أيها الشرقي كيف يطيب لك النوم على غوارب هذه الأمواج المضطربة، وفي مهابّ هذه العواصف العاتية، أما أزعجك هذا الموج الملتطم، وأرهبك هذا اللجُّ المغتلم، أما أقلقك هزيز [١] هذه الرياح المتناوحة، وهزت جسدك زعازعها المتراوحة، أما صخّت آذانك، [٢] وخدّرت جثمانك، فتعذر إسماعك وتحسيسك [٣] ، ووقع اليأس من إيقاظك وتنبيهك، لو أنك يقظان لكنت أجدر بالأطيط [٤] من الغطيط [٥] ، وأخلق بالزفير والشهيق، من المكاء والتصفيق، ويحك هل أنت فاقد الرشد لصغر سنك، واختبال عقلك، أم أنت زمِن عاجز؟ إذا كنت صحيح العقل والجسم فكيف رضيت أن تقيم الأجنبي وصيًّا، وقيماً عليك بحيث إذا لم يقدم لك مادة طعامك ولبوسك وكنّك وأدوات الوصول إليها تموت من الجوع والعري، وهو لا يسمح لك بهذا اللماج [٦] الذي تأكله، والسمول [٧] الذي تلبسه، إلا ليستخدمك ويستعملك كما يستعمل الآلات الميكانيكية، لا يخدعنك ما ترى في بلادك من مظاهر الثروة على بعض أفراد التجار، فلو أقفلت في وجوههم مصارف (بنوك) أوروبا، وغُلَّت أيدي تجارها عن إمدادهم لحاصوا حيصة الحمر، واضطربوا اضطراب الأرشية [٨] في الطويّ [٩] البعيدة القعر، لا تغرنك أرض بلادك (أطيانك) الواسعة؛ فقد نقصها الغربيون من أطرافها، بل كادوا يحيطون بأكتافها، وقبضوا على موارد الثروة فيها، حتى أنهم ليبيعونك ماءها الذي تحتسيه، ويتقاضونك أجرة طريقك الذي تجول فيه، لا تزدهينك عظمة حكامك، فقد أمسوا مغلوبين على أمرهم، ومنفذين لإرادة غيرهم، إلا قليلاً ممن أنجاه الله تعالى منهم، ولست أخص بهذا ما يفتات به رجال الإنكليز على الحكومة المصرية من نحو بيع سفنها وصفاصفها [١٠] مثلاً، بل أعمّ به كل قانون جادت به الحكومات الشرقية (لا سيما الإسلامية) على أهل أوروبا، فجارت بذلك وعدلت عن طريق الفضيلة الدينية، كإباحة السكر والبغاء والكشف الطبي على البغايا الذي تقشعر لتصوره جلود الذين آمنوا، وينفعل لتذكره روح كل معتقد بدين سماوي. قلنا: إنهم مغلوبون على أمرهم، لكن هذا الغلب لم يجبروا عليه بكُرَى [١١] المدافع ورصاص البنادق، وإنما كان لضعف في الدين، ووهن في العزيمة، وجهل بعاقبة الأمور. أدهشتهم عظمة أوروبا، واستهوتهم زخارف مدنيتها، فطفقوا يتقربون إليها، ويقلدونها بأقبح ما لديها، عن غير روية ولا بصيرة، ألا ساء ما كانوا يعملون. دع عنك التفكر بسيئات الحكومات، واصرف بصرك إلى وطنك، وماذا يجب له عليك. حدق النظر واستطلع الخفايا واسْتَجْلِ الدقائق يتجلّ لك أنك دعامة وجوده، وروح حياته، بك يعيش ويحيا، وبك يموت ويفنى، بك يعز ويغنى، وبك يذل ويشقى، وإذا تجلى لك هذا تشعر بأن لك شأنًا عظيمًا في الوجود، وتحس بقواك المقدسة التي أودعها مدبر الكون في جرثومتك الإنسانية، فتندفع إلى طلب الفضيلة الحقيقية، والكمال الصحيح الذي أنت له أهل، ولا ترضى أن تكون نقاعًا [١٢] انفجانيًا [١٣] أو إمعاً [١٤] أو غطاريًّا [١٥] ، وإن رضي بذلك الجماهير الذين فقدوا هذا الشعور والإحساس الشريف. كل من يرى نفسه في قصور عن إسعاد وطنه وإعلاء منار أمته، فهو كافر بنعمة العقل، محروم من الكمالات الإنسانية التي ارتفع بها البشر، عن مرتبة الحمر والبقر. مَنْ أحط شأنًا ممن يرى أن السعادة الإنسانية، في التمتع بالشهوات الحيوانية، ويقنع بأن يفوقه الثور في أكله، والعصفور في سفاده، والطاووس في لبوسه، والفرس في خيلائه، والثعلب في حيله، ويطيب له العيش وهذه العجماوات أفضل منه وأكمل فيما حسبه فضيلة وكمالاً. إيه، إن من الحشرات ما يعمل ويسعى لجنسه ووطنه كالنحل والنمل، أفترضى أيها الشرقي أن تكون أخس من الحشرات وأنقص من الهوامّ؟ إلى متى هذا التفرق والتبدد، والتوحيد والتفرد، مد يدك لمواطنك ومشاركك في مواد حياتك، وتعاهدوا وتعاونوا جميعاً على ما فيه منفعة الجميع، أخلط مالك بماله، تختلط نفسك بنفسه، واعملوا مجتمعين، فقد كفاكم ما جناه عليكم التفرق والانفراد. بادروا الزمان، قبل فوات الإمكان، فيوشك أن لا يدع الدخيل لكم باباً من أبواب الثروة إلا أقفله، ولا سبباً من أسباب النجاح إلا قطعه، فماذا ينفعكم التنبيه إذا أغلقت دونكم الأبواب، وتقطعت بكم الأسباب، ألِّفوا الشركات المالية، وشيدوا المدارس الوطنية، وربوا أبناءكم وبناتكم على ما تقتضيه مصالحكم الوطنية، وآدابكم الدينية، فلا نجاة ولا نجاح لكم إلا بهذا. وأما التشدق بالقيل والقال، والجلاء والاحتلال، وقطع الزمان بالأماني والتشهي، وتأسف العجائز والزمنى، فهو مما يضيع الفرص، ولا يغني عنكم شيئاً، والماضي عنوان الآتي. معاشر العثمانيين، وأنتم أول مَن أعني بالشرقيين، ليذكِّرْ عالمكم جاهلكم، ولينذر متنبهكم غافلكم، ألفوا الشركات وعلموا البنين والنبات] وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ [١٦] شَنَآنُ [١٧ {قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا} (المائدة: ٨) ، ولا يصدنَّكم اختلاف المذاهب عن الاتفاق على المكاسب، فقد رأيتم العبر في البلاد التي أصاخت لوساوس الأعداء، وعملت بدسائس الدخلاء، وكيف خربت ديارهم، واجتثت أشجارهم، وسفكت دماؤهم، ويُتِّمَتْ أبناؤهم، وما كان من قلب أوضاع، واستباحة أبضاع، والدين من وراء ذلك ينهى عن انتهاج هذه المسالك. تفكروا في معنى الأمة والوطنية، واقدروا حق الشعب قدره، يتضح لكم أن الأمة تتكون بالاجتماع على الانتفاع، وبالاتحاد على نيل المراد، وتربية الحاكمين الذين يقيمون النظام، ويحفظون الأمن العام، يسهل على الشعب أن يربي أفرادًا وأممًا، ويعسر على الآحاد أن تربي شعباً كبيراً وأمة عظيمة، لاسيما مع قلة المال، وسوء الحال، فحتام التعلق بأذيال الحكومة، والتشبث بأهداب الآمال الموهومة، والإنحاء على الدولة بالتقصير، والانخداع بالغش والتغرير. تنبه جماعة من إخواننا الأتراك إلى أن الأمة في حاجة إلى إصلاح، ولكنهم جهلوا طريقه أو تجاهلوه، فلجأ بعضهم إلى أوروبا، وبعضهم إلى مصر، وأنشأوا جرائد للتنديد بسياسة المابين الهمايوني، ونالوا من مقام الحضرة السلطانية ما نالوا، وطعنوا في رجال الدولة العلية، وسوَّأوا أعمالهم وأحكامهم، والتفّ عليهم قوم آخرون، ولا يخفى على الناس ما يسرون جمعيهم وما يعلنون، ولو صرفوا أقلامهم إلى التعليم، لهدوا إلى صراط مستقيم. أو لم يكفهم أن سلطانهم وإمامهم هو مقاوم بسياسته وحكمته لأوروبا كلها، وأنه قد أوقف بقواه العقلية الباهرة من تيارات الحوادث، وسكن من عواصف الكوارث ما تعجز عنه الجماعات، بل الأمم، حتى قال فيه رئيس ساسة الإنكليز الذين يفوقون ساسة كل الأمم وهو المستر غلادستون الشهير: (إن السياسة الحميدية تغلبت على السياسة البريطانية وقهرتها في المسألة الأرمنية) ، والفضل ما شهدت به الأعداء، واعترف به الخصماء، فإذا تفرغ من هذا شأنه لإعارة الأعمال الداخلية نظراً ألا يعد ذلك من خوارق العادة في القوى البشرية؟ ! بلى وإن مولانا السلطان الأعظم قد بذل من العناية في داخلية ممالكه ما لو ساعده عليه أهلها ولم تَعُقْ سيره فتن السياسة، لنهض بها نهضة عظيمة، كما يشير إلى ذلك قول (الأستاذ اللغوي فمبيرى الرحالة المجري) من بضع سنين في ترجمة مولانا السلطان - أيّده الله تعالى - وهو [١٨] : (أقول عن ثقة وروية: إنه إذا استمر الأتراك سائرين في المنهج الذي نهجه لهم سلطانهم، وإذا لم تعرقلهم مشاكل السياسة ومخاطرها - بلغوا مبلغًا يُذكر فيُشكر بعد زمان وجيز، وتوطد أساس ارتقائهم العقلي والاقتصادي ووجودهم السياسي في مستقبل الأيام. ولقد قال لي جلالة السلطان يوماً: (قد جعلت السلم غرضي، أسعى إليه جهدي، إذ السلم هو الدواء الذي يشفي ما أصابنا في الماضي من قروح التقصير، وأدواء الإهمال، وسوء التدبير) ، وذكر أنه سمع من جلالته أيضًا ما ترجمته: (إن أوروبا قد عزقت أرضها، ومهدت تربتها أعوامًا وعصوراً، حتى جاءت بما نراه فيها من مصادر الحرية والمنشآت الحربية، والآن يطلبون إليَّ أن أقتلع فسيلة من منابت الحرية فيها، وأغرسها في أراضي آسيا الوعرة البائرة القاحلة. دعوني أتعهد هذه الأراضي قبلاً بما يحسنها، فأقتلع أشواكها، وأرفع أحجارها، وأفلح تربتها، وأخدّ الأخاديد، وأحتفر الأقنية لإروائها؛ لأن أمطار آسيا قليلة نادرة، ثم أنقل تلك الفسيلة إليها، وأكون أول من يطيب نفسًا ويقر عينًا بنمائها ونضارتها وغضاضتها) [١٩] . نعم إن إطلاق الحرية للشعب الجاهل يزجّ به في الفواحش ويفضي به إلى الهرج والفوضى، فلا بد من السعي في تعميم التربية والتعليم، مع نوع من الحجر والتقييد، وإطلاق الحرية لأصحاب الأفكار والأقلام رويدًا رويدًا في ضمن دائرة الشرع، خلافًا للمفتونين من حزب تركيا الفتاة، الذين يسيرون في طرق مجهولة، ويرمون لأغراض غير معقولة، ولقد صدق مولانا أيده الله تعالى فيما أشار إليها من كون أراضي نفوسنا قاحلة من المعارف، وفيها أشواك وتضاريس ينبغي إزالتها قبل إلقاء بذور الحرية فيها، ولقد صدقنا وعده بالاجتهاد في إزالة الموانع وإدالة المنافع، ولكننا لم نساعده على تحقيق أمانيه الشريفة، بل منا من تعدى الحدود وما وفّى بالعهود [٢٠] . أين الشركات التي عقدناها، والمدارس الوطنية التي شيدناها، أما منحنا امتيازات لإنشاء سكك حديدية فحملت الجهالة من نعدّهم من أمثلنا وأنفسنا، على إيثار الأجانب على أنفسنا، وبيع الامتيازات بأبخس ثمن، مع أن بيعها بمعنى بيع الوطن، أنشأ الأمير العاقل سعادتلو محمد باشا المحمد مدرسة في عكار فحباه برتبة عالية (ميرميران) ، ووسامات زاهية، وأنعم على المدرسة بكتب قيمة، ونسبها إلى ذاته المعظمة، (الحميدية) ، فإن وراء هذا ترغيب وتنشيط، وهل ينبغي أن يكون معه تقاعد وتفريط، ولولا اشتغال مولانا أيده الله تعالى بحل المشكلات ومعالجة المعضلات، لأنال الملك بحزمه وهمته آماله، وبلغنا من الارتقاء فوق ما قدر بذلك الرحالة. وخلاصة القول: أن مولانا السلطان الأعظم سدّده الله تعالى جار على قاعدة تقديم درء المفاسد على جانب المصالح، وما يعلم أنه الأهم على المهم، ومع ذلك لا يأتلي أن يكافئ من أصلح خللاً، وأحسن عملاً، وأنه يتعين على علماء الأمة وأغنيائها أن يوافوا رغبته في إصلاح داخلية البلاد، والعمل على ترقيتها، لا سيما تعميم التربية الحقة والتعليم الصحيح، فهما الكافلان باستئصال الأمراء الخونة والحكام الظلمة، والعاملان على اصطلام [٢١] الغي والفساد، والبغي والإداد [٢٢] هما المطهران للنفوس من أدران الرذائل، والمسبغان على الأرواح حلل الفضائل، بل هما الروح الذي تحيا به الشعوب والأمم، والنور الذي تستضيء به في دياجير الظلم، ولا يمكن الحصول على الغرض منهما إلا بإرشاد العلماء، وإرفاد الأغنياء، فمن قصر في وظيفته منهما فهو خائن لأمته ودولته، عدو لوطنه وملته، فالجهل خير من علم لا ينفع، والإملاق (الفقر) أفضل من ثراء (غنى) لا يرفع، ومن يرغب عن الحكمة إلى اللهو، ولا يعرض عن مجالس اللغو، فهو جهول، وإن وسموا بالعلم تدجيله، وصاحب فضول، وإن سموه صاحب الفضيلة، ومن يحرز المال في صناديق الحديد، ويمسكه عن كل مشروع مفيد، وهو يرى بلاده تباع للدخلاء، وأزِمّة ثروتها تتنازعها الغرباء، وأبناءها منغمسين في الترف، وبناءها على شفا جرف، فهو الخاسر المغبون، والخائن الملعون، والأخرق المجنون، إنفاقه سفه وتبذير، وإمساكه شح وتقتير، بل خراب وتدمير، وإن رفعت قصوره ومراتبه، ونصبت موائده ومآدبه، وجرت مركباته (عرباته) وجرت مراكبه (ذهبياته) . فالوطنَ الوطنَ أيها المصريون، الوطنَ الوطنَ أيها العثمانيون، جانبوا البطالة والكسل، وأجيبوا داعي العلم والعمل، احفظوا جامعتكم العثمانية، وأخلصوا للدولة العلية، تعاونوا على البر والتقوى، وتمسكوا من الحزم بالسبب الأقوى، وابتدروا المنهج القويم، ولا تكونوا كدابغة وقد حلِم الأديم [٢٣] والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.