للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تقرير مشيخة علماء الإسكندرية

الإحصاء العام
كتبنا في الجزء التاسع عشر رأينا في مقدمة هذا التقرير ونكتب الآن شيئًا عن
فصوله ومسائله المقصودة منه بنفسها وأولها فصل الإحصاء العام، وفيه أن الإقبال
على طلب العلم في الإسكندرية كان في هذا العام عظيمًا حتى بلغ عدد الطلاب في
هذا العام ٧٢١ طالبًا، وكانوا في نهاية السنة الماضية (وهي الأولى للمشيخة)
٣٤١ فالزيادة ٣٨٠، ولكن لم يثبت من هؤلاء وهؤلاء إلا ٤٤٠ وهو العدد الموجود
والمسجل الآن. وقد قال الأستاذ واضع التقرير (إن جميع مديريات القطر المصري
قد اشتركت في طلب العلم الشريف بهذه المدينة) وجعل ذلك دليلاً على الشعور
العام، والميل الخاص إلى الترقي في طلب العلوم الدينية وأحال في بيان هذا على
الجداول التي وضعها لإحصاء الطلاب فراجعناها فلم نر فيها ذكرًا لمديرية القليوبية،
ولا لمديرية الجيزة ولا لمديرية بني سويف. ورأينا أكثر من جاء الإسكندرية من
مديرية البحيرة وسببه ظاهر وهو قربها منها وبعدها عن مصر ثم من الغربية ولعله
لهذه العلة، وأما الشرقية والفيوم فلكل منهما طالب واحد في الإسكندرية ولمديرية
جرجا اثنان، ولكل من قنا وأسيوط والمنيا ثلاثة، وللمنوفية أربعة، وللدقهلية
خمسة، ولأسوان ستة ولا يعرف السبب في وجود هؤلاء في الإسكندرية.
وما ذكر في التقرير من كون هذا أثر الشعور العام والميل الخاص إلى الرقي
في العلوم الدينية فهو غير ظاهر؛ لأن هذا العدد قليل وأسباب الاختيار مجهولة
ولأن التعليم في الإسكندرية هو دون التعليم في مصر وطنطا من وجهين: أحدهما
أن المدرسين في المصرين أرقى في العلوم الدينية ووسائلها من المدرسين في
الإسكندرية، وثانيهما - أن الدروس نفسها أرقى والعلوم أكثر: في الإسكندرية
يقرءون الجلالين في التفسير، وفي الأزهر يقرءون البيضاوي والكشاف، وتفسير
الجلالين أصغر كتب التفسير وأقلها فائدة، والبيضاوي والكشاف أعلاها، ولا
يخفى أن روح الدين كله في القرآن، فمن لم يرتق فيه فلا رقي له. وليس في
الإسكندرية شيء من علم الأصول، ولا المعاني ولا البيان، وفهم الفقه والتفسير
والحديث لا يتم لمن لا حظ له من هذه العلوم. والعذر في عدم قراءة هذه العلوم أنه
ليس في الإسكندرية من الطلاب إلا خمس فرق ابتدائية أو خمس سنين على
إصلاحهم، وليس من غرضنا هنا الانتقاد على اختيار ما اختارت المشيخة لهذه
السنين من الدروس، وإنما الغرض بيان أن العلوم في مصر وطنطا أرقى منها في
الإسكندرية، فطالب الرقي في هذه العلوم لا يختار الأدنى وهو الإسكندرية على
الأعلى كالأزهر.
فالتنبيه على هذه الدقائق مما لابد منه للباحث في الأمور العامة، وسنن
الاجتماع؛ لأن أكثر الناس قد اعتادوا ترك التدقيق في أمثال هذه الأقوال، وأمثال
هذه الطرق من الاستدلال التي جرى عليها بعض أصحاب الجرائد في هذه البلاد،
واعتاد السكوت عن التمحيص أهل الفهم والتدقيق من الكتاب، حتى صارت دهماء
الأمة تعتقد في الأمور العامة غير الصواب، فالمعقول في مسألة إقبال الناس على
التعلم في الإسكندرية هو ما ذكرنا من أن أهل البحيرة والغربية يرجحونها لقربها وما
جاء من غير هاتين المديريتين لا يعتد به ولا ينهض دليلاً على ما يرمي إليه التقرير
من شعور الأمة بأن العلوم الدينية في الإسكندرية أرقى، فطالب الرقي يفضلها
ويختارها. ويوضح ما يريد صاحب التقرير من تفضيل مشيخته على مشيخة
الأزهر في التعليم ما ذكره في الفصل الآتي قال:
***
طرق التعليم
(كان الأزهريون ولا يزالون يعتمدون في تعليمهم لطلاب العلم الشريف
العناية بتنمية القوة العاقلة، وإعدادها للبحث واستنتاج النتائج من المقدمات، ولذلك
كانت عنايتهم بالجدل وطرق الإقناع أكثر من عنايتهم بالتماس النتائج الحقة (كذا)
من مقدماتها الصحيحة. وقد كنا نرجو الخير لطلاب العلوم من هذه الطريقة لولا أن
بعض المتأخرين استعملوها بإفراط حتى مع صغار الطلبة والمبتدئين في العلوم
فيقضي الطالب الأعوام العديدة من بداية طلبه بين تشكيكات ومناقشات واعتراضات
وأجوبة قلما يحسن معها العلم بمسائل الفنون التي يتلقاها.
ولقد أدركنا الطرف الأخير من ذلك الزمن الذي كانت عناية أكابر العلماء
فيه - الأزهريين وغيرهم - متجهة في بداية الطلب إلى تكليف الطلاب بحفظ متون
العلوم (كذا) وهي مسائلها التي تسرد سردًا، ثم التدريج معهم في إدراك تلك
المسائل تدرجًا يناسب مداركهم، وقواهم العقلية حتى يبلغوا الحد الذي يقتدرون فيه
على الاشتغال بإقامة الأدلة والبراهين على الذين كانوا يعلمون (كذا) ولكن الولع
بالشغب والمحدثات قد كاد يطفئ هذا المصباح الذي استضاء به العالم الإسلامي دهرًا
طويلاً. وهذا التدرج في التعليم كان طريقة للمتقدمين يحسن بالمتأخرين أن يسلكوها
اتباعًا لسلفهم الصالح) .
ثم نقل من مقدمة ابن خلدون نبذة في التعليم ملخصها أن التعليم إنما يكون مفيدًا؛
إذا كان على التدريج مراعي فيه استعداد الطالب بأن يقرأ له الفن ثلاثًا يلقي عليه
في الأولى أصول المسائل، وتشرح بالإجمال ويخرج بالثانية إلى التفصيل
وذكر الخلاف ووجوهه، ويستقصي في الثالثة كل عويص ويوضح كل مقفل، ثم ذكر
ابن خلدون أنه شاهد كثيرًا من المعلمين يجهلون طرق التعليم، فيلقون على المتعلم
في أول تعليمه المسائل المقفلة ويطالبونه بحلها ويخلطون عليه غايات العلوم في
مبادئها، ويكلفونه وعيها وهو لم يستعد لها في كل ذهنه، ويكسل ويهجر العلم ظنًّا
منه أنه صعب في نفسه وإنما هو سوء التعليم. ثم ذكر صاحب التقرير مفسدًا آخر
من مفسدات التعليم في مثل الأزهر فقال:
وإذا أضممنا إلى هذا الذي قاله المحقق ابن خلدون مُفْسِدًا آخر لطرق التعليم
وهو إطلاق السراح للطلاب، وتركهم يحضرون ما يشاءون، ويتركون ما يشاءون
ويتدرجون في تلقي العلوم كما يشتهون بدون مراقبة على المواظبة في الطلب ولا
ملاحظة لاستعداد الطالب فيما يريد تلقيه، كانت المصيبة أعظم والفساد أعم وأشمل
فلم يكن من العجب أن يقضي الطالب العشرات من السنين في دور العلم ومعاهد
التعليم ثم لا يكون حظه من تلك السنين الطوال إلا إضاعة العمر في الاختلاف إلى
الدروس بلا فائدة يستفيدها ولا علم يحصله ولا يقتصر ضرره على نفسه ولكنه
يتعدى إلى العلماء المتصدرين للتدريس فيكون حجة للذين يسبون التدريس في
الأزهر الشريف وملحقاته وبرهانًا تنقطع دونه ألسنة الذين يدافعون عن التعليم في
دور العلم الإسلامية)
ثم ذكر أن مشيخة الإسكندرية تداركت هذا الفساد في طرق التعليم بشيئين:
(١) تكليف بعض العلماء مراقبة الطلبة في شؤونهم الدراسية وتعويدهم على
الأخلاق المُرضية (كذا) . (٢) تقرير الامتحان السنوي على كل طالب حتى لا
ينتقل من علوم سنته إلى أرقى منها إلا إذا أظهر الامتحانُ استعداده لعلوم تلك السنة،
قال: أما العيب الذي أشار إليه ابن خلدون، فقد تلافته المشيخة بشيئين أيضًا:
الأول تنبيه حضرات العلماء والمدرسين إلى ملاحظة قوى الطلبة والاقتصار على
تفهيمهم مسائل الكتب المكلفين بتدريسها (كذا) بدون تعرض لكلام الحواشي
والشروح الطوال خصوصًا مع المبتدئين في الطلب، والثاني عناية المشيخة
بانتخاب الكتب التي تناسب كل سنة من سِنِي الدراسة.
إن الذي يمكن أن يلخص به كلامه في عيوب التعليم في الأزهر وما على
شاكلته من المدارس الدينية على ما فيه من الاضطراب والإيهام هو أن العيوب ثلاثة:
(١) أن بعض المتأخرين قد استعملوا طريقة الأزهر القديمة في التعليم التي كان
يرجى خيرها بإفراط حتى مع الصغار والمبتدئين فصار الطالب يقضي السنين بين
التشكيكات والمناقشات، فقلما يحسن العلم بمسائل الفنون التي يتلقاها.
(٢) الولع بالشغب والمحدثات الذي كاد يطفئ مصباح الإسلام وهو ما كان عليه
أهل الأزهر من الابتداء بحفظ المتون والتدرج في إدراك مسائلها. وقال: إن هذا ما
كان عليه سلف الأمة الصالح واستدل على ذلك بعبارة ابن خلدون.
(٣) إطلاق السراح للطلاب يتدرجون كما يشتهون ويُحضرون من الكتب ما
يختارون بدون مراقبة. وذكر من ضرر هذا العيب أن الطالب يقضي العشرات من
السنين في معاهد العلم بلا فائدة، وأن ذلك برهان للذين يسبون التدريس في الأزهر
وملحقاته لا يرد وحجة لا تدحض. ثم ذكر أن مشيخة الإسكندرية قد تداركت هذه
العيوب - أي فبرئت من استحقاق السب - وبقيت هذه العيوب في الأزهر وسائر
ملحقاته في التعليم.
وإننا نبحث في هذه المسائل شاكرين لله تعالى أن وفق عالمًا من علمائنا
الرسميين للكتابة في طرق التعليم، وعرض آرائه على الباحثين والمنتقدين ولا
غرو أن نثنِّي بالشكر للشيخ شاكر.
أبدأ ببيان ما أشرت إليه من الاضطراب والإبهام، بل والإيهام في العبارة
فأقول: إن عبارة التقرير في هذا الموضوع عبارة من قضت عليه الحال بأن يداري
ويواري فيوهم بعض القارئين بما يبهم على الآخرين، ويرضي المختلفين في الرأي
بالذم في معرض المدح والمدح في معرض الذم، ويأتي بقياس مؤلف من مقدمات
تؤخذ بالتسليم وإن كانت نظريات، وتكون النتيجة أن التعليم في الأزهر له كذا
وكذا من العيوب والمفاسد، وأن التعليم في الإسكندرية له كذا وكذا من المحاسن
والفوائد، ولكن العبارة لم تواته على ما يكيد، (أي يحاول) فلم تأت إلا ببعض ما
يريد، هذا ما تومئ إليه العبارة من غرض الكاتب، وما كان مستوليًا عليه من الفكر
ومتأثرًا به من الشعور عند الكتابة ذكرناها على الطريقة الغربية في النقد وهي عندنا
أفضل ما يعتذر به عن الكاتب عند من يرى الاضطراب في القول فيحمله على
مركب آخر.
ماذا يفهم القارئ من قوله: إن طريقة الأزهريين التي درجوا عليها كانت
تقضي بالعناية بالجدل وطرق الإقناع أكثر من العناية بطلب النتائج الحقيقية من
مقدماتها الصحيحة، وقوله: إنه كان يرجو الخير لطلاب العلوم من هذه الطريقة لولا
أن أفرط فيها بعض المتأخرين فسلك فيها مع الصغار العاجزين عن الاستفادة بها.
هذه الطريقة شر طريقة جرى عليها الناس لا يصل سالكها إلا إلى إفساد العلم والدين
كما بين ذلك حجة الإسلام الغزالي في كتاب العلم من الإحياء.
ماذا يفهم القارئ من قوله بعد ذلك أنه أدرك الطرف الأخير من ذلك الزمن
الذي كانت عناية أكابر العلماء فيه متجهة إلى تكليف الطلاب حفظ المتون والتدرج
معهم في فهمها؟ أهذه هي الطريقة الأولى أم غيرها؟ ظاهر السياق أن هذا إيضاح
لما قبله وهو ما كان عليه المتقدمون لا بعض المتأخرين الذين قال: إنهم أفرطوا في
استعمال تلك الطريقة، ولا ينافي ذلك قطعًا ما ذكره من أنهم ينتهون إلى الاقتدار
على الاشتغال بإقامة الأدلة والبراهين على الذين كانوا يعلمونهم؛ لأنه إنما جعل
غايتهم الاستعداد لإقامة الأدلة والبراهين على معلميهم لا الاقتدار على إقامة البراهين
بالفعل على المطالب الصحيحة فلا يقال: إن قوله هذا مناقض لقوله السابق؛ لأن
العناية بالجدل لأجل الإقناع والإلزام لا تفضي إلى القدرة على تأليف البرهان لإفادة
العلم. وتشبيهه هذه الطريقة بالمصباح، وقوله: إن العالم الإسلامي استضاء بها دهرًا
طويلاً كرجائه الانتفاع بها في النبذة الأولى.
وأما قوله: (ولكن الولع بالشغب والمحدثات قد كاد يطفئ هذا المصباح)
فهو على إبهامه وإيهامه لا يمكن أن يحمل إلا على إفراط أولئك المتأخرين في
استعمال طريقة الأزهر وهم بعضهم؛ لأنه لم يذكر لغيرهم إساءة أخرى في اتباع
الطريقة التي حمدها، وقال: إن الأزهريين كانوا ولا يزالون عليها. ولكن كلمة
الشغب غريبة جدًّا في هذا المقام؛ لأن معناها تهييج الشر، فما هو الشر الذي هيج
على العلماء من الأزهريين وغيرهم حتى كاد يطفئ ذلك المصباح مصباح
العناية بالجدل، وتكليف الطلاب حفظ المتون والتدرج معهم في فهمها؟ ألا أن هذه
الكلمة في هذا المقام من أوابد الغرائب التي لا تأنس فيه، ولعلها اقتبست من بعض
الكلام البليغ لإفادة معنى آخر فسقطت في هذا المكان فلم تقبلها فيه الأذهان، على
أن بعض ما عورض به الإصلاح قد كاد يكون شغبًا أو كان والسياق هنا يأبى إرادته.
وجملة القول: إن الأستاذ صاحب التقرير بين طريقة الأزهر بما لا تحمد به
ولكنه حمدها، وغاية ما انتقده أن بعض المتأخرين بالغ فيها مع بعض الصغار من
الطلاب وضرر هذا قليل تسهل إزالته ما دام أكابر العلماء على خلافه، وأن الولع
بالشغب والمحدثات كاد يطفئ المصباح، ولكنه لم يطفئه فبقي وهاجًا. ويا ليته بين
لنا أزال هذا الشغب فصرنا آمنين على المصباح، أم الولع به ما زال يلح بأهله
فالمصباح على خطر؟ ولقد أيد مدح هذه الطريقة الأزهرية بقوله: إنها كانت
طريقة المتقدمين من السلف الصالح واستدل بكلام ابن خلدون. ما قاله ابن خلدون
ليس حكاية عن السلف، وإنما هو رأي له يرد به على من شاهد من المعلمين
الكثيرين الذين يخطئون طرق التعليم وليس هو كل رأيه، فرأيه مخالف لما عليه
الأزهر كما يعلم مما يأتي:
يحار قارئ التقرير فلا يدري أهذا المدح لطريقة الأزهر بيان لاعتقاد
الكاتب، أم يراد به شيء آخر؟ العبارة محتملة يقوي إرادة المدح فيها عزوها إلى
السلف والاستدلال عليها بكلام ابن خلدون، ولكن قوله بعد ذلك كله: إن هناك
مفسدًا آخر لطرق التعليم به (كانت المصيبة أعظم والفساد أعم وأشمل) يدل على أنه
لم يقصد غير الذم. فماذا فعل ذلك المصباح في هذه الظلمات المتراكمة؟
الفصل معقود لبيان طرق التعليم، فكان ينبغي أن تذكر الطرق المعروفة فيه
ويذكر أهلها ويفاضل بينها لبيان ما اختارته مشيخة الإسكندرية منها، ولكنك تخرج
من الفصل ولم تع غير طريقة واحدة للأزهر، عرضت لها عيوب ومفاسد فأزالت
مشيخة الإسكندرية عيوبها ومفاسدها، فصارت خير الطرق عندها، تعي هذا بعد أن
يضطرب ذهنك في الفهم، وتحار في التزييل بين المدح والذم، فهذا ما يقال في هذا
الفصل من التقرير.
وأما الموضوع في نفسه، فالحق الذي نعلمه فيه علم اليقين ما نقول: إن
طريق الأزهر في التعليم طريق طويلة مشتبهة الصوى، كثيرة التمعج والهُوى،
وأن أهل الأزهر كانوا ولا يزالون سائرين عليها على غوائلها، إلا نفرًا من
المتأخرين قد اتقوا بعض مفاسدها، عملاً ببعض ما هداهم إليه الإصلاح الذي دعا
إليه الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - وهو الذي اختار للشيخ محمد شاكر بعض
تلامذته منهم يدرسون في الإسكندرية. وقد بشرنا الشيخ محمد شاكر أنه أنفذ شيئًا
من ذلك الإصلاح شيئًا آخر فمجموع ما شرع فيه أربعة أمور:
١- مراقبة المعلمين للطلبة و٢- تقرير الامتحان السنوي و٣- حمل المعلمين على
التدرج في التعليم، و ٤- اختيار الكتب، وهذه الأمور مما دعا إليه الأستاذ
الإمام في الأزهر، واشتغل بها مجلس إدارته شغلاً طويلاً كما يعلم من تاريخه
(كتاب أعمال مجلس إدارة الأزهر) وقد عارض في هذه الأمور بعض أكابر المشايخ
المتقدمين لا (المتأخرين) الذين ذمهم التقرير -المتقدمين الذين أدركهم أو بعضهم
كاتبه قبل ظهور ما عبر عنه (بالشغب والمحدثات) ومن حسن الحظ أنه لا يوجد
في مشيخة الإسكندرية أمثال هؤلاء الأكابر المتقدمين؛ إذ لو وجد أمثالهم في
شهرتهم ونفوذهم لما تيسر له أن يقرر ما قرره من إزالة المفاسد، فإن تيسر له تقريره
بالقول فلا يتيسر إنفاذه بالفعل على أن الإنفاذ عسر على كل حال لقلة من
عندنا من أهل الكفاءة؛ إذ لم تتعود هذه الطائفة على النظام ولم تعرف ما وصلت إليه
الأمم في الارتقاء في فن التعليم. وما لا يدرك كله لا يترك قلة والعمل يمد بعضه
بعضًا فنسأل الله كمال التوفيق للعامل والثبات عليه والإخلاص فيه، وأما الصواب في
نظام التعليم فلا محل هنا للكلام فيه لما سبق لنا من التفصيل من قبل ولكننا نأتي
من تاريخ الأمة فيه ومنه تعرف طريقة السلف والخلف فنقول:
***
طريقة المسلمين في التعليم وتاريخه عندهم
إن التعليم فن صناعي يرتقي بارتقاء حضارة الأمة، ويتدلى بتدليها ولم ينزل
الوحي بكيفية تنظيم المدارس وتلقين العلوم والفنون للناشئين فنقول: إن قوانين
التعليم أحكام تعبدية تتلقى بالرواية ويتبع فيها طريق السلف الصالح من أهل الصدر
الأول؛ لأنهم أعلم الناس بغرض الشارع وأشدهم محافظة عليه. وإذا كان التعليم فنًّا
صناعيًّا، فالذي ينبغي للأمة هو أن تفكر دائمًا في ترقيته، ولا يكتفي المتأخر فيه
بتقليد المتقدم بحجة أنه متبع لسلفه معظم لهم؛ إذ ليس من تعظيم الصحابة عليهم
الرضوان أن نحارب بمثل ما كانوا يحاربون به من السيوف والرماح، ونترك
المدافع وغيرها مما استحدث من آلات الكفاح، فما جاء في تقرير مشيخة
الإسكندرية من استحسان طريقة كذا اتباعًا للسلف الصالح -لو صح- غير سديد،
إنما السداد أن نختبر طرق التعليم المستحدثة ونتخير أمثلها؛ فإن التعليم في هذا
العصر أقوى عوامل الكفاح بين الأمم حتى نقلوا عن البرنس بسمرك الشهير أنه قال:
إننا قد غلبنا فرنسا بالمدرسة. على أن ما ذكر في التقرير هو مخالف لطريقة
السلف الصالح في التعليم كما هو معروف للمطلع على التاريخ وتعرفه مجملاً مما
يأتي:
كانت طريقة إفادة العلم في الصدر الأول الرواية اللسانية، ثم الإملاء
والمذاكرة، ولما كثر التصنيف واتسعت حضارة المسلمين صاروا يدرسون بعض
الكتب المصنفة وأكثرها في روايات الحديث والآثار وأشعار العرب ووقائعها وفي
العلوم العربية والشرعية المؤيدة بهذه الروايات. ولما دخلت في الأمة العلوم
اليونانية اتخذوا لهم معلمين من أهل الملل الأخرى فحدثت لهم طرق جديدة، ثم
انحصر التعليم في قراءة الكتب غالبًا فكانت طرق الناس في التعليم تابعة لطرقهم في
التأليف، وأول اشتغالهم بالتأليف في الفنون كان بجمع الروايات التي يتلقونها
والأمالي التي يهيئونها ويملونها ثم توسعوا في ذلك ويسهل أن تعرف طريقة
التدريس في كل قرن بالاطلاع على طائفة من الكتب التي صنفت فيه: روايات
ووقائع فأصول وقواعد مؤيدة بها فاختصار لتذكرة المنتهى فاقتصار على
المختصرات وما كتب عليها فخلط للعلوم وخلل في التعليم. وجملة القول في سيرة
المسلمين في التعليم: إنها كانت سائرة على سنة الفطرة بطبعها لا بقوانين وضعت
لها ثم انحرفت حتى ضاع العلم وضل الفهم وصرنا إلى ما نرى.
لم يدون المسلمون قوانين للتعليم في عنفوان دولة العلم فيهم بل كان موكولاً إلى
المدرسين يسلكون فيه مسالك الكتب المصنفة، فكثرت الطرق بكثرة المصنفات
واختلاف مذاهب المصنفين والمدرسين حتى قام في القرون الوسطى من ينتقد ما
عليه أهل عصره ومن قبلهم كالإمام الغزالي وتلميذه أبي بكر بن العربي ثم جاء
الفيلسوف الاجتماعي عبد الرحمن بن خلدون فبحث في التعليم بحثًا لم يسبقه إليه
سابق وضعه على قواعد الفلسفة فأصاب كثيرًا من الأغراض. ومن الأصول التي
قررها أن التعليم من الصنائع التي تتبع حال الحضارة والعمران في الترقي والتدلي
كسائر الصنائع وأن كثرة التأليف في العلوم عائقة عن التحصيل، وأن كثرة
الاختصارات المؤلفة في العلوم مخلة بالتحصيل. وأن خلط العلوم بعضها ببعض
يحول دون الظفر بشيء منها، وأن غاية تعليم الفن هي تحصيل الملكة فيه،
والمراد بالملكة ملكة العمل فملكة البلاغة هي أن يكون ذوق الكلام البليغ صفة مالكة
للنفس بها يسهل الإتيان بالكلام البليغ قولاً وكتابة دع فهمه والتمييز بين أقسامه
وعلى ذلك فقس. وقد استفاد ابن خلدون هذه القواعد والأصول من النظر في كتب
المتقدمين ومعرفة تاريخهم ومن اختبار حالة التعليم والتأليف في عصره، ولكن
المسلمين لم يستفيدوا من أصوله هذه ولا من أصوله في فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع؛
لأن هذا إنما جاءهم في طور التدلي في العلوم والعمران كما قلنا في مقدمة أسرار
البلاغة، وما نقله عنه الشيخ محمد شاكر في تقريره هو من المواضع التي قصر
فيها وأجمل وعذره الفرار من التكرار وإنما يعرف رأيه من مجموع ما كتبه وتقدم
التنبيه على بعضه، ومنه تحصيل ذوق البلاغة بممارسة الكلام البليغ ومنه
الاستدلال على حسن طريقة التعليم بقصر مدة التحصيل، وذمه الاعتماد على الحفظ
وتفضيله طريقة تُونِسُ بالاكتفاء بخمس سنين في تحصيل الملكة على طريقة
المغرب في جعل مدة التحصيل ١٦ سنة وكانوا يعتمدون على حفظ المتون، وقد
استدرك عليه علماء التعليم والتربية (البيداجوجيا) في هذا العصر فيما رآه من
ابتداء المتعلم بأصول المسائل من كل باب وإعادتها بالتكرار ثلاث مرات بالتفصيل
الذي ذكره، ومن الغريب أن صاحب التقرير لم يأخذ عنه إلا المجمل المستدرك
عليه وترك سائر آرائه وهي مخالفة لما عليه المشيخة بالإسكندرية.
هذا صفوة ما نختصر به تاريخ التعليم عندنا، وأما العلوم أنفسها فكانت العناية
بها تختلف باختلاف حال الدولة التي هي أس الحضارة، وشر ما حدث في القرون
المتوسطة العناية بالجدل والخلاف في الفقه وقد انبرى حجة الإسلام الغزالي لبيان
مفاسد هذه البدعة بعد أن خاض فيها مع الخائضين، وكان في مقدمة المبرزين
***
رأي الإمام الغزالي في التعليم الإسلامي
كتب ابن خلدون ما كتب في التعليم من حيث هو فن صناعي يرتقي بارتقاء
العمران. وأما الإمام الغزالي فقد كتب فيه من حيث هو طريق للإرشاد وهداية الدين
فما ذهب إليه هو هدي السلف الصالح. والجدير بأن تهتدي به مشيخة العلوم الدينية
المحضة الذين غرضهم حفظ الدين والاهتداء به. قال في فصل (بيان القدر
المحمود من العلوم المحمودة) بعد أن قسم العلوم إلى محمود قليله وكثيره ومذموم
قليله وكثيره وهو ما لا يفيد في دنيا ولا دين وقسم يحمد منه مقدار مخصوص ويذم
التوسع فيه والاستقصاء ما نصه:
(وأما القسم المحمود إلى أقصى غايات الاستقصاء فهو العلم بالله تعالى
وبصفاته وأفعاله وسنته في خلقه وحكمته في ترتيب الآخرة على الدنيا) ثم مدحه
وبين ما يحتاج إليه طالبه من المجاهدة وتهذيب النفس وقال " وأما العلوم التي لا
يحمد منها إلا مقدار مخصوص فهي العلوم التي أوردناها في فروض الكفايات فإن
في كل علم منها اقتصارًا وهو الأقل واقتصادًا وهو الوسط واستقصاء وراء ذلك
الاقتصاد لا مرد له إلى آخر العمر. فكن أحد رجلين إما رجل مشغول بنفسك وإما
متفرغ لغيرك بعد الفراغ من نفسك فلا تشتغل إلا بالعلم الذي هو فرض عليك بحسب
ما يقتضيه حالك وما يتعلق منه بالأعمال الظاهرة من تعلم الصلاة والطهارة والصوم
وإنما الأهم الذي أهمله الكل علم صفات القلب وما يحمد منها وما يذم) وأطال في
بيان مكانة علم التهذيب من الدين وأن الأعمال الظاهرة لا تفيد عند الله بدونه ثم قال:
وإن تفرغت من نفسك وتطهيرها وقدرت على ترك ظاهرة الإثم وباطنه وصار
ذلك ديدنًا لك وعادة فيك وما أبعد ذلك منك فاشتغل بفروض الكفايات وراعِ التدريج
فيها فابتدئ بكتاب الله، ثم بسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم بعلم التفسير
وسائر علوم القرآن من علم الناسخ والمنسوخ والمفصول والموصول والمحكم
والمتشابه وكذلك في السنة. ثم اشتغل بالفروع وهو علم المذهب من علم الفقه دون
الخلاف، ثم بأصول الفقه، وهكذا إلى بقية العلوم على ما يتسع له العمر ويساعد فيه
الوقت ولا تستغرق عمرك في فن واحد منها طالبًا للاستقصاء فإن العلم كثير والعمر
قصير. وهذه العلوم آلات ومقدمات وليست مطلوبة لعينها بل لغيرها (يعني العلم
المطلوب لعينه هو العلم بالله وبسننه في خلقه وحكمته كما تقدم) وكل ما يطلب
لغيره فلا ينسى فيه المطلوب ويستكثر منه، فاقتصر من شائع علم اللغة على ما تفهم
منه كلام العرب وتنطق به ومن غريبه على غريب القرآن وغريب الحديث ودع
التعمق فيه واقتصر من النحو على ما يتعلق بالكتاب والسنة فما من علم إلا وله
اقتصار واقتصاد واستقصاء، ثم ذكر نموذجًا لهذه المراتب الثلاث ومثل لها بالكتب
المختصرة والمتوسطة والمطولة ومن رأيه أن المطولات تصنف للمراجعة لا
للتدريس ثم نهى عن الجدل والخلافيات في المذاهب وذكر أنها من البدع التي لم
يعهد مثلها في السلف وشبهها بالسم ثم قال:
وهذا كلام ربما يسمع من قائله فيقال: الناس أعداء ما جهلوا، فلا تظن
ذلك فعلى الخبير سقطت فاقبل هذه النصيحة ممن ضيع العمر فيه زمانًا وزاد على
الأولين تصنيفًا وتحقيقًا وجدلاً وبيانًا، ثم ألهمه الله رشده وأطلعه على عيبه فهجره
واشتغل بنفسه، فلا يغرنك قول من يقول ولا يعرف علله إلا بعلم الخلاف فإن علل
المذهب مذكورة في المذهب والزيادة عليها مجادلات لم يعرفها الأولون ولا الصحابة
وكانوا أعلم بعلل الفتاوى من غيرهم، بل هي مع أنها غير مفيدة في علم المذهب
ضارة مفسدة لذوق الفقه فإن الذي يشهد له حدس المفتي إذا صح ذوقه في الفقه لا
يمكن تمشيته على شروط الجدل في أكثر الأمر فمن ألف طبعه رسوم الجدل أذعن
ذهنه لمقتضيات الجدل وجبن عن الإذعان لذوق الفقه وإنما يشتغل به من يشتغل
لطلب الصيت والجاه ويتعلل بأنه يطلب علل المذهب وقد ينقضي عليه العمر ولا
تنصرف همته إلى علم المذهب فكن من شياطين الجن في أمان واحترز من شياطين
الإنس فإنهم أراحوا شياطين الجن من التعب في الإغواء والإضلال.
ثم طفق يذم الجدل في العلم مطلقًا ومنه قوله: وفي الحديث في معنى قوله
تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} (آل عمران: ٧) الآية هم أهل الجدل الذين
عناهم الله بقوله تعالى فاحذرهم. وقال بعض السلف: (يكون في آخر الزمان قوم
يغلق عليهم باب العلم ويفتح لهم باب الجدل) ثم عقد بعد ذلك بابًا لبيان سبب علم
الخلاف وآفات الجدل والمناظرة والحديث الذي ذكره في تفسير الآية رواه البخاري
ومسلم وأبو داود والترمذي من حديث عائشة وأورده بالمعنى. فلينظر القارئ أين
طريق السلف في العلوم الدينية من طريق الأزهر على رأي الشيخ محمد شاكر،
وكيف العناية عندهم بالجدل مكان العناية بالمهم عن السلف من العلم بالله وصفاته
وأفعاله (وهي تعرف من علم الكون) وبسننه في خلقه (وهي المعبر عنها في هذا
العصر بعلم الاجتماع وعلم نواميس الطبيعة) وعلم حكمة ترتيب الآخرة على الدنيا،
لا شيء من ذلك في الأزهر ولا في الإسكندرية، فعسى أن يوفقهم الله تعالى.
للاسترشاد بما كتبه حجة الإسلام في ذلك.
تعب الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في إقناع كبار شيوخ الأزهر في إصلاح
التعليم فكانوا لا ينفذون كل ما اقتنعوا به وهو بعض ما دعا إليه مما يريده ومنه أن
يكون الغرض من كل فن وعلم القدرة على استعماله والوصول إلى غايته دون الجدل
والمماحكة في عبارات كتبه، وهذا عين ما يقوله الغزالي وما كان يعنى به السلف.
وسنعود في الجزء الآتي إلى الكلام في التعليم إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))