باخرتا الحُجَّاج - المنصورة والنجيلة استأجرت الحكومة للحجاج باخرتي (المنصورة والنجيلة) وهما من أقدم سفن شركة البواخر الخديوية- وأما المحمل المصري فقد حمل مع أميره وعسكره على سفينة حربية إنكليزية- ولما كنا آخر من جاء السويس من الحجاج علمنا من أصدقائنا الموظفين في هذا الشأن أن المنصورة أسرع الباخرتين، وأنه لم يبق في الدرجة الأولى منها موضع لي وللسيدتين؛ لأن وفد العلماء المرسل إلى الحج على نفقة سلطان مصر المعظَّم قد ركب المنصورة قبل مجيئنا، وتسابق إليها الناس، وقد يوجد فيها موضع واحد لي، وأن النجيلة تفضل المنصورة بأنها أقل منها نودانا، وأنه يمكن أن نجد في الدرجة الأولى منها بيتًا أو مخدعًا (قمره) خاصًّا بنا. فنزلنا فيها مع رفيقنا في يوم الأحد لأربع بقين من ذي القعدة، وقد علمنا بعد سفرها أنها أبطأ بواخر الدنيا سيرًا. قيل لنا: ليس فيها ضوء كهربائي ولا أجراس ولا مقاعد للاستراحة إلا كراسي المائدة في الدرجة الأولى، ولكن المِخدع الذي خصص لنا فيها واسع جدًّا قلما يوجد في البواخر الكبيرة مثله في سعته، وهو مُعدّ لنوم ستة أو سبعة، وفيه عدة نوافذ. ثم إن ربانها سالم أفندي البدن من أحسن الناس أخلاقًا وعناية بالحجاج، وهو من أقدم المستخدمين بهذه البواخر، وقد حج مرارًا، وطبيبها مهذب حسن المعاشرة وهو طلياني يتكلم بالعربية العامية بطلاقة ولهجته فيها سورية، فنشكر لهذين الرئيسين في الباخرة حسن عشرتهما وعنايتهما بنا خاصة وبسائر الحجاج أيضا، ولا نبخس خدم الباخرة حقهم من الثناء على حسن خدمتهم. ولعل باخرتنا كانت تفضل المنصورة فيما عدا سرعة السير. وقد زارنا في الباخرة قبل سفرها محافظ السويس، ثم صار إلى المنصورة لزيارة وفد العلماء السلطاني فيها. *** حجاج باخرتنا النجيلة وأنسنا في الباخرة بصحبة كثير من ركاب الدرجتين الأولى والثانية وحمدنا صحبتهم وعشرتهم، وأخص بالذِّكر منهم عالمًا من أكبر علماء القطر المصري وأديبًا من أفضل أدبائه. أما العالم فهو الأستاذ الشيخ عبد الفتاح الجمل شيخ علماء بورسعيد وقد كنت أسمع له ذكرًا حسنًا فرأيته فوق ما كنت أسمع علمًا وفضلاً وهدْيًا وأدبًا وإنصافًا في المذاكرة واستقلالاً في الفهم، وله مشاركة حسنة في التاريخ والأدب ومعرفة أحوال العصر، ولعله يندر وجود مثله في علماء مصر. وأما الأديب فهو محمد توفيق علي (اليوزباشي) في الجيش المصري، وهو يفضل من نعرف من أدباء مصر وضباطها في الأخلاق الدينية والمحافظة على العبادات، وكثرة النظم في ذم الفواحش والمنكرات. وقد كان معه والدته، وهي امرأة تقية زكيه الفطرة، واتفق أن كان مخدعهما ملاصقًا لمخدعنا فكانت والدتي وشقيقتي تأنسان بإلمامها بهما وصحبتها لهما، وهي أقل منهما دوارًا، وأكثر على مشقة البحر اصطبارًا، وقد حجت قبل هذه المرة. وكذلك كنت أنا آنس به، فقد كنا أكثر الرفاق تلازمًا قلما نفترق إلا في وقت النوم، وكان أكثر حديثنا وسمرنا أول الصحبة في الشِّعر والأدب وأقلها في المسائل الدينية والعلمية والشئون الاجتماعية، إلا إذا حضر المجلس الأستاذ الجمل، فإن الحديث يكون بعكس ذلك كما كان في أواخر العهد بالصحبة. وقد وزعت بعض نسخ المناسك على حجاج الباخرة قبل أن أقرأها وأصحح أغلاطها وبعضها بعد ذلك، ولما علم الناس أنها بغير ثمن كثر الطلب لها حتى من الأميين فصرت أشترط على من يأخذها من القارئين، أن يقرأها لمن يجاوره من الرفاق الأميين، وكان انتشارها في المركب سببًا لكثرة اختلاف الحجاج إلينا للسؤال عن أحكام النسك ولا سيما واجبات الإحرام. كان سفرنا من مصر في أول الميزان وقد بدأ هواء الخريف المعتدل بطرد هواء الصيف الحار ويجليه عن أفق مصر، وكأن ما كان يرحل منه عن مصر يذهب إلى الحجاز ليحل محل هواء صيفه الذي هو أشد منه حرارة، لذلك كنا كلما أوغلنا في الجنوب نشعر بأن جونا يرجع بنا القهقرى إلى الصيف، فكان عامة من في السفينة لا يكادون يبرحون ظهرها إلا إلى حاجة غير النوم؛ إذ كان جميع ركاب الدرجة الثالثة ينامون على الظهر، وكذلك بعض ركاب الدرجة الثانية، وكان جل ركاب الدرجة الثالثة ينامون على الظهر وكذلك بعض ركاب الدرجة الثانية، وكان جُلّ ركاب الدرجة الثالثة من أدنى طبقات المصريين قد دعَّهم إلى الحج دعًّا ما كان من عناية الحكومة ببعث حجاج يحجون وحملها الأغنياء على مساعدة الفقراء على الحج بالمال، فوق ما كان من تسهيل سائر الأسباب، فكان أكثرهم يقطعون أوصال الليل باللهو واللعب والغناء والطرب، ومنه ما يسمونه في اصطلاح أهل الطرق بالذكر، وهو أن يقف جماعة يتثنون ويرقصون ويصيحون بأصوات منكرة: أُه أُه أو هو هو، أو حيّ حيّ على صوت مغنٍّ يغنيهم ببعض الأغاني الحديثة أو الأشعار القديمة، فيكونون بذلك من الذين اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا وأقبح اللهو وأنكره وأقربه من غضب الله وأبعده عن مرضاته ما جعل دينًا، فهؤلاء الذين يسمون أنفسهم ذاكرين الله يظنون أنهم خير من الذين يتغنون ببعض الأغاني لأجل التسلي عن فراق الأهل والولد مثلاً، وما ذلك اللهو الذي سموه ذكرًا إلا معصية، وما هذا اللهو الذي ظنوه حرامًا أو مكروهًا إلا مباح، ولَهُمْ في ذكرهم هذا شرّ مكانًا ممن قال فيهم بعض العلماء: أقال الله حين عبدتموه ... كلوا أكل البهائم وارقصوا لي ولذكرهم هذا دون الذِّكر مع الغفلة أو الغيبة الذي قال فيه الشيخ محيي الدين ابن عربي: بذكر الله تزداد الذنوب ... وتنطمس البصائر والقلوب ومن مظاهر الدين الباطلة في هؤلاء العوام ما كان يمثله رجل منهم شر تمثيل: كنا نسمع كل ليلة صوتًا منكرًا أجشّ ينادي به صاحبه السيد البدوي بألقابه المشهورة في هذه البلاد، ويكثر من ذلك، ويلح فيه بعد نوم الناس متنقلاً على ظهر السفينة من مكان إلى مكان، وكثيرًا ما كان يقف بالقرب من بعض نوافذ مخدعنا فيزعج السيدتين وينغص عليهما نومهما، ولما تكرر ذلك منه بحثنا عنه، فإذا هو بزي أهل الطريق المتصنعين الذين يراؤون الناس بلحاهم وثيابهم وحركاتهم وأصواتهم، فتلطفنا في وعظه وإقناعه بترك ذلك الصياح، ولكنه أقل منه ولم يتركه ألبتة. هذا وإننا لما حاذينا رابغ آذن ربان السفينة الحجاج ببلوغ ميقات الإحرام فطفقوا يُحرمون، وإننا نرجئ الكلام على الإحرام الآن لنذكره في هذه الرحلة مع غيره من أعمال المناسك متصلاً بعضها ببعض، ونسترسل في وصف السفر فنقول: *** الوصول إلى جدة وصلت المنصورة إلى ثغر جدة ضحوة يوم الأربعاء وهو التاسع والعشرون من ذي القعدة، ولم يلبث ركابها أن ينزلوا منها، وأما باخرتنا النجيلة فوصلت عشاء ليلة الخميس فلم تستطع التقدم إلى موقف البواخر من الميناء لكثرة الصخور الخفية هنالك فأرسلت في مكان بعيد عنهن، وإنما دخلت الميناء وأرست في مكان بعيد عنه، وإنما دخلت الميناء وأرست فيه ضحوة يوم الخميس، فكان تأخر ركابها عن ركاب أختها ٢٤ ساعة، والسفن ترسى على بُعد شاسع من البَرّ في ذلك الثغر لرقة الماء وكثرة الصخور، فلما رأت الوالدة والشقيقة ذلك عراهما الغم؛ لأن الدوار يشتد عليهما في الزوارق الصغيرة ذات الشّرع أو المجاديف ويؤلمهما طول المسافة فيها، وخافتا أن لا تصلا إلى البر إلا بحالة لا ترضيهما، ولكننا لم نكد نستعد للنزول إلا وكان صديقنا الكريم الشيخ محمد نصيف زكيل سيدنا الشريف الأعظم صاحب الحجاز [١] قد جاء الباخرة في زورق كهربائي أو بخاري (لنش) مع جماعة من سراة جدة وكبرائها لأجل استقبالنا، وقد أخبرونا بعد السلام أنهم قد نزلوا أمس للسؤال عنا في باخرة المنصورة، ثم إننا بعد استراحة الزائرين نزلنا وأنزلنا معنا في الزورق ما خف من متاعنا وصغر حجمه، وأرسلنا ما بقي في مراكب النقل الشراعية. وكان الرفيقان الشيخ خالد ومحمد نجيب أفندي قد نزلا في بعضها، - فسار بنا الزورق كالسهم فوصلنا بغاية الراح، ونزلنا ضيوفًا مكرمين في دار صديقنا الكريم الشيخ محمد نصيف، وهي دار فسيحة واسعة الحجرات كثيرة النوافذ، تفيض عليها الشمس من دور جدة، وكان الهواء معتدلاً في هذا الثغر، لا يُشتكى برد منه ولا حر، وقد بلغني الصديق المضيف، تحية سيدنا الشريف، وصدر أمره العالي إليه بالعناية بنا وكان قد بلغ الديوان الهاشمي العالي موعد وصولنا كما بلغه مندوبه بمصر خبر سفرنا بالبرق ثم بلغ مضيفنا بمكة خبر وصولنا بالمسرة (التليفون) وتكلمت به مع إخواننا محرري جريدة القبلة. وفي صبيحة اليوم التالي ورد على مضيفنا في البريد من المقام لهاشمي الأعلى رقعة شريفة هذا نصها: ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... نومرو ١٩٥ وكيل شرافة مكة المكرمة وإمارتها بجدة معتمدنا الأعز: كتابك رقيم ٢٧ الجاري، وصل وعلم ما له لا سيما من خصوص السيد رشيد رضا فقد أرسلنا وبتاريخه كان قصدنا نشعرك بالاستعداد لمقابلته بما يقتضي له من الحفاوة وللمعلومية تحرر ٢٩ ذي القعدة سنة ١٣٣٤. ... ... ... ... ... ... ... ... ... شريف مكة وأميرها ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الحسين بن علي لم نكد نستقر في الدار إلا وأقبل الزائرون المهنئون يفدون علينا أفرادًا وجماعات وفي مقدمتهم الشيخ مصطفى فهمي معاون نائب الحضرة الهاشمية في جدة جاء بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن سيادة رئيسه الشريف محسن معتذرًا عنه بالاشتغال بشئون المَحمل المصري. وقد تذكرنا فتذاكرنا بعد التحية والسلام، فيما كان من تلاقينا أول مرة منذ بضعة أعوام، ذلك أنني زرت سورية عقب إعلان الدستور العثماني سنة ١٣٢٧ فأقمت فيها أشهرًا ثم عدت إلى مصر على سفينة فرنسية من شركة المساجري، واتفق أن كان في هذه السفينة مصطفى بك فهمي هذا قاصدًا بورسعيد للسفر منها إلى الحجاز فرأى اسمي بين ركاب الدرجة الأولى ولم يرني على مائدتها ولا على ظهرها مع الركاب؛ لأنني أصبت بدوار خفيف لزمت لأجله مخدعي، ولم يكن معي أحد فيه، فسأل عني فدل عليّ فالتقينا وتعارفنا، قال لي: إن سيادة أمير مكة الجديد سيدنا الشريف حسين طلبني لأكون كاتب السر له وكان موظفًا بولاية حلب في عمل لا أذكره الآن وإنني لما علمت بوجودك هنا رغبت في لقائك واغتنام الفرصة في الاستفادة من رأيك فيما ينبغي لبلاد الحجاز من الإصلاح في عهد الدستور فإن أميره الجديد لا بد أن يوجه همته إلى إصلاح عظيم في هذه البلاد المقدسة، وأنت أولى من يستنار برأيه في هذا الأمر. فذكرت له ما خطر في بالي في ذلك الوقت القصير من وسائل حفظ الأمن ونشر العلم وإصلاح حال البدو وسكة الحديد الحجازية، وتواعدنا على المكاتبة في كل ما يتجدد من الشئون بتجدد الأعمال، وقد بدأ بالوفاء بوعده بعد وصوله إلى مكة المكرمة بمدة وجيزة، فكتب إلي كتابًا ذكر فيه أنه عرض ما سمعه مني من الآراء على سيد الجميع فصادف القبول والارتياح، وقد أجبته بما اقتضته الحاجة، وكان من غرائب عهد الدستور أنني أرسلت إليه كتابًا مسجلاً فيه كلام يتعلق بخدمة الدولة وتمكين سيادتها في البلاد العربية فأعيد إلي هذا الكتاب ولم توصله إليه إدارة البريد التركية، ولا يزال عندي وقد وعدته بإطلاعه عليه عندما التقينا في جدة لأنه كان في أوراقي، ولكن لم يتيسر لي إخراجه في ذلك الوقت. أقمنا في جدة من ضحوة يوم الخميس إلى أصيل يوم السبت، ولم أخرج من الدار في هذه المدة إلا إلى صلاة الجمعة في أقرب المساجد إليها، وقد سمعنا خطيب المسجد يدعو للسلطان محمد رشاد في خطبته كالعادة. ولم أرد الزيارة لأحد؛ لأن الزائرين كانوا لا يكادون يفارقوننا إلا وقت النوم؛ وكان جُلّ حديثنا معهم في المسائل الدينية والعلمية، والعبرة الاجتماعية والسياسية، وإنما اختلست منهم ساعات متفرقة كتبت فيها نبذة من التفسير للمنار ومكتوبات أرسلتها إلى مصر. كنت أتمنى لو ملكت وقتًا أرد فيه الزيارة للزائرين الكرام فلما غلبت على الوقت قلت: لعلي أملك بعد العودة من مكة المكرمة ما لا أملكه الآن، ولكن وقت العودة كان أضيق كما يُعلم في محله، ولذلك طلبنا من صديقنا أن يكتب إلينا أسماءهم لنؤدي لهم الشكر بالكتابة جزاءَ ما استحقوه علينا من الزيارة، فكتب إلينا زهاء ثلاثين منهم، وهم الذين تذكرهم، فمن أهل العلم منهم الأساتذة الشيخ محمد حسين إبراهيم والشيخ أحمد الزهرة والشيخ أحمد طه رضوان والشيخ إسحاق بن حسن العباسي والشيخ محمد سعيد دردير خطيب مسجد عكاش. ومن رجال الحكومة عدا من ذكرنا مدير الشرطة مساعد اليافي ومدير الصحة الدكتور أمين معلوف وقائد حامية الثغر عبد الرؤوف عبد الهادي ورئيس كتاب الحجر الصحي رشيد باغفار، ومحمد راغب الصنعاني من الكتاب، وحسين ملوخية مأمور نقل البريد، وكل هؤلاء يطلق عليهم لقب الشيخ للتكريم. قد أعجبني من الدكتور معلوف وعبد الرؤوف ومساعد زيهم العربي فكانوا به أبهج في عيني منهم في زيهم الإفرنجي التركي. ومن كبراء الوجوه والتجار في الثغر الشيخ سليمان قابل رئيس البلدية والمشايخ زينل علي رضا وعبد الله علي رضا ومحمود زاهد ومصطفى درويش عبد ربه ومحمد بن أحمد الهزاز ومحمد باحفظ الله وعبد الله المحمد الفضل ومحمد العبد الرحمن الفضل. ومن أصحاب الحرَف ووكلاء الأعمال المشايخ حمزة جلال نقيب وكلاء المطوقين وحسين بحيري من المطوفين وبكر خميس وسليمان عزابه من وكلاء المطوقين ومحمد سعيد كمال شيخ السماسرة وعبد الرحمن فائق من كتاب شركة البواخر العثمانية. فنشكر لهؤلاء ولسائر من تفضلوا بزيارتنا (كالشيخ عبد الرؤوف الصبان من طلبة دار العلوم المصرية وقد فاتنا ذكره مع علماء جدة) مودتهم وفضلهم، وقد علموا ما حال دون ما كنا نبغي من زيارتهم، وأن التقصير من الزمن لا منا، والعذر عند كرام الناس مقبول. *** عبرة للمعتبرين - وجناية المفسدين على المصلحين أظهر لي صديقي المضيف سروره وارتياحه لرؤيته إياي بثوبي الإحرام (الإزار والرداء) وقد أثار عجبي وحزني أنه ظن أن من المحتمل أن أترخص بترك لباس الإحرام اعتمادًا على الفدية. وقال لي: لو رأيتك لابسًا ثياب الحل لعزمت عليك أن لا تنزل جدة إلا بلباس الإحرام؛ لئلا يظن بعض الناس أنك من قبيل هؤلاء المتهاونين الذين يجيئون هذه البلاد غير محرمين بحج ولا عمرة، وذكر لي شيئًا يسيرًا مما علمته بعد ذلك تفصيلاً من حال بعض الشبان الذين جاؤوا الحجاز، ودخلوا مكة المكرمة نفسها، وكأنهم لا يعرفون شيئًا من مكانتها، ولا حق بيت الله وشعائره فيها، فدخلوها غير محرمين، ومروا ببيت الله تعالى غير طائفين ولا مصلين، وترددوا بين الصفا والمروة غير ساعين ولا مُرملين، فكانوا مضغة في أفواه الحجازيين، ومثالاً مشوهًا لشبان المدنية العصريين، وحجة قاطعة لألسنة الذين يلغطون منهم بتكفير الاتحاديين؛ لأنهم يساوونهم في ضلالتهم، وهدمهم لشعائر ملتهم، ولكنهم يقصرون عنهم في الغيرة والإخلاص لأمتهم، والتفاني بخدمة دولتهم، وبذل النفس والنفيس في إحياء جنسيتهم. لقد أحزنني وأمضني وساءني وآسفني ما قاله هذا الصديق الذي أعتقد أنه ما أحبني في الله تعالى إلا لأجل اعتصامي بديني وغيرتي عليه، ودعوتي إلى إحياء كتابه وسنته، وقلت في نفسي: يا سبحان الله! إذا كان مثل هذا المحب الحسن الاعتقاد قد بلغ سوء تأثير بعض أولئك الشبان في نفسه أن تصور ذهنه في مثلي جواز دخول جدة بغير ثياب الإحرام، ولو على سبيل الرخصة، وللقيام بما يجب بدل ذلك من الفدية، فكيف يكون رأيه واعتقاده فيمن لا يعرف لأحد منهم حظًّا من علم أو عمل، ولا يحفظ لأحد منهم في قلبه بعض ما يحفظ لي من الظن الحسن؟ وقلت له محاولاً كتمان أسفي ومكابرة امتعاضي: لو كان هذا اللباس (لباس الإحرام) مستحبًّا لا واجبًا لما تركته تهاونًا ولا إيثارًا لما في اللباس المعتاد من الحشمة أو الزينة أوالرفاهية، وأنا أرجو أن أكون من أعلم الناس بفوائده وأحرصهم على إدراكها بالعمل، ولو تركته لما استطعت أنت ولا أحد من الناس أن يقنعني بإتيانه، لأنني لا أتركه- لو تركته- إلا لعذر شرعي ملجئ، كأن أعتقد أنه يضر بصحتي ضررًا يجعل الواجب محظورًا، وأكون بلبسه عاصيًا لله تعالى لا طائعًا، وأما نظر الناس فلا أبالي به في أمر الدين، وأعوذ بالله ان أكون من المرائين، بل تعودت- ولله الفضل والمنة- أن لا أتصنع للناس ولا أدهن لهم ولا أتحرى مدحهم ولا أخاف انتقادهم في المصالح الدنيوية والأمور العادية بحيث يحملني ذلك على ترك شيء أراه حقًّا أو مصلحة أو فعل شيء أراه باطلاً أو مفسدة. وأقول مستطردًا: إنه قد عاداني كثير من الناس في هذا الخلق وآذوني لأجله ولم أوذ أحد منهم، وأرى أنني غير مغبون معهم، وأن هذا الخلق خير لي من مودتهم، ولا سيما من أعرف منهم سوء النية، وفساد الطوية، ولكن يسوءني أنه لا بد أن يوجد في أمثال هؤلاء من هو حسن النية يخدع بالشبهة أو يقلد غيره فيما لا علم له به، وأنه يعسر العثور على هؤلاء والتناصف معهم باقتناعٍ، كَلامُنَا بحسن نية الآخر وإخلاصه، ورجوع المخطئ إلى رأي المصيب إن ظهر صوابه، وعذره إياه فيما لم يظهر له. ولم أذكر هذا التفصيل كله للصديق، وإنما خطر في بالي عند الكتابة أن بيانه مفيد؛ لأن مثله يقع لكل صادق مستمسك بعروة الحق لا يحابي ولا يداهن الناس فيه. ومن دقائق هذا البحث أن الإنسان كثيرًا ما تغشه نفسه وتخدعه بتسمية العجب والكبر والإصرار على الهوى اعتصامًا بالحق وصلابة فيه، وقلة اكتراث بالمبطلين فينبغي للمخلص في اعتقاد نفسه أن يمتحن نفسه ويناقشها الحساب فيما بعد يعاب به وينتقد منه، وهذا أمر عسير غير يسير؛ إذ يقل في الناس من يبلغ من يحب ما ينتقده هو أو غيره ويطلعه على عيوب نفسه، كما يقل فيهم مَن يسلم مِن غِيبة صديقه، وأكثر ما يبلغ الناس من الاعتقاد عليهم أو انتقاصهم، ما ينقل إليهم عن خصومهم وأعدائهم، وقل من ينظر في مثل هذا نظر الروية والإنصاف فيستفيد منه، وإنما يستحوذ على الأكثرين عند سماعه ثوران الغضب وخواطر الدفاع أو الانتقام، وأحمد الله تعالى أن وفقني في ريعان الشباب وأوائل العهد بالرشد إلى حمل أصدقائي على إرشادي إلى عيوبي ومكاشفتي بما يرونه أو يسمعونه من الانتقاد عليّ، ولا أزال أسأل عن ذلك من أتوسم فيه النصح، وإن كان أصغر مني سنًّا وأقل تجربة ومعرفة، وإني لأحوج إلى نصيحة واحدة أستعين بها على إصلاح نفسي، من سبعين مسألة أستعين بها على إصلاح غيري. وقد توجد هذه النصيحة عند عاميّ يزيد ما عندي من العلم والاختبار على ما عنده منهما سبعين ضعفًا، فيكون أعلم مني بما أنا أحوج إليه مما أفضله به. وأما ما أكتبه فإنني أطالب الناس بالانتقاد على ما يرونه منه خطأ أو باطلاً، أطالبهم بلك كتابة بما أنشره في المنار كل عام، وكل ما يكتب إليّ من ذلك أنشره في المنار على حسب الوعد الذي أعد به عند طلب الانتقاد، فإن تعمدت إغفال شيء -وذلك نادر جدًّا- فإنما أغفله لتكريم غيري، لا لإخفاء عيبي، ولا أذكر من ذلك الآن إلا رسالة أرسلها إليّ صديق مخلص من أشهر علماء الأقطار هفا فيها هفوات تُزري بقدره، لو نشرت ونقدت وإن تلطف الناقد جهد الطاقة، وبالغ في الأدب حتى بلغ حد الاستطاعة، فرأيت من الوفاء له أن أراجعه فيها، وأستأذنه بنشرها بعد التنبيه لما فيها، فلم يأذن. من أجل هذا أعتقد كما يعتقد جمهور قراء المنار أن آية الإخلاص في انتقاد ما ينشر فيه أن يكتب ويرسل إليه، لا أن يقال أو ينشر في غيره من الصحف، فإن نشر النقد في المنار نفسه هو الوسيلة لتمحيص الحقيقة عند من اطلعوا على الكلام المنتقد فيه، وإنما فائدة الانتقاد عند المخلص فيه بيان الحق والصواب لمن ينتقد عليه باطله أو خطأه، ولمن اطلع على ذلك وخشي أن قد يكون قد ضل به وهم قراء كلامه، وأما انتقاد ذلك في بعض البيوت أو الأندية أو الصحف التي لا يطلع أكثر قرائها على ما يدعي المنتقد أنه باطل وضلال فهو إذاعية للباطل ضارة لا يحمل عليها إلا هوى النفس، وذلك من شأن المرائين المفسدين، لا من شأن الصادقين المصلحين. وقد ذكرني ما قاله الشيخ محمد نصيف في مسألة الإحرام والسبب الحامل له على هذا القول ما أنبأني به أخي في الله عز وجل العلامة الشيخ محمد مكي بن عزوز التونسي في الآستانة سنة ١٣٢٨ قال رحمه الله تعالى ما حاصله: كتب إلي أحد إخواني من علماء تونس بعد العلم بتلاقينا هنا: إننا نعرف قيمة السيد محمد رشيد رضا العلمية ومقاصده الإصلاحية من مناره. ولكننا نرى بعض الذين يلهجون بطلب الإصلاح حتى الديني منه لا تنطبق أعمالهم على أقوالهم، فهم لا يؤدون فرائض الدين ولا يقيمون أركانه فضلاً عما دونها من آدابه وأحكامه، فكيف رأيت صاحب المنار، بعد المعاشرة والاختبار؟ قال: فكتبت إليه بعض ما رأيت، ومنه أن زيارته الأولى لي في داري كانت بعد العصر فصلى صلاة العصر عندي، وكنت قد صليتها قبل قدومه منفردًا فأعدتها مقتديًا به، فلم أرَ صلاة أكمل انطباقًا على السنة من صلاته. وزرته مرة مع بعض الإخوان فقدَّم لنا الشاي، ولم يشرب معنا؛ لأنه كان صائمًا. إلخ. أليس من آية ضعف الدين، وابتلاء الصادقين بالمنافقين، وغُمة الأمر على المؤمنين، ما دار من المكاتبة بين العالمين التونسيين في الصلاة والصيام، ومن الحديث بيني وبين محمد نصيف في مسألة لباس الإحرام؟ بلى وإنني تذكرت في هذه اللحظة مسألة أخرى من هذا القبيل أذكرها إتمامًا للعبرة: دخلت مرة على الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد في نهار رمضان فرأيت عنده إبراهيم بك المويلحي جالسًا يدخن بلفيفة من التبغ (سيكارة) فذكر المنار ومنْع الحكومة الحميدية إياه من دخول البلاد العثمانية فجعل المويلحي يرميها بالجهل، ويقسم أن المنار خير لها من فيلق من المعسكر لما فيه من خدمة الدين الذي لا تنهض الأمة بدونه، وأطنب في مدح الدين وتأثيره في الإصلاح وعدم الرجاء في نهضة المسلمين بدون ما يدعو إليه المنار من الإصلاح الديني. علم بهذه الواقعة إبراهيم بك الهلباوي فأشار إليها في مقالة أرسلها إلى المؤيد من أوربة يذكر فيها بعض عبر السفر، مستطردًا إلى العبرة بها على سبيل التشبيه والمثل، قال في وصف رجل - على ما أذكر: كذلك الرجل الذي كان يعلم صاحب المنار في مدح الدين ... في شهر رمضان ولفيفة التبغ بيده يدخن بها -أو ما هذا مؤداه- ففهم بعض الناس من عبارته أن الذي كان يدخن هو صاحب المنار المخاطب لا المتكلم الذي يخاطبه، وإن كان المتبادر من العبارة العكس وهو الذي يجري عليه الكتاب عادة في مثل هذه المسألة، أعني أنهم لا يصرحون باسم من ينتقدونه في مقام الاعتبار، فإذا صرح أحدهم باسم المنتقَد عليه أو بوصفه بما يُعرف به لَهوًى له وقصد إلى ذمه، لا تواتيه الجرائد المعتبرة (كالمؤيد) ولا تنشر ذلك له، فلو أن صاحب المؤيد فهم من العبارة ما فهمه بعض الناس أو خطر في باله أنه قد يفهم منها ذلك لتصرف فيها بما يحول دون هذا الفهم. بلغني وبلغ صاحب المؤيد -رحمه الله- ذلك في وقته فلم نحفل به، وقال هو: إن هذا الفهم لا يخطر إلا ببال بعض العوام، وهو لا يؤثر أدنى تأثير في سُمعة صاحب المنار حتى عند من لا يعرف مكانته من هداية الدين، وإذا كتب شيء لإيضاح الحقيقة ربما كان سببًا للقيل والقال. ثم علمنا أن هذا الفهم قد سبق إلى أذهان بعض الناس في نائي الأقطار؛ جاءتني يومًا برقية من بمباي الثغر الهندي المشهور من محمد باشا عبد الوهاب شيخ دارين أحد ثغور نجد الجنوبية يقول فيه: إنه مسافر إلى السويس في باخرة كذا يقصد الحج، فلما كان موعد وصول الباخرة رأيت من المروءة أن أذهب إلى السويس للقائه، وإن لم أكن أعرفه أو أعرف عنه شيئًا من قبل، فوافيته فيها وكان معه جمهور من العرب ومسلمي الهند جاء بهم ليحجوا على نفقته. فقدم لنا لفائف التبغ (السكاير) على حسب العادة فاعتذرت، فعرضوا علي النارجيلة (الشيشة) فاعتذرت أيضًا. فسألني الباشا عن السبب فقلت: إنني أكره هذا الدخان، وقد حفظني الله تعالى من اعتياد التدخين في الصغر، فلا أتكلفه بعد العلم بضرره في الكبر، فقال: إذًا أنت لم تدخن في حياتك قط. قلت: الأمر كما ذكرت. فالتفت إلى أصحابه وذكرهم بما دار من الخلاف في عبارة الهلباوي، وكيف ظهر أن الصواب ما قاله من نزه صاحب المنار عن أن يكون هو المفطر في رمضان. على أن المسألة مسألة مجاهرة بالفطر، وهي أفحش من الفطر في السر، لما فيها من سوء القدوة، وانتهاك الحُرمة. بعد هذا الاستطراد الطويل أقول: إن بعض شبابنا الذين أفسدت المدارس التركية أو الإفرنجية عقائدهم، وشوهت حرية الكفر والفسق أخلاقهم وآدابهم، ولم يكن لديهم من التجربة والخبر، ولا من حكم العقل وصحة الفكر، ما يفرقون به بين الحجاز وبين الآستانة ومصر، لم يقفوا عند حد ترك الإحرام، قبل دخول البلد الحرام، وترك الطواف والصلاة والصيام، بل تجرأ أحدهم على التصريح بالاعتراض على القرآن. وتجرأ على الطعن في بعض الخلفاء الراشدين، بل على ما هو أكبر من ذلك من الضلال المبين. من أجل هذا صار بعض الحجازيين يسيء الظن بجميع أفراد هذه النابتة الجديدة، وبعضهم يجعل سيرة هؤلاء الغاوين، حُجة حتى على من ظهرت عدالتهم من الوافدين، أما طبيعة الحرم بل طبيعة جزيرة العرب، فلا تطيق الصبر الطويل على إلحاد الملحدين ولا على توسيد الأعمال إلى الفساق المجاهرين، وأما ما عدا الجزيرة من البلاد العربية فستحذو نابتتها حذو النابتة التركية، وإن فيها من يودُّ تقليد جمعية الاتحاد في السياسة والعصبية والإلحاد، ولكن آمالهم أدنى من آمالهم، ومآلهم شر من مآلهم فإنهم لا يرجون أن يكون لهم دولة كالدولة العثمانية يغلبون على أمرها، ويعتزون بقوة مالها وقوة جندها، وسيظهر حالهم ومقصدهم، وما يكون من تأثيره في بلادهم وأمتهم. ((يتبع بمقال تالٍ))