للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد المهدي


ترجمة الخنساء [*]

هي السيدة تماضر، الصحابية الشهيرة الجليلة، بنت عمرو بن الحارث بن
الشريد من سراة سُليم، كانت رضي الله عنها من شواعر العرب المشهود لهن
بالتقدم، وإنما لقبت الخنساء تشبيهًا لها بالظبية؛ لأن الخنس من صفات الظباء،
وهو تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع في الأرنبة، ويقال لها خناس على سبيل
التمليح، وقد كانت من أجمل نساء العرب وأفصحهن، نشأت عزيزة حرة، لا
تفتات عشيرتها عليها بأمر.
مر بها دريد بن الصِّمَّة فارس هوازن وسيد بني جُشَم وهي تهنأ بعيرًا لها ,
فانخلع لبّه على كبر سنه وانصرف إلى رحله وهو يقول:
حيوا تُمَاضرَ واربعوا صحبي ... وقفوا فإن وقوفكم حسبي
أخناس قد هام الفؤاد بكم ... وأصابه تبل من الحب
ما إن رأيت ولا سمعت به ... كاليوم طالي أينق جرب
متبذلاً تبدو محاسنه ... يضع الهناء مواضع النقب [١]
متحسرًا نضخ الهناء به ... نضخ العبير بريطة العصب [٢]
فسليهم عني خناس إذا ... غض الجميع هناك ما خطبي
ثم غدا إلى أبيها فخطبها إليه، فردته أحسنَ ردٍّ، ثم طلب إلى أخيها معاوية أن
يشفع له عندها، فأبت بعد امتحانه، وقالت: أأترك أولاد عمي كعوالي الرماح
وأتزوج شيخًا من بني جشم هامة [٣] اليوم أو الغد!! فألحّ عليها، فقالت القصيدة
التي مطلعها:
أتكرهني هبلت على دريد ... وقد أصفحت سيد آل بدر
معاذ الله يرضعني حبركي ... قصير الشبر من جشم بن بكر [٤]
فهجاها دريد , فقيل لها: ألا تجيبينه؟ فقالت: والله , لا أجمع عليه أن أرده
وأهجوه، ومن هنا تعلم مقدار أدبها وحريتها وعزتها عند قومها.
وقد كانت في أوائل أمرها تقول البيتين والثلاثة، فلما قتل شقيقها معاوية يوم
حورة الأول سنة ٦١٢ م , وقتل أخوها لأبيها صخر يوم كلاب سنة ٦١٥ م في
خبرين طويلين، أكثرت من الشعر وأجادت , وأُنسِيَتْ بهما من كان قبلهما وأكثرت
المراثي، وأجود مراثيها ما خلط فيه مدح بتفجيع، فإنه يكاد يكون الغاية من كلام
المخلوقين، كقولها في معاوية:
سأحمل نفسي على حالة ... فإما عليها وإما لها
تهين النفوس وهَوْن النفو ... س يوم الكريهة أبقى لها
فإن تك مرة أودت به ... فقد كان يكثر تقتالها
فيومًا تراه على هيكل ... أخا الحرب يلبس سربالها
ويومًا تراه على لذة ... وعيش رضي فقد نالها
فخرّ الشوامخ من فقده ... وزلزلت الأرض زلزالها
وكقولها في صخر:
ألا يا صخر إن أبكيت عيني ... فقد أضحكتني زمنًا طويلا
دَفَعْتُ بك الخطوب وأنت حي ... فمن ذا يدفع الخطب الجليلا
إذا قبح البكاء على قتيل ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا
وقولها فيه:
أعينَيَّ جُودَا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر ندى
ألا تبكيان الجريء الجميل ... ألا تبكيان الفتى السيدا
طويل النجاد رفيع العما ... د ساد عشيرته أمردا
إذا القوم مدوا بأيديهم ... إلى المجد مد إليهم يدا
فنال الذي فوق أيديهم ... من المجد ثم مضى مُصْعِدا
يُحَمِّله القومُ ما عالهم ... وإن كان أصغرَهم مولدا
وإن ذكر المجد ألفيته ... تأزر بالمجد ثم ارتدى
وقولها:
يا أم عمرو ألا تبكين معولة ... على أخيك وقد أعلى به الناعي
فابكي ولا تسأمي نوحا [٥] مسلبة ... على أخيك رفيع الهم والباع
فقد فجعت بميمون نقيبته ... جم المخارج ضرّار ونفّاع
فمن لنا إن رُزِئْناه وفارقنا ... بسيد من وراء القوم دفاع
قد كان سيدنا الداعي عشيرته ... لا تبعدن فنعم السيد الداعي
وزائيتها المشهورة التي تقول فيها:
كأن لم يكونوا حمى يتقى ... إذ الناس إذ ذاك من عزيزا
هم منعوا جارهم والنسا ... ء يحفز أحشاءها الموت حفزا
ببيض الصفاح وسمر الرماح ... فالبيض ضربًا وبالسمر وخزا
وخيل تكدس بالدارعين ... وتحت العجاجة يجمزن جمزا
جززنا نواصي فرسانها ... وكانوا يظنون أن لن تجزا
فمن ظن ممن يلاقي الحروب ... بأن لن يصاب فقد ظن عجزا
نعف ونعرف حق القرى ... ونتخذ الحمد مجدًا وكنزا
ونلبس في الحرب نسج الحديد ... ونلبس في الأمن خزًّا وقزا
ورائيتها السائرة مسير الأمثال:
أغر أبلج تأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
جلد جميل المحيا كامل ورع ... وللحروب غداة الروع مسعار
حمال ألوية هباط أودية ... شهاد أندية للجيش جرار
لا يمنع القوم إن سألوه خلعته ... ولا يجاوزه بالليل مرار
وقد فاخرتها سلمى الكنانية، وكذلك هند بنت عُتْبَة في عكاظ ففخرتهما في
حديث مشهور.
* * *
رتبة الخنساء بين الشعراء
أجمع علماء الشعر على أنه لم تكن امرأة قط قبل الخنساء ولا بعدها أشعر
منها، ولقد كان النابغة الذبياني تضرب له قبة حمراء، فيجلس لشعراء العرب بعكاظ
على كرسي فينشدونه، فيفضل من يرى تفضيله، فأنشدته الخنساء فأُعْجِبَ بشعرها،
وقال: لولا أن أبا بصير أنشدني آنفًا لفضلتك على شعراء الموسم. فاغتاظ حسان
بن ثابت - رضي الله عنه - من تفضيل الأعشى على شعراء الموسم، وقال
للنابغة: أنا أشعر منك ومن أبيك، فقال له النابغة يا ابن أخي، أنت لا تحسن أن
تقول:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
ثم قال للخنساء، أنشديه، فأنشدته، فقال: ما رأيت امرأة أشعر منك، قالت:
ولا فحلاً، فقال حسان: أنا والله أشعر منك ومن أبيك حيث أقول:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
وَلَدْنَا بني العنقاء وابني محرق ... فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابنما
فقالت الخنساء: ضعفت افتخارك وأنزرته في ثمانية مواضع، قال: وكيف؟!
قالت: قلتَ: لنا الجفنات، والجفنات ما دون العشْر، فقللت العدد، ولو قلت:
الجفان، لكان أكثر، وقلت: الغر، والغرة البياض في الجبهة، ولو قلت: البيض
لكان أكثر، وقلت: يلمعن، واللمع شيء يأتي بعد الشيء، ولو قلت: يُشْرِقن لكان
أكثر؛ لأن الإشراق أكثر من اللمعان، وقلت: بالضحى، ولو قلت: بالدُّجَى لكان
أكثر في المديح؛ لأن الضيف بالليل أكثر طروقًا، وقلت: أسيافنا، والأسياف دون
العَشرة، ولو قلت: سيوفنا لكان أكثر، وقلت: يقطرن، فدللت على قلة القتل،
ولو قلت: يَسِلن لكان أكثر؛ لانصباب الدم، وقلت: دمًا، والدماء أكثر من الدم،
وفخرت بمن وَلَدْت ولم تَفْخر بمن وَلَدَكَ!! فسكت حسان ولم يحر جوابًا، وقام
منكسرًا منقطعًا، وقد سئل جرير، من أشعر الناس؟ فقال: أنا لولا الخنساء، قيل
بم فضلتك؟ قال بقولها:
إن الزمان وما يفنى له عجب ... أبقى لنا ذَنبًا واستؤصل الراس
إن الجديدين في طول اختلافهما ... لا يفسدان ولكن يفسد الناس
وكان بشار يقول: لم تقل امرأة شعرًا إلا ظهر الضعف فيه، فقيل له: أو كذلك الخنساء؟ قال: تلك غلبت الفحول.
***
(الخنساء في صدر الإسلام) ...
اتفقت كلمة الرواة على أن السيدة تماضر الخنساء رضي الله عنها كانت
صحابية، قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وقومها بنو سليم وأسلمت
معهم، بيد أنها لم تدع ما كانت عليه في الجاهلية من تسلبها [٦] على أبيها وأخويها،
وقد بلغ مِنْ وُجْدها على صخر أنها عميت من البكاء، فلما كانت خلافة عمر رضي
الله عنه أقبل بها بنو عمها عليه، وقالوا: يا أمير المؤمنين لو نهيتها، فدخل عليها
فوجدها على ما وُصفت من تقريح مآقيها، فقال لها: ما أقرح مآقي عينيك يا خنساء؟
فقالت: بكائي على السادات من مضر، فقال: حتى متى؟ اتق الله إن الذي
تصنعين ليس من صنع الإسلام، وإنه لو خلد أحد لخلد رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وإن الذين تبكين هلكوا في الجاهلية، وهم أعضاء اللهب وحشو جهنم،
فقالت: ذلك أطول بعويلي عليهم، ثم استنشدها فأنشدته ارتجالاً:
سقى جدثًا أكناف غمرة [٧] دونه ... من الغيث ديمات الربيع ووابله
وكنت أعير الدمع قبلك من بكى ... فأنت على من مات بعدك شاغله
فرقَّ لها عمر وقال: خلوا سبيل عجوزكم فكل امرئ يبكي شجوه.
وقد رآها مرة تطوف بالبيت محلوقة تبكي وتلطم خدها، وقد علقت نعل
صخر في خمارها، فوعظها، وقال: إنه لا يحل لك لطم وجهك، ولا كشف رأسك،
فكفت عن ذلك، وقالت:
هريقي من دموعك واستفيقي ... وصبرًا إن أطقت ولن تطيقي
بعاقبة فإن الصبر خير ... من النعلين والرأس الحليق
ولما لامتها السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وقالت لها: إن الإسلام
قد هدم كل الذي تصنعين أنشأت تقول:
ألا يا صخر لا أنساك حتى ... أفارق مهجتي ويُشَق رَمسي
يذكرني طلوع الشمس صخرًا ... وأذكره بكل مغيب شمس
فلولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أسلي النفس عنه بالتأسي
فقد ودعت يوم فراق صخر ... أبي حسان لَذَّاتي وأُنسي
فقالت عائشة: ما دعاك إلى هذا إلا صنائع منه جميلة، فقالت: نعم، إن
لشعاري سببًا، وذلك أن زوجي كان رجلاً متلافًا للأموال، يقامر بالقداح، فأتلف
فيها ماله حتى بقينا على غير شيء، فأراد أن يسافر، فقلت له: أقم وأنا آتي أخي
صخرًا، فأتيته وشكوت إليه حالنا وقلة ذات اليد بنا، فشاطرني ماله، فانطلق
زوجي فقامر به، فقمر حتى لم يبق لنا شيء، فعدت إليه في العام المقبل أشكو إليه
حالنا، فعاد لي بمثل ذلك فأتلفه زوجي، فلما كان في الثالثة خَلَتْ بصخر امرأتُهُ
فعذلته، ثم قالت: إن زوجها مقامر، وهذا ما لا يقوم له شيء، فإن كان لا بُدَّ من
صلتها فأعطها أخس مالك، فإنما هو متلف، والخيار فيه والشرار سيان، فأنشأ
يقول:
والله لا أمنعها خيارها ... وهي حصان قد كفتني عارها
ولو هلكت قددت خمارها ... واتخذت من شعر صدارها [٨]
ثم شطر ماله فأعطاني أفضل شطريه، فلما هلك اتخذت هذا الصدار، والله لا
أخلف ظنه، ولا أكذب قوله ما حييت. وقد مكثت أكثر من أربعين سنة وهي أحزن
نساء العرب على فقيد، غير أن الإسلام اجتث جاهليتها ووجهها إلى رضوان الله
وابتغاء مثوبته، يشهد لذلك ما كان من خطبتها في بنيها الأربعة يوم القادسية سنة
١٦ هـ، وذلك أنه لما ضرب البعث على المسلمين لفتح فارس، سارت مع بنيها
الأربعة وحضرت الوقعة وأوصت أولادها من أول النهار فقالت: يا بني إنكم أسلمتم
طائعين وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم
بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم ولا غيرت
نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين،
واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} (آل عمران: ٢٠٠) الآية، فإذا أصبحتم غدًا إن شاء الله
سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا
رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، واضطرمت لظى سياقها، وجللت نارًا على
أرواقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها، عند احتدام خميسها، تظفروا بالمغنم
والكرامة، في دار الخلود والمقامة. فقاتلوا حتى قتلوا رضي الله عنهم ورحمهم
أجمعين، فبلغها الخبر، فقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن
يجمعني بهم في مستقر رحمته. ولما بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك،
أجرى عليها أرزاق أولادها الأربعة، وكان لكل واحد مائتا درهم، حتى قبض
رضي الله عنه، وكانت وفاة الخنساء زمن معاوية بالبادية سنة ٥٠ هجرية ٦٧٠
ميلادية.