للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


آفة الشرق
أمراؤه المستبدون
وزعماؤه المترفون ومرشدوه الجاهلون!
(خاتمة المقصد الثالث من الباب الخامس من تاريخ الأستاذ الإمام)

نختم الكلام في خدمة الإمامين الحكيمين للإسلام والشرق فيما فاضت به حكمة
الأول على بلاغة الثاني في جريدة العروة الوثقى بهذه الحقيقة التي وضعنا لها هذا
العنوان، فلقد كان الناس غافلين عنها فبينَّاها لهم أبلغ البيان، وشر مفاسد هؤلاء
الأمراء والزعماء في هذا العصر غرورهم بالأجانب الطامعين في بلادهم، ولو
عقلوها لتمكنت حقيقتها من عقولهم، ولو فقهوها لرسخت عبرتها في قلوبهم ولمَا
تكررت في مشرق العالم الإسلامي ومغربه تلك الرزايا التي انتزعت ممالكهم من
أيديهم، ومن العجائب أنها لا تزال تتجدد، ولا يزال مدَّعو الإيمان يُلدغون من
الجُحر الواحد مرارًا كثيرة. وقد قال رسولهم فيما صح عنه: (لا يلدغ المؤمن من
جُحر واحد مرتين) رواه البخاري ومسلم.
فلا عجب إذًا فيما يصدر عن ملاحدة المسلمين الذين لا حظّ لهم من حكمة
الإسلام وهدايته الصادّتين عن هذا الفساد، ورضاهم بأن يكونوا أعوانًا للأجانب
على استعمار البلاد، وهذا ما لا نزال نشاهده في كل عام {أَو َلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ
فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: ١٢٦) .
طرقت العروة كل باب من أبواب هذا الموضوع ففُتح لها ودخلت منه فلم تدَع
في زواياه خبيئة إلا واستخرجِها. أنشأت له مقالات خاصة، وجعلته مضرب
الأمثال في المقالات العامة. وقد ورد فيما أثبتنا من الشواهد بعض هذه المُثل
والإشارة إلى بعض تلك المقالات، ونأتي في هذه الخاتمة بشواهد ومثل أخرى وهي:
المثال الأول
استيلاء الإنكليز على ممالك
الهند بمساعدة أمرائها
(قال من مقالة افتتح بها العدد الثامن من العروة الوثقى موضوعها: طرد
الإنكليز للجيش المصري وتأليف جيش صغير تولوا قيادته) :
دمر الإنكليز (دخلوا بلا استئذان) على الهنديين في أراضيهم، وانبثوا بينهم،
فتمكنوا من تفريق كلمة الأمراء، وإغراء كل نواب أوراجا بالاستقلال،
والانفصال عن السلطة التيمورية، فتمزقت المملكة إلى ممالك صغيرة، ثم أغروا
كل أمير بآخر يطلب قهره والتغلب على ملكه، فصارت الأراضي الهندية الواسعة
ميادين للقتال، واضطر كل نواب أوراجا إلى النقود والجنود ليدافع بها عن حقه،
أو يتغلب بها على عدوه، فعند ذلك تقدم الإنكليز بسعة الصدر وانبساط النفس ومدوا
أيديهم لمساعدة كل من المتنازعين، وبسطوا لهم إحدى الراحتين ببُدر الذهب،
وقبضوا بالأخرى على سيف الغلب. بدأوا قبل كل عمل بتنفير أولئك الملوك
الصغار من عساكرهم الأهلية، ورموها بالضعف والجبن والخيانة والاختلال، ثم
أخذوا في تعظيم شأن جيوشهم الإنكليزية وقوادها، وما هم عليه من القوة والبسالة
والنظام، حتى اقتنع كل نواب أوراجا بأن لا ناصر له على مغالِبه إلا بالجنود
الإنكليزية.
فأقبل الانكليز على أولئك السذج يضمنون لكلٍّ صيانة ملكه وفوزه بالتغلب
على غيره بجنود منتظمة تحت قيادة قواد من الإنكليز، ويكون بعض الجنود من
الهنديين، وبعضها من البريطانيين، وما على الحاكم إلا أن يؤدي نفقتها.
ثم خلبوا عقول أولئك الأمراء بدهائهم وبهرجة وعودهم ولين مقالهم حتى
أرضوهم بأن يكون على القرب من عاصمة كل حاكم فرقة من العساكر لتدفع شر
بعضهم عن بعض. وصار الإنكليز بذلك أولياء المتباغضين، وسموا كل فرقة من
تلك الجنود باسم يلائم مشرب الحكومة التي أعدوها للحماية عنها، ففرقة سموها
(عمرية) وأخرى سموها (جعفرية) وغيرها سموها (كشتية) إرضاءً لأهل السنة
والشيعة والوثنيين!
ولما فرغت خزائن الحكام وقصرت بهم الثروة عن أداء النفقات العسكرية فتح
الإنكليز خزائنهم وتساهلوا مع أولئك الحكام في القرض، وأظهروا غاية السماحة،
فبعضهم يقرضون بفائدة قليلة، وبعضهم بدون فائدة، وينتظرون به الميسرة، حتى
ظن كل أمير أن الله قد أمده بأعوان من السماء. وبعد مضي زمان كانوا يُومِئون
إلى طلب ديونهم بغاية الرفق، ويشيرون إلى المطالبة بنفقات العساكر مع نهاية
اللطف، فإذا عجز الأمير عن الأداء قالوا: إنا نعلم أن وفاء الديون والقيام بنفقات
الجنود يصعب عليكم، ونحن ننصحكم أن تفوضوا إلينا العمل في قطعة كذا من
الأرض نستغلها ونستوفي من ديوننا، وننفق من غلاتها على الجيوش التي أقمناها
لكم، ثم الأرض أرضكم، نردها إليكم عند الاستيفاء والاستغناء، وإنما نحن
خادمون لكم. فيضعون أيديهم على غضروات الأراضي وفيحائها، وفي أثناء
استغلالها يؤسسون بها قلاعًا حصينة، وحصونًا منيعة، كما يفعلون ذلك في ثكن
(أي أماكن إقامة العساكر) عساكرهم على أبواب العواصم الهندية [١] .
وفي خلال هذا يفتحون للأمراء أبوابًا من الإسراف والتبذير، ويقرضونهم
ويقتضون قرضهم بالقيام على أراضٍ أخرى يضمونها إلى الأولى، ثم يحضون نار
العداوة بين الحكام لتنشب بينهم حروب فيتدخلون في أمر الصلح، فيجبرون أحد
المتحاربين على التنازل للآخر عن جزء من أملاكه ليتنازل لهم الثاني عن قطعة
من أراضيه، وهم في جميع أعمالهم موسومون بالخادم الصادق والناصح الأمين،
لكل من المتغالبين!
وبعد هذا فلهم شؤون لا يهملونها في إيقاع الشقاق بين سائر الأهالي لتضعف
قوة الوحدة الداخلية ويخرب بعضهم بيوت بعض، حتى إذا بلغ السير نهايته
واضمحلت جميع القوى من الحاكم والمحكوم، وغُلَّت الأيدي فلا يستطيع أحد حراكًا
ساقوا الحاكم إلى المجزرة بسيوف تلك العساكر التي كانت حامية واقية لبلاده،
وكانت تُشحذ لجزِّ عنقه من سنين طويلة وينفق على صقالها من ماله، ثم خلفوه
على ملكه.
وكانوا يميلون بقوتهم إلى أحد أعضاء العائلة المالكة ليطلب المُلك، فيخلعون
المالك ويولون الطالب، على شريطة أن يقطعهم أرضًا أو يمنحهم امتيازًا،
فيحولون المُلك من الأب للابن ومن الأخ لأخيه، ومن العم لابن أخيه، وفي الكل
هم الرابحون!
هذا سيرهم في الهند وهو على بعد من مراقبة أوربا. ما فاجأوا أحدًا بحرب
وما اختطفوا ملكًا بقوة مغالبة، بل ما أعلوا سيادتهم على مملكة صغيرة ولا كبيرة
إلا بعدما أيقنوا أن لا قوة لحاكمها ولا أهليها، ولا بما تطرف به أجفانهم.
أولئك الإنكليز باقعة العالم وأحبال الحيل، يريدون اليوم طرد العساكر
المصرية، وأرض مصر لا تحرسها الملائكة، فلا تستغني عن حامية، فإن تم لهم
ما أرادوا زينوا لبعض ذوي السلطة في مصر أن يطلب منهم جندًا إنكليزيًّا يكون
خادمًا له وحافظًا لملكه، فإن لم يقبل داروا بحيلتهم تحت أستار التمويه على كل مَن
له حق في الولاية على تلك البلاد يعرضونها عليه، حتى يعثروا بمن يقبل نصحهم
أو غشهم ذهولاً عن حقيقة القصد، فيقيمونه حاكمًا خلفًا لمن لم تسمح ذمته بالقبول،
وتكون رغبة المغرور حجة لهم عند أوربا.
هذا سر انقلاب الإنكليز على الجند الوطني وقدحهم في سيرته بعد الثناء
على حسن استعداده، وسعيهم إلى طرده بالأدلة الواهية، والعلل الواهنة.
***
المثال الثاني
استعباد الأجانب للأمم بقوة رؤسائها [*]
إن في ذلك لعبرةً لأُولي الأبصار
كيف يمكن لقوة أجنبية تصول على أمة من الأمم أن تسود عليها، وتستعبدها
وتذللها للعمل في منافعها، مع التخالف في الطباع والعوائد والأفكار ووجود المقاومة
الطبيعية، فضلاً عن الإرادية؟
إن الوحشة المتمكنة في نفس كل واحد من الأمة، وظن كل فرد أنه في خطر
على روحه وماله إذا غلبه الغالبون - تحمله على المدافعة عن أمته، كما يدافع
عن بيته وحريمه، فلا يتسنى للقوة المغيرة أن تذل الأمة إلا بإفنائها عن آخرها،
أو إفناء الأغلب حتى لا يبقى إلا العجزة والزمنَى، هذا أمر طبيعي وحكم بديهي
متى كانت الغارة على الأمة.
نعم، يسهل للقوة الأجنبية أن تتغلب على أمة عظيمة بدون تناحر إن كان لهذه
الأمة حاكم أو رئيس روحاني تجتمع عليه قلوبها، وتدين له رقابها لمنزلة له في
أفئدة أبنائها، ولمكان آبائه من الكرامة في نفوسهم، فلا تحتاج القوة الغالبة إلا إلى
إيقاع الرعب في قلبه، فيجبن ويقبل ما تحكم به، أو نصب حبالة الحيل له فتخدعه
بالأماني والآمال فيذعن لما تقضي به، فإذا خضع للقوة الغريبة خضعت الأمة تبعًا
له؛ ولهذا ترى طلاب الفتح وبغاة الغلب ينصبُّون قبل سوق الجيوش وقود الجنود
على قلوب الأمراء وأرباب السيادة في الأمة التي يريدون التغلب عليها، فيخلعونها
بالتهديد والتخويف، أو يملكونها بالخدعة وتزيين الأماني فينالون بُغيتهم ويأخذون
أراضي الأمم.
وهذا الطريق هو الذي سلكه الإنكليز مع السلطان التيموري في الهند، ولولا
ما كان للهنديين من عقدة الارتباط بسلطانهم التيموري وقبض الإنكليز أول الأمر
على تلك العقدة لما تيسر للبريطانيين أن يُخضعوا الأمم الهندية في أحقاب طويلة.
هذه قبائل الأفغان عندما انحلَّت ثقتها بأميرها وصار الأمر إلى الأمة - قامت
كل عشيرة - بل كل فرد - للدفاع عن نفسه بعدما تمكنت عساكر الإنكليز في قلاعهم
وحصونهم، واستولت على قاعدة ملكهم، وفتكوا بالعساكر الإنكليزية وهزموا قوتها
وأجلوها عن بلادهم، وهي ستون ألفًا من الجيوش المنتظمة مسلحة بالأسلحة
الجديدة، واضطر الإنكليز أن يتركوا تلك البلاد لأهلها.
لا ريب أنه يسهل على الإنسان أن يأخذ شخصًا واحدًا أو أشخاصًا محصورين
بالترغيب والتهديد، ويتيسر له أن يقف على طباعهم، ويدخل عليهم من مواقع
أهوائهم، ويأتيهم من أبوب رغائبهم، لكن يتعسر - بل يتعذر - عليه أن يأخذ
أمة بتمامها، وعقولها مختلفة عليه، ونفوسها في وحشة منه، اللهم إلا بالإبادة
والتدمير.
من هذا تجد الملوك العظام لا يرهبون الاشتباك في حرب مع أقتالهم [٢] بل
ومَن هو أشد منهم قوة، ولكنهم يَفْرَقون [٣] بل تذهب أفئدتهم هواءً إذا أحسوا بميل
الأمة عنهم، وما هذا إلا لأن قوة المغالبين داخلة تحت الضبط، وأما آحاد الأمم
وقواها فلا تضبط ولا تستطاع مقاومتها، إذا تعاصت وشحت بنفسها عن الذل
لسواها.
إن الأمراء كما يكونون في دور من أدوار الأمة قوى فعالة لنموها وعلوها
وعظمها واشتداد عضدها، كذلك يكونون في بعض أطوارها علة فاعلة في سقوطها
وهبوطها وانحلالها، وإنا نخاف - ولا حول ولا قوة إلا بالله - أن يكون أمراؤنا
والأعلَوْن منا آلة في اضمحلالنا وفنائنا، لما غلب عليهم من الترف والانهماك في
اللذائذ والانكباب على الشهوات، مع سقوط الهمة وتغلُّب الجبن والحرص والطمع
على طباعهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون. اهـ.
***
المثال الثالث
رأي (العروة الوثقى) في معاقبة الأمم للأمراء
والرؤساء الذين يكونون أعوانًا للأجنبي عليها
(قال في آخر مقالة وجيزة موضوعها الأمة وسلطة الحاكم المستبد، وصف
فيها حال الأمة مع الحاكم المستبد المصلح الحكيم، وحالها مع المستبد الجاهل
الأحمق المتبع للهوى، ما نصه:
عند ذلك إن كان في الأمة رمق من الحياة وبقيت فيها بقية منها، وأراد الله
بها خيرًا اجتمع أهل الرأي وأرباب الهمة من أفرادها وتعاونوا على اجتثاث هذه
الشجرة الخبيثة واستئصال جذورها، قبل أن تنشر الرياح بذورها وأجزاءها السامة
القاتلة بين جميع الأمة فتميتها، وينقطع الأمل من العلاج، وبادروا إلى قطع هذا
العضو المجذوم قبل أن يسري فساده إلى جميع البدن فيمزقه، وغرسوا لهم شجرة
طيبة {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} (إبراهيم: ٢٤) وجددوا لهم بنيةً
صحيحة سالمة من الآفات؛ استبدلوا الخبيث بالطيب.
وإن انحطَّت الأمة عن هذه الدرجة وتركت شؤونها بيد الحاكم الأبله الغاشم
يصرفها كيف يشاء، فأنذرها بمضض العبودية، وعناء الذلة ووصمة العار بين
الأمم، جزاء على ما فرطوا في أمورهم. {وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت:
٤٦) . اهـ.
(المؤلف)
خلاصة هذا الإرشاد أن الأمم لا تُرجَى لها سيادة ولا سعادة ولا حرية ولا
استقلال إلا إذا عرفت نفسها، وجمعت كلمتها، وكان أمرها بيدها، ومَن خانها أو
أساء إليها عاقبته، ويجب عليها ألا تولي شيئًا من أعمالها لأحد من المفتونين بحب
الرياسة على قاعدة الإسلام: طالب الولاية لا يولَّى [٤] ، وقال الخليفة الأول -
رضي الله عنه - في أول خطبة خطبها بعد مبايعته: (وُليت عليكم ولست بخيركم
فإذا استقمت فأعينوني، وإذا زغت فقوموني) .
كانت هذه الحقائق مجهولة عند قراء العربية قبل بيان العروة الوثقى لها
بأفصح العبارات وأقواها تأثيرًا، ثم رأوا مصداقها في مصر وتونس، ثم في
المغرب الأقصى، ثم في البلاد العربية الآسيوية، فآفة الشعوب الجاهلة المتفرقة
أمراؤها ورؤساؤها وزعماؤها، ويليهم مَن دونهم من المتفرنجين الذين يتخذ منهم
الأجنبي السالب لاستقلالها صغار العمال لكل ما يحتاج إليه من عمل في إدارة
حكومتها، مما لا يليق بالأجنبي أو لا يوجد في أفراده من يكفي للقيام به، ومن
قواعد سياسة الأجانب أنهم لا يستخدمون في حكومة البلاد التي ترزأ بسيطرتهم
عليها إلا من يعلمون بالاختبار الدقيق أنه مخلص لهم ولو في خيانة بلاده! وقد
سبق في العروة الوثقى أن الإنكليز لو وجدوا في بلاد الأفغان عندما دخلوها
محاربين واحتلوا عاصمتها (كابُل) أمثال هؤلاء الرجال الذين يعرفون لغتهم، وقد
فتنوا ببهرج مدنيتهم - لما خرجوا أو يخرجوا من الهند، ولكنهم وجدوهم وغيرهم
في بلاد أخرى من أبناء البلاد ولا يزالون يجدون مَن لولاهم لم يستقر لهم قدم، ولم
يرفع لهم علم، وأين مَن يعقل ويفهم؟ !