الله من عمل الدويش وتعلم أننا قاطعنا الدويش
ومن غزا معه، وحرمنا ما حرم مشايخنا من كسبهم ونذكر أننا أتينا إليك وأخبرناك
أننا على استعداد لمهاجمة الدويش ومجازاته ولكن بضمانة شرطين: الأول أن يهدم
القصور المحدثة التي لا نرى لنا حياة بوجودها، والثاني أن يتعهدوا بأنهم لا
يحولون بيننا وبين من نؤدبه كما فعلوا مع جماعة يوسف السعدون، ولم تجبنا إلى
ذلك إلا بعد أشهر حيث أخبرتنا أنهم يقولون بأنهم لا يأوون الدويش إذا فر إليهم،
ولكن القلاع ما زالت قائمة وهو يزيدونها تحصينًا، وما دامت هذه القلاع موجودة
فنقول لك بالصراحة: إن ديننا وحياتنا على خطر، وهم الذين بدأونا بالشر وليس
نحن الذين بدأناهم.
فقال العلماء: إن مسألة القصور وإحداثها أمر نبرأ إلى الله منه ونشهد الله أن
ضررها على الإسلام عامة وعلى العرب خاصة وعلى أهل نجد بصورة أخص
عظيم جدًّا، وما نراها إلا عدوًا نازلاً بساحتنا، وإنه ليس لك يا عبد العزيز إلا أن
تجتهد في إزالتها فإذا أزيلت فأمر الصلح والسياسة إليك وليس لنا، ولا لأحد من
الرعية أن يتداخل فيه، إلا في صلح يُخِلُّ على المسلمين في دينهم أو وطنهم، وأما
مسألة القصور خاصة فإن كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله
ويرضى بهذه القصور فنبرأ إلى الله من حاله، ونقول: إن العمل لإزالة هذه
القصور ليس جهادًا بل هو دفاع عن الدين والمحارم.
فقال الإخوان: لقد سمعت يا عبد العزيز ما قاله العلماء فنسألك بالله ما تقول
في هذه القصور.
فقال جلالة الملك: أقول: إن ما قاله علماء المسلمين في هذا الأمر حق،
وهذا الذي أدين به، وإن ضرر هذه القصور علينا ظاهر وباطن، وأبرأ إلى الله أن
أقول غير هذا، وإن ضررها الدنيوي في العاجل والآجل، ولكن أمر هذه القضية
وإنهاءها ومسألة الجهاد أحب أن يكون الحديث فيها في غير هذا المجلس وأريد أن
تنتخبوا من بينكم مقدار خمسين رجلا أجتمع معهم، وأبين لهم جميع ما عندي في
هذه المسألة لنقرر ما يختاره الله لنا، وأما الذي أقوله على ملئكم ويسمعه صغيركم
وكبيركم أني لا أرى لنا حياة كاملة إلا في صلح يثبت حقوقنا كاملة في دفاع عن
حقوقنا لنصل منه أما للظفر أو نموت مدافعين عن حمانا وأوطاننا هذا الذي أدين الله
به وهذا الذي أعاهدكم عليه.
وكانت دموع الخشوع والإخلاص تسيل على الخدود، ثم قام المجتمعون
جماعة جماعة يجددون البيعة لإمامهم، وهم يقولون: نبايعك يا عبد العزيز على
السمع والطاعة، وأن نقاتل من تشاء عن يمينك وشمالك، ولو دفعتنا إلى البحر
لقطعناه وإنا نبايعك على أن نقاتل من ينازعك ونعادي من عاداك ونقوم معك ما
أقمت فينا هذه الشريعة الطاهرة.
وقد جلس جلالة الملك ما يقرب من الساعة والوفود تتقدم إليه وفدًا وفدًا تبايعه
على ذلك وبين يديه أكبر أنجاله سمو الأمير سعود يقدم الناس إلى أبيه ويرتبهم.
***
المائدة
ولما انتهت البيعة أمر بجفان الطعام وكانت مهيئة فجيء بها وجلس الناس
حولها حِلَقًا حِلَقًا، وجلس جلالة الملك في إحدى تلك الحلقات يأكل مع رجال
المؤتمر من تلك الجفان المترعات وهو يؤانسهم بأحاديثه إلى أن فرغوا من طعامهم
وانصرفوا.
***
الاجتماعات التي تلت المؤتمر
وفي المساء علمنا أن خمسين من الجمع اختلوا بجلالة الملك ودام اجتماعهم
من الساعة الثانية إلى الساعة السادسة ليلاً، وكانت أحاديث لم ينتشر شيء من
أخبارها، ولكن الذي علمناه أن الجميع خرجوا متفقين على خطة واحدة ورأي واحد.
وعلمنا أنه عقب ذلك اجتماعات خصوصية تعددت غير مرة وجميع ما دار
في تلك الاجتماعات من أبحاث وما اتُّخِذَ من مقرَّرَات لم ينتشر شيء منه أيضًا اهـ.

(المنار)
سننشر تعليقنا على هذا المؤتمر التاريخي في الجزء التالي إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))