للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد توفيق صدقي


الناسخ والمنسوخ
للدكتور محمد توفيق أفندي صدقي الطبيب بسجن طره

أجملت الكلام في هذا الموضوع حينما كتبت مقالات (الدين في نظر العقل
الصحيح) لضيق الوقت وكثرة الأشغال، وقد رأيت الآن أن أعود إليه بإيضاح
يزيل ما هذر به السفهاء من الناس الطاعنين في الإسلام. الذين يعدون النسخ في
القرآن دليلاً على كونه من عند غير الله وكونه لم يحفظ كاملاً كما نعتقد، وليعلم
هؤلاء المساكين أن ما يقذفونه به ليس إلا حصى لا تزحزح طودًا من مكانه. ولولا
غفلة المنتمين إلى هذا الدين لما وجد القوم حصاة واحدة يرمونه بها ظنًّا منهم أنها
تؤلمه.
القول بالنسخ في القرآن ليس من عقائد الإسلام ألبتة، وإنما هو مذهب في
التفسير نشأ غالبًا في العصر الأول إن صحت الروايات الآحادية الواردة في هذا
الباب. والذين قالوا به منهم إنما أخذوه من ظاهر قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ
أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: ١٠٦) الآية، فكان إذا عرض لواحد منهم اشتباه في فهم
بعض آيات القرآن التى بينها شبه خلاف تمسك بهذا القول لرفْع ما عرض له.
وليس فهم بعض الصحابة حجة في التفسير، وإلا لما خالف جمهور المفسرين ابن
عباس - وهو أعلمهم بالتفسير - في كثير من المسائل ولما خالف بعضهم بعضًا في
نفس هذه المسألة حتى كان بعضهم كأُبَيّ مثلاً يقول: إنى لا أدَع شيئًا سمعته من
رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريد بذلك أنه لا يترك حكمًا ما بدعوى أنه
منسوخ، وكان عمر ينكر عليه ذلك كما ورد في صحيح البخاري عن ابن عباس أن
عمر قال: أقرؤنا أُبي , وأقضانا علي وإنَّا لندع من قول أبي وذاك أن أبيًا يقول:
لا أدع شيئًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم , وقد قال الله تعالى: {مَا
نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: ١٠٦) .
ولو كانت هذه المسألة من العقائد الإسلامية الواجبة لما أنكرها بعض أئمة
المسلمين المتقدمين والمتأخرين كأبي مسلم الأصفهاني وغيره. على أن المتمسكين
بها ليس عندهم دليل يعتد به على صحة مذهبهم , وسنفسر إن شاء الله الآيات التي
توهموا أنها تفيدهم في تأييد رأيهم , وحسبنا أن القرآن لم يقل في موضع ما إن هذه
الآية ناسخة أو منسوخة بأخرى. ولا يحل لنا أن نترك العمل بشيء من كتاب الله
تعالى لفهم فاهم أو لوهم واهم , وأيضًا فليس عندهم دليل قطعي على تقدم المنسوخ
وتأخر الناسخ في كثير من المواضع , بل إن بعض الآيات التى ادعوا أنها منسوخة
تجدها في القرآن متأخرة عن الناسخة كآية العدة في سورة البقرة مثلاً , ولما وجدوا
ذلك زعموا ولا دليل لهم أن الآية المشار إليها نزلت أولاً ولم يبالوا بأن ذلك ينافي
حسن ترتيب الآيات في سورها وإن كان هذا الترتيب توقيفيًا بالإجماع. إننا لا
ندري لِمَ كانت بعض الآيات منسوخة عندهم ولم تكن ناسخة أي كيف يمكنهم تمييز
ما يجب العمل به وما يجب تركه مع أنه لم يرد في الكتاب ما يرشدهم إلى ذلك.
وهل يعقل أن الله يترك عباده يتخبطون في أمور دينهم مع أنه يقول في شأن القرآن:
{جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (الشورى: ٥٢) فإذا كان مذهب
النسخ صحيحًا أفليس من الإبهام وعدم البيان أن يكون القرآن خاليًا من التنبيه على
ما نُسخ وعلى ما لم يُنسخ؟ أو ليس من أعجب العجب أن لا يوجد عند القائلين به
حديث واحد متفق عليه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتبر نصًّا صريحًا
على أن الآية أو الآيات الفلانية نُسخت بالآيات الفلانية؟ ! وما بالهم لم يتفقوا على
عدد مخصوص من الآيات؟ ولِمَ يتركون دعواهم النسخ في آية إذا تحققوا أن لا
تعارض بينها وبين غيرها؟ ! .
غلا الناس في هذه المسألة غُلُوًّا حتى إنهم أرادوا أن يجعلوها فنًّا من الفنون
التى تؤلف فيها الكتب , ولأجل أن يجعلوا أبواب هذا الفن كاملة زعموا أن النسخ
على ثلاثة أضرب:
(١) ما نُسخ لفظه وحكمه معًا.
(٢) ما نسخ لفظه فقط.
(٣) ما نسخ حكمه فقط.
ثم التمسوا لكل ضرب شواهد ولو بالتمحُّل البعيد والخروج عن أساليب
البلاغة بل اللغة حتى لَيخيَّل للناظر إليها أن القرآن ضاع منه شيء ففتح باب واسع
لكل شيطان يريد أن يؤيد دعوى باطلة له لا يوافقه عليها القرآن فيختلق ما شاء أن
يختلق ويزعم أنه كان قرآنًا ونسخ , ثم يلبَس لباس الصالحين والرواة الثقاة ليقبل
المحدثون روايته. وقد اعترف بعض من تاب بذلك ولولا اعترافه ما عرف.
فما يدرينا أن بعض الملحدين أو بعض الفرق الغلاة ظهر بالمظهر الذي غر
الناس حتى صدقوه في دعاويه. فهل بعد ذلك نثق بأي رواية لم تتواتر في مثل هذه
المسائل حتى يجرنا ذلك إلى الطعن في المتواتر نفسه. فالخطة المثلى في تحقيق
الحق وإزهاق الباطل عند العقلاء أن لا يعتمدوا إلا على ما تواتر , ويرفضوا كل ما
خالفه , وإلا لفقدوا التمييز , ولما أمكنهم التصديق بشيء ما إلا إذا أدركوه بحواسهم
مع أننا مضطرون للتصديق بأشياء كثيرة لم نحسها.
اضطرب مبدأ القائلين بالنسخ كثيرًا. فبعد أن قالوا: لا نسخ إلا في الأمر
والنهي تجدهم يسلمون بالروايات الدالة على نسخ اللفظ مع أن جُلها ليس إلا أخبارًا
كما في رواية: (لو كان لابن آدم واديًا لأحَبّ أن يكون له الثاني) .. إلى آخره.
ولو عقل هؤلاء القوم لوجدوا أن لا مناسبة بين أسلوبها وأسلوب القرآن مطلقًا بحيث
لو عرضت والقرآن على ذي ذوق وهو أجنبي عن المسلمين - لَحَكَمَ أن قائلهما لا
يمكن أن يكون واحدًا بدون تردد اللهم إلا فيما كان مسروقًا منه كرواية (إن الذين
آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون)
على أنها لا تخلو من تكلف وتنافر بين الجملتين يدل على أن التأليف مصنوع.
لهذا كله ذهب جميع المحققين من أئمة المسلمين إلى أن أمثال هذه الروايات
الآحادية لا يثبت بها قرآن ولا ينفى بها , ولذلك لا يعتد أحد بالروايات الدالة على
أن الفاتحة والمعوذتين ليست من كتاب الله , ولو سلمنا جدلاً أن أحد الصحابة
أنكرها فلا يعتد بشذوذه ومخالفته جميع من عداه منهم.
نزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فبلغه للناس وحفظوه عنه , وأمر
بكتابته دون سواه فكتبه له كتبة الوحي , وكتبه غيرهم لأنفسهم على ما تيسر لهم في
ذلك الوقت من جلد أو ورق أو عظم أو جريد أو خشب إلى غير ذلك مما أمكنهم
الحصول عليه. ولم يمُت عليه السلام إلا بعد أن كانت جميع السور مرتبة الآيات
محفوظة في صدور الجماهير مكتوبة في السطور وبعد أن سمعوها منه مرات عديدة
في الصلوات والخطب وغيرها وسمعها هو أيضًا منهم , وارتقت الأحوال بعد وفاته
وتيسر لهم كتابة جميعه على الورق ففعلوا ذلك ونسخوا منه مصاحف بلهجات
العرب المختلفة. ولما ولي عثمان الخلافة أمر بالاقتصار على لغة قريش خوفًا من
وقوع الاختلاف في القرآن فكتبت المصاحف بهذه اللغة الواحدة بعد التحري والتدقيق
فيما كتب قبل ذلك وبعد السماع من الحفاظ , وكان ذلك بعد وفاة النبي بسنين
قليلة , ثم أرسلت المصاحف إلى الآفاق التي استعمرتها الصحابة رضوان الله عليهم
وفيهم الحافظون للقرآن في صدورهم وفي صحفهم فوافقوا جميعًا على استعمال
هذه المصاحف.
هذا، ومَن عرف طباع العرب وشدتها تحقق أنه لو وجد في مصاحف عثمان
عيب لرفضوها ولأُثِيرَتْ حروب وأُهرقت دماء ولقُتل عثمان لهذا السبب ,
ولوجدت مصاحف مختلفة بين المسلمين اليوم ولكن لم يحصل شيء من ذلك مطلقًا.
فدل ذلك على أن هذه المصاحف هي عين ما تلقَّوْهُ عن النبي صلى الله عليه وسلم
ثم أخذت طرق كتابتها تتحسن شيئًا فشيئًا حتى وصلت إلى الحالة الحاضرة من
النقط والشكل , ولا يوجد بينهما اختلاف مطلقًا قديمها وحديثها، شرقيها وغربيها إلا
ما كان خطأً مطبعيًا أو سهو ناسخ. ويهيمن على هذه المصاحف آلاف الألوف من
الحفظة في جميع الأقطار وفي جميع الأزمنة.
هذا هو تاريخ القرآن كما تواترت به الأخبار , وما خالف ذلك من الأخبار
الآحادية يجب رفضه ولا يُعبأ به. وهذا هو الكتاب الذي نؤمن به ونعتقد أنه لا
ناسخ فيه ولا منسوخ بل جميع آياته محكمة يجب العمل بها جميعًا، ومن شاء أن
يعارض في ذلك فعليه بالدليل. فليس هو ككتب الأديان الأخرى حرمت قراءتها
على العامة ولم يحفظها الخاصة في صدورهم فلعبت بها الأهواء، وتعددت في
شأنها الآراء.
لو كان الاسلام دين عجائب وغرائب كغيره مما بني على حكايات رويت
بالروايات اللسانية ولم تكتب إلا بعد زمن وقوعها بمدة تكفي لضياعها أو الخلط فيها
أو إدخال الدخلاء فيها ما ليس منها , ولما كتبت لم يكن عند أهلها فن تحقيق
الأسانيد وتحريها الذى لم يعرف إلا عند المسلمين - لو كان الإسلام كهذه
الأديان لحقَّ لأهله الخوف من الطعن في أمثال هذه الروايات. ولكن الإسلام - ولله
الحمد - دين عقل وعلم أُسس على كتاب كتب في عهد نبيه وحفظ في الصدور.
فما بال أهله قلدوا غيرهم وخافوا من رفض أمثال هذه الأحاديث الآحادية مع أنه لو
رُفضت جميعها بما فيها الأحاديث الدالة على صحة الإسلام كأحاديث المعجزات
الكثيرة وغيرها لا الموجبة للطعن فيه فقط لما ضرنا ذلك شيئًا؟ ! . فما بالنا اليوم
أخذنا نسبّ كل مَن فتح هذا الباب ونكفره مع أنه لم ينكر أصلاً من أصول الدين! .
فليتق الله عقلاء المسلمين.
كم من دخيل دخل في رواة أحاديث جميع الأديان والملل؟ كم من حق ضاع بين
باطل؟ كم من موضوعات رفضها المحققون؟ ألم يخرج البخاري رضي
الله عنه أحاديثه وهي أربعة آلاف من ستمائة ألف حديث؟ وهو شخص واحد يجوز
عليه الخطأ لأنه ليس معصومًا. فما هذا الجمود يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم
ودينكم أرقى من ذلك؟ ! . ولولا أنتم لما وَجد سفيه قشًّا يضربنا به.
فلنرجع إلى تتميم موضوعنا فنقول: أما ما تمسك به هؤلاء الجامدون من
القرآن الشريف على صحة مذهبهم فهو لا يفيدهم شيئًا , ولذلك أذكر هنا أشهر
الآيات التى تمسكوا بها وأتكلم عنها واحدة فواحدة بما يشفي العليل ويروي الغليل:
(الآية الأولى) آية السيف: وهى في سورة التوبة: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ
الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} (التوبة: ٥) الآية، فقالوا: إنها
نسخت جميع الآيات الآمرة بالعفو والصبر والصفح , ولو تأملوا قليلاً لوجدوا أن
أكثر هذه الآيات مشعرًا بالتوقيت والغاية إلى أجل كقوله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا
حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (البقرة: ١٠٩) . {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} (الصافات:
١٧٤) . {وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} (يونس: ١٠٩) . {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ
سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (الزخرف: ٨٩) ... إلى غير ذلك من الآيات التى تشعر
بأن ترك المدافعة والمقاتلة كان مؤقتًا. ومن القواعد الأصولية المعروفة أنه إذا ورد
حكم مطلق وآخر مقيد في موضوع واحد حُمل المطلق على المقيد.
وعليه فالآيات المطلقة الواردة في هذا الموضوع يجب أن تقيد بالتوقيت مثلاً قوله
تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (الحجر: ٨٥) . وقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الحجر: ٩٤) كل منهما مؤقت أي أن الأمر بالصفح
والإعراض لا إلى غير أجل ولم يكن دائمًا , فلما تحقق المسلمون بعد طول الاختبار
أن الصفح والإحسان لا يجدي مع العدو نفعًا ولا يزيده إلا طغيانًا واسترسالاً في
الأذى إلى درجة أن يسفك دماءهم ويغتصب أموالهم وأعراضهم ولا يخرجهم من
ديارهم ولا يراعي لهم عهدًا , ولا يرقب فيهم إِلاًّ ولا ذمة؛ لما تحققوا ذلك وقووا
أُمروا أن يردوه عن غيه ويكسروا شوكته وينتقموا منه مع مراعاة العدل في كل ذلك.
والخلاصة أن الصبر على الأذى والإحسان إلى المسيء مأمور بهما في
القرآن كثيرًا ولكن لا في كل وقت ولا إلى غير حد , ويفضَّلان على الأخذ بالمِثْل
إلا إذا جرَّا إلى الوبال وسوء الحال. ومن فهم ذلك علم أن لا تعارض بين آيات
القرآن في هذا الشأن فإن لكل مقام مقالاً. وعليه فلا معنى للقول بالناسخ والمنسوخ
هنا لاختلاف الحالين , وقد أدرك ذلك كثير من علماء المسلمين كالسيوطي وغيره.
هذا، ولما كان الواجب علينا اقتفاء أثر النبي في كل شيء؛ وجب علينا أن تكون
خطته خطتنا فنجرب أولاً اللين فإن لم ينجع فالشدة إلا إذا خفنا أن يضيع اللين
مركزنا ويمكِّن العدو منا. فقد وصانا الله تعالى بالخوف من العدو كثيرًا فقال: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (النساء: ٧١) وقال: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ
وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَيْلَةً
وَاحِدَةً} (النساء: ١٠٢) ؛ ولذلك لم يهمل النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه
الراشدون أحدًا ممن ناصبهم العداوة وتربص بهم الفرص حتى يسلبهم ماحصلوا
عليه من القوة ويتمكن من الفتك بهم.
(الثانية) مسألة القبلة: لا يخفى على ناظر في الكتاب العزيز أن هذه
المسألة ليس فيها نسخ للقرآن , وإنما هي نسخ لحكم لا ندري هل فعله النبي عليه
السلام باجتهاده أم بأمر من الله تعالى غير القرآن فإن الوحي غير محصور في
القرآن؛ فقد قال الله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (النجم: ١٠) : أي
في ليلة المعراج ولا ندري جميع ما أوحاه الله إليه في تلك الليلة سوى ما بلغنا إياه
من أمر فرض الصلوات الخمس , وأيضًا فقد يوحى إليه بشيء في منامه كرؤياه
دخول المسجد الحرام المذكورة في قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا
بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (الفتح: ٢٧) الآية، فقد كانت هذه الرؤيا وحيًا
إليه قبل أن ينزل فيها القرآن وهى تشبه رؤيا إبراهيم أن يذبح ابنه فقد كانت وحيًا
له أيضًا في منامه؛ إذ ليس كل وحي قرآنًا، وإنما القرآن ما يمكن تشبيهه بما
يسمى عندنا الآن بالأوامر الرسمية التحريرية وغيره بالشفهية غير الرسمية، وبناءً
على ذلك لم يحصل في القرآن نسخ في هذه المسألة مطلقًا.
(الثالثة) قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن
مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ
صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: ٦٥-٦٦) .
قال أهل النسخ: إن الآية الثانية ناسخة للأولى , وفاتهم أن ذلك يوجب القول
بأن الحكمين الواردين في سياق واحد متناقضان ولا مخلص لهما من ذلك بدعوى
أنهما نزلا في وقتين مختلفين؛ لأن القرآن لم يقل ذلك ولم يفصل بينهما وأيضًا يلزم
على قولهم أن المسلمين في أول أمرهم كانوا أقوياء جدًّا حتى إن الواحد منهم يغلب
عشرة , ولما كثروا وانتصروا مرات عديدة ضعفوا وصار الواحد منهم باثنين فقط
فواعجبًا ما هذا القلب؟ . ويلزم أيضًا أن الله على قولهم لم يكن يعلم أن الواحد منهم
لا يمكنه أن يغلب العشرة إلا بعد أن جرب ذلك , ولما تحقق أبطل هذا الحكم وأبدله
بالآخر! ، وجوابهم عن هذه المسألة ركيك.
واعلم أن المعنى الصحيح هو أن الآية الأولى وعد من الله لهم بنصر الواحد
على العشرة , ولما كان هذا الوعد يتضمن الأمر بالثبات أمام العدو ولو بلغ عدده
عشرة أمثالهم فكأن واحدًا منهم شق عليه ذلك فسأل: هل نمتثل هذا الأمر الآن؟
فأجاب تعالى على سبيل الاستئناف البياني: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} (الأنفال:
٦٦) . أي لم يرد الآن أن يوجب عليكم امتثاله ثم قال: { ... وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} (الأنفال: ٦٦) وهذا كالتعليل لعدم إيجاب الثبات المذكور في الوقت الحاضر
لعلمه أنكم ضعفاء لا تقوون عليه , ثم أمرهم بالثبات أمام مثلَيْهم فقط موقتًا إلى أن
يقووا، فكأنه قال: يعدكم الله بالنصر على عدوكم الآن وإن كان مثلكم مرتين
ويعدكم بالنصر في الاستقبال ولو كان عدده عشرة أمثالكم , وإنما قدم الوعد الأخير
على الأول؛ لأنه أبلغ في الحض على القتال فأتى به بعد قوله: {حَرِّضِ
الْمُؤْمِنِين} (الأنفال: ٦٥) وقدم لفظ] الآن [للدلالة على القصر فكأنه قال:
(الآن فقط) يتساهل معكم ولا يوجب هذا الأمر الشاق عليكم , ولكنه في المستقبل
يحتم عليكم الاستماتة في القتال.
(الرابعة) قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ
أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المجادلة: ١٢-١٣) .
والمعنى أن الله ندبهم إلى تقديم الصدقات للفقراء قبل مناجاة الرسول في شأن
من شئونهم والدليل على أن ذلك ندب قوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} (المجادلة:
١٢) وكذا ما سيأتي بعد ثم قال: {فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المجادلة:
١٢) أي: أن مَن كان هذا شأنهم لا يؤاخذهم على ترك هذا الأمر إذا لم يجدوا ما
يتصدقون به أما من تركه بلا عذر فالله يلومه ويوبخه ثم قال: {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} (المجادلة: ١٣) أي: أَخِفتُم وهو استفهام بمعنى النهي
كقوله: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} (التوبة: ١٣) أي: لا تخافوا الفقر من
تقديم الصدقات فإن الله يخلفها ويجازيكم عليها بالخير في الآخرة: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا
وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} (المجادلة: ١٣) أي: إن تهاونتم ولم تفعلوها ,
والحال أن الله تاب عليكم بأن لم يجعلها أمرًا محتمًا واجبًا يعاقبكم عليه إن تركتموه
- فلا تتهاونوا في الواجبات كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله والرسول فإن
الله لن يسامحكم في ذلك، وأيضًا فإن قيامكم بهذه الواجبات يكفر عنكم تهاونكم في
المندوبات فلا يلومكم الله على تركها على حد قوله في آية أخرى: {إِن تَجْتَنِبُوا
كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (النساء: ٣١) .
(الخامسة) قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ
مِثْلِهَا ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ
كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (البقرة
: ١٠٦-١٠٨) .
الآية هنا هي ما يؤيد الله تعالى به الأنبياء من الدلائل على نبوتهم والمعنى:
ما ننسخ من آية نقيمها دليلاً على نبوة نبي من الأنبياء أي نزيلها ونترك تأييد نبي
آخر بها أو ننسها الناس لطول العهد بمن جاء بها فإننا بما لنا من القدرة الكاملة
والتصرف في الملك نأتي بخير منها في قوة الإقناع وإثبات النبوة أو مثلها في ذلك.
ومن كان هذا شأنه في قدرته وسعة ملكه فلا يتقيد بآية مخصوصة يمنحها جميع
أنبيائه وهو رد على من يقترح معجزات مخصوصة. وهذا التفسير هو المناسب
لقوله: {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: ١٠٦) إلى قوله: {أَمْ تُرِيدُونَ
أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ} (البقرة: ١٠٨) .
(الآية السادسة) قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ
لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: ١٠١-١٠٢) .
والمعنى: إننا إذا بدلنا حكم آية من آيات كتب الله السابقة بحكم آخر والله أعلم
بما يفعل وبما له من الحِكَم العظيمة - قالوا: إنما أنت كذاب لأن الله لا ينسخ
شرائعنا وذلك لجهلهم ما يترتب عليه من المنافع { ... قُلْ نَزَّلَهُ} (النحل:
١٠٢) أي القرآن، { ... رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} (النحل: ١٠٢) بتبيين حكم ما نسخ من الشرائع السابقة { ... وَهُدًى ... } (النحل: ١٠٢) لهم في أعمالهم { ... وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: ١٠٢) بأنهم
على الحق الثابت وأنهم مقيمون شرائع الله وحملة دينه للخلق جميعًا. وقد سميت
شرائع التوراة في القرآن بالآيات في قوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ ... } (المائدة:
٤٤) إلى قوله: {.. وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة: ٤٤) والذى يدلك على صحة تفسيرنا ورود
بعض الأحكام الموسوية وبيان أنها منسوخة بعد الآية التى نحن بصدد تفسيرها
بقليل حيث قال: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ
اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ
الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا
قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل: ١١٤-
١١٨) إلى أن قال: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (النحل: ١٢٤) .
هذا وإذا سلمنا أن المراد بقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ... } (النحل:
١٠١) آيات القرآن نفسه فلِمَ لا يكون المراد: أننا إذا بدلنا آية في موضوع ما بآية
أخرى عند تكرر هذا الموضوع في سور مختلفة كقصص القرآن ومحاجته للعرب
وغيرهم - توهموا أن فيها تناقضًا وتضاربًا , وقالوا: إنما أنت مفتر كذاب وإلا لما
خالفت نفسك في عباراتك مرات عديدة؟ ! وذلك ناشئ عن جهلهم وعدم تدبرهم
في آياته {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقّ} (النحل: ١٠٢) فلا تناقض
فيه ولا اختلاف {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا ... } (النحل: ١٠٢) بما فيه من العبر
والحكم التي إن كررت واختلفت عباراتها فلا اختلاف في معانيها وهذا يشبه قوله
تعالى: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} (هود: ١٢٠) ،
ثم قال: {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: ١٠٢) أي: هدى لهم بإرشاداته
المتضمنة في عباراته المختلفة وبشرى لهم بأن الله سينصرهم على عدوهم كما
نصر أهل الحق من الأمم السابقة. فعلى هذين التفسيرين السابقين لا يبقى لمدعي
النسخ حجة ما في القرآن.
ومن تأمل في هذه الآية وجد أنها لا تنطبق على رأيهم. فما معنى قوله:
{لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: ١٠٢) فهل في النسخ الذى
يدعونه تثبيت أم زعزعة؟ وفي أي مواضع من القرآن نص على ما نسخ وبيّن
حكمته؟ وما معنى الهداية والبشرى للمسلمين هنا مع أن دعواهم توجب الحيرة
والضلال كما قلنا وليس فيها شيء من البشرى لنا وما مناسبة هذا الكلام هنا؟ ! .
فهذه أعظم حجج القائلين بالنسخ وقد علمت مما كتبناه أنه لم ينهض لهم شيء
منها فبأي شيء بعد ذلك يتمسكون؟ فيا قوم كفاكم كفاكم ما حمّلتم هذا الدين المتين؛
فقد نفرتم الناس منه وصرتم أكبر الصادين عنه. وهداكم الله سواء الصراط.
انتهى.
(المنار)
إن مسألة النسخ مثار لشبهات كثيرة يوردها قسوس النصارى ومجادلوهم على
القرآن , وقد أطال اللغو فيها مؤلف كتاب الهداية طعنًا في الإسلام، والغرض الأول
للدكتور محمد توفيق أفندي صدقي من هذه المقالة رد هذه الشبهات. على أنه يعتقد
صحة ما ذهب إليه مانعو النسخ في القرآن كأبي مسلم المفسر الشهير. وإن لنا
كلامًا آخر في هذه المسألة سننشره في جزء آخر , وإنه ليسرنا أن نرى من
المتخرجين في المدارس العالية من يبحث في أصول الدين ويُعْنَى بفهم القرآن
والاهتداء به وإن خالف جمهور الفقهاء والأصوليين في المسائل التي لا يعد أحد من
المتخالفين فيها كافرًا ونعتقد اعتقادًا مؤيدًا بالاختبار أن إقناع المتخرجين في تلك
المدارس بالدين لا يكون إلا بهذه الطريقة؛ لذلك نقبل منهم مباحثهم وأسئلتهم مع
الاغتباط والسرور. ولله عاقبة الأمور.