للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تتمة البحث في حقيقة ربا القرآن

أقوال أشهر المفسرين في ربا القرآن
من المجتهدين والمنتسبين إلى المذاهب المشهورة
ما قاله ابن جرير:
قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة ٣١٠ في تفسيره
(جامع البيان) في الكلام على قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} (البقرة:
٢٧٥) ... إلخ ما نصه:
(يعني بذلك جل ثناؤه الذين يربون، والإرباء: الزيادة على الشيء، يقال
منه: أربى فلان على فلان - إذا زاد عليه - يربي إرباء، والزيادة هي الربا، وَرَبَا
الشيء: إذا زاد على ما كان عليه فعظم فهو يربو ربوًا؛ وإنما قيل للرابية لزيادتها في
العظم والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها، من قولهم: رَبَا يربو، ومن
ذلك قيل: فلان في رُبَا قومه، يراد أنه في رفعة وشرف منهم، فأصل الربا: الإنافة
والزيادة، ثم يقال: أربى فلان أي أناف صيره زائدًا [١] .
(وإنما قيل للمُربي: مربٍ لتضعيفه المال الذي كان على غريمه حالاً أو
لزيادته عليه فيه لسبب الأجل الذي يؤخره إليه، فيزيده إلى أجله الذي كان له قبل
حل دينه عليه؛ ولذلك قال جل ثناؤه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً
مُّضَاعَفَةً} (آل عمران: ١٣٠) وبمثل الذي قلنا قال أهل التأويل) .
ثم روى عن مجاهد أنه قال في الربا الذي نهى الله عنه: كانوا في الجاهلية
يكون للرجل على الرجل الدَّين، فيقول: لك كذا وكذا وتؤخر عني، فيؤخر عنه،
وعن قتادة قال: إن ربا الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل
ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه، وهنا ذكر تفسير الوعيد بتشبيه آكلي
الربا بمن يتخبطه الشيطان من المس، ثم قال في تفسير: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا
البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (البقرة: ٢٧٥) ما نصه:
يعني بذلك جل ثناؤه ذلك الذي وصفهم به من قيامهم يوم القيامة من قبورهم
كقيام الذي يتخبطه الشيطان من المس من الجنون، فقال تعالى ذكره هذا الذي ذكرنا
أنه يصيبهم يوم القيامة من قبح حالهم ووحشة قيامهم من قبورهم وسوء ما حلَّ بهم
من أجل أنهم كانوا في الدنيا يكذبون ويفترون ويقولون إنما البيع الذي أحله الله
لعباده مثل الربا، وذلك أن الذين يأكلون الربا من أهل الجاهلية كانوا إذا حل مال
أحدهم على غريمه، يقول الغريم لغريم الحق زدني في الأجل وأزيدك في مالك،
فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك: هذا ربا لا يحل، فإذا قيل لهما ذلك قالا: سواء علينا
زدنا في أول البيع أو عند محل المال، فكذَّبهم الله في قيلهم فقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ
البَيْعَ} (البقرة: ٢٧٥) إلى آخر الآية، ذكرها وقال في تفسيرها ما نصه:
يعني جل ثناؤه: وأحل الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع، وحرَّم الربا
يعني الزيادة التي يزاد رب المال بسبب زيادة غريمه في الأجل وتأخير دينه عليه،
يقول عز وجل: وليست الزيادتان اللتان إحداهما من وجه البيع، والأخرى من وجه
تأخير المال والزيادة في الأجل سواء ... إلخ.
فأنت ترى أنه حصر الربا المراد من الآية في ربا الجاهلية، وبيَّن أن ربا
الجاهلية خاص بأخذ الزيادة من المال لأجل تأخير أجل الدين بعد استحقاقه، وهذا
يشمل ما كان من الدين قرضًا، وما كان ثمن مبيع على قول قتادة، ومن المفسرين
من يقول: إن كل ديونهم في الجاهلية كانت قروضًا، ولم يكونوا يعرفون البيع إلى
أجل كما ستراه في النقول الآتية، ولم يفهم المفتي الهندي هذا مع شدة ظهوره لما
تمكن في نفسه من تقليد الحنفية وما فهمه منه فجعله أصلاً يُرد إليه غيره، فإن
وافقه وإلا رده من أصله وحكم بأنه خطأ.
ما قاله الجصاص:
قال العلامة أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص الحنفي المتوفى سنة
٣٧٠ في تفسيره (أحكام القرآن) بعد أن بيَّن في تفسير آيات البقرة لفظ الربا في
اللغة، وإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم إياه على ربا النسيئة في حديث أسامة بن
زيد وجعل عمر منه السلم في السن، وقول جماعة الحنفية إنه مجمل بيَّنته السنة،
وبيَّنه صلى الله عليه وسلم نصًّا وتوقيفًا - بعد هذا قال:
(والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير
إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به، ولم يكونوا يعرفون
البيع بالنقد، وإذا كان متفاضلاً من جنس واحد (؟) هذا كان المتعارف المشهور
بينهم؛ ولذلك قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ
اللَّهِ} (الروم: ٣٩) فأخبر أن تلك الزيادة المشروطة إنما كانت ربا في المال
العين؛ لأنه لا عوض لها من جهة المقرض، وقال تعالى: {لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا
أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} (آل عمران: ١٣٠) إخبارًا عن الحال التي خرج عليها الكلام
من شرط الزيادة أضعافًا مضاعفة، فأبطل الله الربا الذي كانوا يتعاملون به،
وأبطل ضروبًا أخرى من البياعات وسمَّاها ربا فانتظم قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: ٢٧٥) تحريم جميعها لشمول الاسم عليها من طريق الشرع، ولم يكن
تعاملهم بالربا إلا على الوجه الذي ذكرنا من قرض دراهم ودنانير إلى أجل مع
شرط الزيادة اهـ. وقد ذكر بعده ما يدخل في عموم اللفظ من المعاني بناء على
قول أصحابه بأنه مجمل بيَّنته الأحاديث.
ما قاله الكيا الهراسي [*] :
قال العلامة الكيا الهراسي من محققي الشافعية في تفسيره لآيات سورة البقرة
من كتابه (أحكام القرآن) المحفوظ في المكتبة المصرية العامة ما نصه:
الربا في اللغة الزيادة، وربما لا تعرف العرب بيع الدرهم بالدرهم نساء، إلا
أن الشرع أثبت زيادات جائزة وحرم أنواعًا من الزيادة، فجوَّز الزيادة من جهة
الجودة، ولم يجوِّز (الزيادة) من جهة المدة، وإذا اختلف الجنس يجوز بيع بعضه
ببعض متفاضلاً نقدًا متماثلاً نسيئة، وكل ذلك لا يقتضيه لفظ الربا؛ ولكن ذلك لا
يمنع التعلق بعموم اللفظ، وعموم اللفظ يقتضي تحريم الزيادة مطلقًا إلا ما خصَّه
الشرع.
قال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ} (البقرة: ٢٧٥) يقتضي جواز ما لا زيادة فيه
إلا ما خصه الشرع، فنحن نحتاج إلى البيان فيما لم يرد باللفظ، وفي تخصيص
بعض ما أريد باللفظ، والله تعالى حرَّم الربا، فمن الربا ما كانوا يعتادونه في
الجاهلية من إقراض الدنانير والدراهم بزيادة، والنوع الآخر إسلام الدراهم في
الدراهم والدنانير من غير زيادة.
(قال) ورأى ابن عباس أن سياق الآية يدل على أن المذكور في كتاب الله
ربا النساء لا ربا الفضل فإنه قال {فَلَهُ مَا سَلَفَ} (البقرة: ٢٧٥) ، {وَذَرُوا مَا
بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (البقرة: ٢٧٨) ، وقال: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (البقرة: ٢٨٠) وقال تعالى: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ
تُظْلَمُونَ} (البقرة: ٢٧٩) ، وقال عليه الصلاة والسلام في خطبة الوداع: (كل
ربا موضوع ولكم رؤوس أموالكم.. (وذكر الحديث) .
(ثم قال) وإذا كان الربا ينقسم أقسامًا، فالذي في القرآن يدل على تحريم
الزيادة من غير نظر في جنس المال؛ لأن ذلك يعد زيادة في الشيء، ولا يقال كل
الربا (؟) .
ومن أجل ذلك جوَّز بعض العلماء - وهو مالك - الأجل في القرض إلا أنَّا منعنا
من ذلك لا من جهة الآية، بل من جهة أخرى، والذي كان في الجاهلية كان
القرض زيادة وما كانوا يؤجلون إلا ـة [٢] في نفس الشيء.
ونُقل عن الشافعي أن لفظ الربا كان غير [٣] معلوم أورث إجمالاً في البيع،
والصحيح أن الربا غير مجمل ولا البيع كما ذكرنا، فإن ما لا زيادة فيه جار على
حكم عموم البيع، نعم خصَّ من الربا زيادة أُبيحت، وخصَّ من البيع بياعات نهي
عنها، وعموم اللفظ معتبر فيما سوى المخصص.
وردَّ الله تعالى على المشركين في قولهم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ
الرِّبَا} (البقرة: ٢٧٥) وذلك أنهم زعموا بأنه لا فرق بين الزيادة المأخوذة على
وجه الربا، وبين الأرباح المكتسبة بضروب البياعات من حيث غاب عنهم وجه
المصلحة، وتحريم الزيادة على وجه دون وجه، فأبان الله تعالى أنه عز وجل إذا
حرَّم الربا وأحل البيع فلابد أن يشتمل المنهي على مفسدة، والمباح على مصلحة
وإن غائبًا عن مرأى نظر العباد، فعلى هذا كل ما وجد فيه حد البيع، فيجوز أن
يحتج فيه بعموم البيع اهـ. ما قاله الكيا الهراسي في الموضوع، وقد علمت أن
الإمام الشافعي رجَّح أن لفظ البيع عام لا مجمل.
ما قاله القرطبي:
قال العلامة الشيخ عبد الله بن محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المتوفى سنة
٦٧١، وهو من محققي المالكية في مسائل آيات البقرة من تفسيره المشهور (جامع
أحكام القرآن) وهو المتعلق بموضوعنا.
(الرابعة عشرة) قوله تعالى: {إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (البقرة: ٢٧٥)
أي إن الزيادة عند حلول الأجل آخرًا كمثل أصل الثمن في أول العقد، وذلك أن
العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك، فكانت إذا حل دَينها قالت للغريم: إما أن
تقضي، وإما أن تربي - أي تزيد في الدين - فحرَّم الله سبحانه ذلك ورد عليهم قولهم
بقوله الحق: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: ٢٧٥) وأوضح أن الأجل
إذا حل ولم يكن عنده ما يؤدي أُنظر إلى الميسرة، وهذا الربا هو الذي نسخه النبي
صلى الله عليه وسلم بقوله يوم عرفة: (ألا إن كل ربا موضوع، وأول ربا أضعه
ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله) فبدأ صلى الله عليه وسلم بعمه
وأخص الناس به.
ثم قال (الخامسة عشرة) قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ} (البقرة: ٢٧٥)
هذا من عموم القرآن، والألف واللام للجنس لا للعهد إذ لم يتقدم بيع مذكور يرجع إليه
كما قال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (وَالعصر: ١- ٢) ثم
استثنى {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (العصر: ٣) وإذ ثبت أن البيع عام
فهو مخصوص بما ذكرنا من الربا، وغير ذلك مما نهي عنه، ومنع العقد عليه
كالخمر والميتة وحَبَل الحُبلى وغير ذلك مما هو ثابت في السنة وإجماع الأمة المنهي
عنه، ونظيره {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ} (التوبة: ٥) وسائر الظواهر هي التي
تقتضي العمومات ويدخلها التخصيص، وهذا مذهب أكثر الفقهاء وقال بعضهم هو
من مجمل القرآن الذي فُسر بالمحلل من البيع وبالمحرم من الربا، فلا يمكن أن
يستعمل به إحلال البيع وتحريمه، إلا أن يقترن به بيان من سنة الرسول صلى الله
عليه وسلم وإن دل على إباحة البيوع في الجملة والتفصيل، وهذا فرق ما بين العموم
والمجمل، فالعموم يدل على إباحة البيوع في الجملة والتفصيل ما لم يخص بدليل،
والمجمل لا يدل على إباحتها في التفصيل حتى يقترن به بيان، والأول أصح، والله
أعلم.
(المسألة الثامنة عشرة) قوله: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: ٢٧٥) الألف
واللام هنا للعهد، وهو ما كانت العرب تفعله كما بيَّناه، ثم تناول ما حرَّمه رسول
الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه من البيع الذي يدخله الربا وما في معناه من
البيوع المنهي عنها اهـ.
ما قاله الطبرسي:
قال العلامة أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطبرسي المتوفى سنة ٥٦١
في تفسيره (مجمع البيان) وهو من محققي الإمامية:
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (البقرة: ٢٧٥) معناه بسبب قولهم
إنما البيع الذي لا ربا فيه مثل البيع الذي فيه الربا، قال ابن عباس: كان الرجل
منهم إذا حل دينه على غريمه فطالبه به، قال المطلوب منه: زدني في الأجل
وأزيدك في المال، فيتراضيان عليه ويعملان به، فإذا قيل لهم: هذا ربا، قالوا: هما
سواء، يعنون بذلك أن الزيادة في الثمن حال البيع والزيادة فيه بسبب الأجل عند
محل الدين سواء، فذمهم الله به وألحق الوعيد بهم، وخطَّأهم في ذلك بقوله:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: ٢٧٥) أي أحل الله البيع الذي لا ربا
فيه، وحرَّم النوع الذي فيه الربا، والفرق بينهما أن الزيادة في أحدهما لتأخير
الدين، وفي الآخر لأجل البيع، وأيضًا فإن البيع بدل لبدل؛ لأن الثمن فيه بدل
المثمن، والربا زيادة من غير بدل للتأخير في الأجل أو زيادة في الجنس،
والمنصوص عن النبي تحريم التفاضل في ستة أشياء: الذهب والفضة والحنطة
والشعير والتمر والملح، وقيل: الزبيب. قال عليه السلام: (إلا مثلاً بمثل يدًا بيد،
من زاد أو استزاد فقد أربى) لا خلاف في حصول الربا في هذه الأشياء الستة،
وفي غيرها خلاف بين الفقهاء اهـ.
أقوال المُحَدِّثين في ربا القرآن:
روى مالك عن زيد بن أسلم في تفسير آية آل عمران قال: كان الربا في
الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل حق إلى أجل، فإذا حل قال: أتقضي أم تربي؛
فإن قضاه أخذ وإلا زاده في حقه وزاد الآخر في الأجل، ذكره الحافظ في الفتح،
وذكر الحنابلة عن أحمد مثله، وأنه سئل عن الربا الذي لا يشك فيه فأجاب بمثله.
وروى الطحاوي محدِّث الحنفية في أول باب الربا من كتابه (معاني الآثار)
حديث ابن عباس عن أسامة بن زيد رضي الله عنهم: (إنما الربا في النسيئة)
(وسيأتي) ثم قال:
(قال أبو جعفر) فذهب قوم إلى أن بيع الفضة بالفضة والذهب مثلين بمثل
جائز إذا كان يدًا بيد، واحتجوا في ذلك بما رويناه عن أسامة بن زيد عن النبي
صلى الله عليه وسلم، وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يجوز بيع الفضة
بالفضة، ولا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل سواء بسواء يدًا بيد.
وكانت الحجة لهم في تأويل حديث ابن عباس عن أسامة رضي الله عنهم الذي
ذكرناه في الفصل الأول أن ذلك الربا إنما عنى به ربا القرآن الذي كان أصله في
النسيئة، وذلك أن الرجل كان يكون له على صاحبه الدين فيقول أجلني منه إلى كذا،
وكذا بكذا وكذا درهمًا أزيدكها في دينك، فيكون مشتريًا لأَجَلٍ بمال، فنهاهم الله
عز وجل عن ذلك بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن
كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (البقرة: ٢٧٨) ثم جاءت السنة بعد ذلك بتحريم الربا في التفاضل
في الذهب بالذهب، والفضة بالفضة وسائر الأشياء المكيلات والموزونات على ما
ذكره عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما
رويناه عنه فيما تقدم من كتابنا هذا في باب بيع الحنطة بالشعير، فكان ذلك ربا
حُرِّم بالسُّنة وتواترات به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قامت بها
الحجة، والدليل على أن ذلك الربا المحرَّم في هذه الآثار هو غير الربا الذي رواه
ابن عباس عن أسامة رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - رجوع
ابن عباس رضي الله عنهما إلى ما حدثه به أبو سعيد رضي الله عنه عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم مما قد ذكرناه في هذا الباب، فلو كان ما حدَّثه به أبو سعيد
رضي الله عنه من ذلك في المعنى الذي كان أسامة رضي الله عنه حدَّثه به، إذًا لما
كان حديث أبي سعيد عنده بأولى من حديث أسامة رضي الله عنه؛ ولكنه لم يكن
علم بتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الربا حتى حدَّثه به أبو سعيد رضي
الله عنه، فعلم أن ما كان حدَّثه به أسامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان في ربا غير ذلك الربا. اهـ.
أقول: أما حديث أسامة فقد رواه الشيخان وغيرهما كما تقدم ومنهم الطحاوي
من طريق ابن عباس، وكان ابن عباس يفتي به، وروى مسلم أن أبا نضرة سأله
عن الصرف فقال: أيدًا بيد؟ قلت: نعم، قال: فلا بأس - ورووا أن ذلك ذُكر لأبي
سعيد الخدري رضي الله عنه، وأن أبا سعيد سأل ابن عباس عن قوله، أسمعته من
النبي صلى الله عليه وسلم أم وجدته في كتاب الله تعالى؟ فقال: كل ذلك لا أقوله
وأنت أعلم برسول الله مني؛ ولكن أخبرني أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(لا ربا إلا في النسيئة) هذا لفظ البخاري، وذكر الطحاوي أن أبا سعيد قال له
(أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الدينار بالدينار، والدرهم
بالدرهم لا فضل بينهما) وذكر أنه نزع عن هذه الفتوى، وروى الحاكم من طريق
حيان العدوي أن أبا سعيد ذكر له حديث التمر بالتمر ... إلخ، فاستغفر وتاب عن
ذلك، وحيان ضعَّفه غير واحد.
قال الحافظ في الفتح: واتفق العلماء على صحة حديث أسامة، واختلفوا في
الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد فقيل منسوخ؛ ولكن النسخ لا يثبت بالاحتمال،
وقيل: المعنى في قوله (لا ربا) الربا الأغلظ المتوعد عليه بالعقاب الشديد كما تقول
العرب: لا عالم في البلد إلا زيد، مع أن فيها علماء غيره، وإنما القصد نفي
الأكمل لا نفي الأصل، وأيضًا فنفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو
بالمفهوم، فيقدم عليه حديث أبي سعيد؛ لأن دلالته بالمنطوق ويحمل حديث أسامة
على الربا الأكبر كما تقدم والله أعلم اهـ.
وهذا الأخير هو الصحيح المعتمد كما وضحه الطحاوي، والقول بأن دلالة
حديث أسامة على نفي ربا الفضل دلالة مفهوم، غير صحيح، فإن قوله (لا ربا)
نفي لجنس الربا، فيدخل في عمومه ربا الفضل بالنص، وقوله: (إلا في النسيئة)
استثناء من العموم فبقي غيره منفيًّا، وهل يقول الحافظ: إن نفي كلمة التوحيد
لألوهية غير الله تعالى بالمفهوم؟
((يتبع بمقال تالٍ))