دروس سنن الكائنات محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي (٧)
العلوق وسبب الذكورة والأنوثة ومدة الحمل: إذا تلقحت البويضة سقطت في الرحم بسبب ما في البوقين من الأهداب؛ وبسبب انقباضهما، ويجوز أن يكون للبويضة أيضًا حركة ذاتية كالأميبا، وأرجح الأوقات لحصول الحمل أن يكون الجماع عقب الطهر - في الأسبوع الأول - من الحيض، ويقال: إن هذا الجماع محرم عند اليهود، وهو من غرائب التشريع. وبويضات المبيض الأيمن يرجح عند بعض العلماء الآن أنها هي التي يتولد منها الذكر، وبويضات المبيض الأيسر يتولد منها الأنثى، ولذلك إذا نامت المرأة على جانبها الأيمن بعد الجماع رجح إتيانها بالذكر، وقد عرف هذه الفائدة ابن سينا كما في قانونه. فإذا كان الجماع بعد حيض متفق مع انفجار بويضة المبيض الأيمن كان النسل ذكرا، وبالعكس. وإذا سقطت البويضة في الرحم علقت بغشائه المخاطي، وابتدأ تكوّن الجنين في داخلها بانقسامها إلى عدة أقسام، ويكون الجنين في بطن أمه محاطًا بالرحم، ثم بغشاءَيْنِ آخرين تابعين لنفس البويضة، وتكبر البويضة كبرًا عظيمًا، وتمتلئ بسائل يحيط بالجنين من جميع جهاته يسمى السائل (الأمنيوسي [١] ) ، ويكون الجنين معلقًا في هذا السائل بحبله السري الملتصق بالمشيمة بجدار الرحم، ويكون رأس الجنين إلى الأسفل غالبًا، وظهره إلى الأمام، ولا يُفْهَم مما تقدم أن عروق الجنين متصلة بعروق الرحم، بل هما متجاوران فقط، بحيث لا تختلط دورتهما الدموية؛ ولكن المواد المغذية تصل من الأم إليه بطريق (الأسموز) ، وكذلك المواد الفاسدة التي تخرج من الجنين تصل إلى دورة الأم بهذه الواسطة أيضًا بلا اختلاط بينهما، ولا يتنفس الجنين في بطن أمه؛ وإنما دمه يتنقى بالطريقة المذكورة، وأول تنفسه يكون عند استهلاله، أي صراخه عند خروجه من الرحم. ومدة الحمل أقلها خمسة أشهر، أو أربعة ونصف، وأكثرها أحد عشر شهرًا وقد يحصل في أحد البوقين حمل، أو في البطن خارج الرحم، وفي هذا الحال قد تحمل الأم جنينها ميتًا عدة سنين؛ ولكن لا تضعه إلا بعملية جراحية. شَبَه الجنين: يقال: إن شَبَه الجنين تابع لمقدار الحيوانات المنوية الملقحة للبويضة، فإذا دخلت بكثرة في البويضة أشبه أباه سواء أكان ذكرًا أم أنثى، وإذا كانت قليلة أشبه أمه كذلك، فإذا كان الجماع بشدة ومقدار المني كثيرًا، وأنزل الرجل قَبْل المرأة كثر دخول الحيوانات المنوية في البويضة فأشبه الولد أباه، إذا كان مقدار المني قليلاً، وأنزلت المرأة قبل الرجل بطلت حركة الامتصاص من رحمها، فنظرًا لذلك ولقلة مقدار المني يصل عدد قليل من الحيوانات المنوية إلى البويضة؛ فيكون الولد شبيهًا بأمه، سواء أكان ذكرًا أم أنثى، ولذلك روى البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد " أي لأنه في هذه الحالة تبطل حركة الرحم في جذب المني إليه؛ فتكون الحيوانات الداخلة فيه أقل مما إذا حصل القذف أثناء حركة الرحم، أي قبل إنزال المرأة، والولد كل مولود ذكرًا كان أو أنثى. النطفة والعلقة وأطوار الجنين وغير ذلك: مما تقدم يُفهم أن الإنسان مخلوق من البويضة الملقحة بحيوانات الرجل، وهذه هي النطفة الأمشاج التي ذكرها القرآن الشريف (٧٦: ٢) ، فإن النطفة هي كل ماء قل أو كثر، فمني الرجل نطفة، وبويضات المرأة مع السائل السابحة فيه المنفرز من حويصلات (جراف) ، ومن البوق يسمى أيضًا نطفة، والأمشاج الأخلاط، فاختلاط المني بهذا السائل الذي فيه البويضة هو الضروري للحمل. ولا يتوهمن أحد أن نزول البويضة من المبيض مما تشعر به المرأة، أو تلتذ له بل هو شيء لا تشعر به مطلقًا. ولا يمكن رؤية البويضة بالعين المجردة، وإن كانت من الخلايا الحيوانية الكبيرة، فإن قطرها ٠.٢ من المليمتر، أما قطر كريات الدم البيضاء فهو ٠.٠١ وقطر الحمراء ٠.٠٠٧٥ من المليمتر. واعلم أن الخصيتين تتكونان في الجنين في بطنه خلف البريتون، وتحت الكليتين بقليل، ثم تنزلان شيئًا فشيئًا حتى تكونا في الصَّفَن في الشهر التاسع من الحمل، فإذا وُلد الجنين قبل ذلك في الشهر السادس مثلاً كان الصفن خاليًا منهما. وفي أثناء التكوين تنقسم بويضة المرأة كلها داخل غشائها الذي يتمدد تدريجيًّا كلما كبرت، وكذلك بويضة الحيوانات الثديية، أما بويضة الطيور فينقسم جزء منها فقط - كما تَقَدَّم -. أما العلقة المذكورة في القرآن الشريف، فهي أول أطوار الجنين وتكون مركبة من عدة خلايا صغيرة ككريات الدم لم يتميز شيء من أجزائها، وهذه الخلايا تنشأ من انقسام البويضة بعد التلقيح إلى عدة خلايا فلذا تشبه علقة الدم [٢] (clot) خصوصًا التي تتركب من الكريات البيضاء التي تسمى بالإنكليزية (Buffy coat) (راجع ص٤٨ من هذا الكتاب وص ٤١٠ من كتاب فسيولوجيا هاليبرتون Halliburton) . فإذا تمت هذه العلقة أخذت تتنوع خلاياها، وتتميز بعض أجزائها عن البعض الآخر، ويكون حجمها في آخر الشهر الأول كحجم بيضة الحمامة وهي (المضغة) لأنها تكون قدر ما يمضغ في الفم، وبعضها مُخَلَّق، والبعض الآخر غير مُخَلَّق كما قال تعالى في سورة الحج (٢٢: ٥) ، ومما يظهر في ذلك الوقت الأطراف العليا، والأطراف السفلى، ويتميز القسم الأيمن من القلب عن القسم الأيسر، ثم تظهر آثار العظام الأخرى. وفي الأسبوع السابع يبتدئ ظهور العضلات بعد ظهور العظام المذكورة، وذلك بتنوع الخلايا التي كانت تحيط بالعظام، والمراد هنا الغضاريف التى تصير عظامًا، كما أن المراد بالخمر في قوله تعالى {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} (يوسف: ٣٦) العنب الذي يصير عصيره خمرًا. فإذا تم نمو الجنين، ووُلد خرج وهو لا يدري شيئًا، ثم يتعلم كل شيء بالتدريج حتى يصير كأنه خلق آخر، فبعد أن كان لا يعي شيئًا يصبح يخترق الحجب بعقله، ويصل إلى الملكوت الأعلى بفكره {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} (المؤمنون: ١٤) ومما تقدم تجد أن الأطوار المذكورة في القرآن هي عين الحقيقة، وهاك بيانها كما وردت في سورتي الحج والمؤمنين: (١) طور النطفة: وهي الماء فتطلق على مني الرجل، وعلى السائل الذي تسبح فيه البويضة، وأصله من حويصلة جراف ومن البوق، كما سبق. وفي هذا الطور تُلقِّح الحيوانات المنوية البويضة فتكون النطفة - بعبارة القرآن - أمشاجًا. (٢) طور العلقة: وهي انقسام البويضة بعد تلقيحها إلى عدة خلايا متماثلة لا تمتاز واحدة منها عن الأخرى، وتكون كقطعة الدم الجامدة. (٣) طور المضغة: وهي البويضة إذا كبرت حتى صارت قدر ما يُمضغ ويكون بعضها مخلقًا، وبعضها غير مخلق، وهو طور التخليق والتكوين الابتدائي (٤) طور الإتمام: وذلك يبتدئ بظهور الأجزاء الرخوة كالعضلات التي تكسو العظام، وينتهي هذا الطور بتمام الخلق. (٥) طور التربية والتعليم بعد الولادة: وهو المُعَبَّر عنه في القرآن بالخلق الآخر؛ لأن الإنسان الذي كان أحط من الدابة يصبح أرقى الأحياء قاطبة؛ لذلك قال سبحانه جل شأنه: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} (نوح: ١٤) . هذا وقد يحصل التلقيح فإذا وصلت البويضة إلى الرحم، وعلقت به وماتت بسبب ما كالتهاب غشائه طردها الرحم أو امتصها، وهذا الامتصاص هو المُعَبَّر عنه في القرآن الشريف (١٣: ٨) بقوله {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} (الرعد: ٨) وقد يمتص الرحم الجنين، أو أحد التوأمين في أحوال أخرى. أما قوله تعالى {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} (الزمر: ٦) فالظلمات إما أن يراد بها ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة الأغشية الجنينية المحيطة بالسائل الأمنيوسي. وإما أن تكون الظلمات هي: ظلمة المبيض الذي تتكون فيه البويضة في داخل حويصلة جراف، ثم ظلمة البوق حينما تتلقح البويضة بالحيوانات المنوية، ثم ظلمة الرحم الذي يتخلق فيه الجنين. وفي أثناء الولادة تنثقب أغشية الجنين، وينسكب ماؤها فيخرج الجنين، ثم تتبعه هذه الأغشية مع المشيمة (وهي أغلظ جزء في الأغشية، وفيها يندغم الحبل السري، ومنها يتغذى الجنين وإليها تخرج فضلات جسمه) وأيضًا تسقط أغشية الرحم، ثم تتجدد بعد الولادة، والجنين في بطن أمه لا يتنفس ولا يأكل ولا يشرب وإنما يأخذ من دم أمه كل ما يحتاج إليه؛ وكذلك لا يتبرز بل تتجمع في أمعائه إفرازات الكبد والأمعاء وتخرج بعد الولادة وتسمى بالعِقي. وقد يبول الجنين في بطن أمه في أشهره الأخيرة، فإن السائل الأمنيوسي وجد فيه مقدار قليل من البولينا بسبب بول الجنين فيه. ومقدار السائل الأمنيوسي نحو لتر أو اثنين عادة، ووظيفته حماية الجنين من الضغط عليه، وحفظه من التصاقه بالأغشية، وتمديد عنق الرحم عند الولادة، وغسل المهبل حينئذ. والجنين يتحرك في بطن أمه بنفسه وبحركتها وهذه الحركات تشعر بها الأم وتبتدئ في الشهر الخامس غالبًا. وقد يحصل حمل فوق حمل بمعنى أنه إذا حصل جماع بعد الحمل الأول ببعض أسابيع يجوز أن يحصل حمل آخر، وهذا غير الحمل التوأمي المشهور، فإن سببه أن تتلقح فيه بويضتان، أو أكثر في وقت واحد، أو وقت قريب، أو يكون للبويضة الواحدة أكثر من نواة، وإذا كانت البويضات من مبيض واحد كانت التوائم من نوع واحد ذكرًا أو أنثى بحسب المبيض اليمين أو اليسار، وتكون التوائم أيضًا من نوع واحد إذا كانت ناشئة من بويضة واحدة ذات نويات متعددة. أسباب العقم: هذه الأسباب عديدة، منها: أن يكون السبب فساد زرع الرجل لمرض في خصيتيه، ومنها مرض المبيضين أو البوقين أو الرحم نفسه، أو وجود إفرازات في المهبل شديدة الحموضة بحيث تقتل الحيوانات المنوية، وأشهر الأمراض التي تُحْدِث العقم في الرجل والمرأة داء السيلان، ومن الأسباب أيضًا الجماع المختلط كما في الزنا، بأن يتوارد عدة رجال على امرأة واحدة، ولذلك قيل في المثل الإنجليزي " لا ينمو العشب حيث يكثر دوس الأقدام ". ومن الأسباب أيضًا ما لم تُعْرَف إلى الآن حقيقته كأن تكون المرأة والرجل سليمين من كل آفة، ومع ذلك لا يأتيان بنسل، فإذا تزوج هذا الرجل امرأة أخرى وتزوجت هي رجلاً آخر أنتج كل منهما. وإذا أريد منع الحمل فلا طريقة أحسن لذلك سوى قتل الحيوانات المنوية أثناء الجماع، وذلك بوضع سوائل أو غيرها في المهبل تكون قتالة لها كمحلول السليماني بنسبة ١ - ٢٠٠٠، ومحلول حمضي من سلفات الكينيين، فتغمس قطعة من القطن بهذه السوائل أو غيرها، وتحشى في المهبل بحيث تسد فوهة الرحم، فهذه الطريقة في الغالب قد تبطل الحمل ما دامت مستعملة فإذا تركت عاد الحمل. مراعاة الصحة في الجماع: الإكثار من الجماع ضار جدًّا مؤد إلى الضعف الجسماني والعصبي، ويُعَرِّض الإنسان إلى أمراض كثيرة كالالتهابات الكلوية، والشلل العام للمجانين، ويحدث الاصفرار، وخفقان القلب وضعفه، فلذا يجب اجتناب الإفراط فيه، والمحمود منه طبًّا هو ما نصوا عليه في كتب الشرع، وهو أنه ينبغي إذا اشتهته النفس اشتهاء حقيقيًّا بدون أن يهيج الإنسان شهوته بمهيج ما، وتختلف الرغبة في الجماع والقدرة عليه باختلاف الأشخاص، ولذلك لا يمكننا تحديد القدر الصحي منه بالضبط، والغالب أنه لا يضر الإنسان إذا أتاه مرة أو مرتين في الأسبوع بشرط أن يكون سليم البنية قوي الجسم. ولا يجوز إتيان الحائض شرعًا وطبًّا - كما سبق بيانه - وكذلك لا يجوز الجماع عقب الأكل مباشرة، ولا عقب التعب الجثماني أو العقلي الشديد، وأحسن وقت له أن يكون بعد مضي الثلثين من وقت النوم أو النصف؛ فإن النوم بعده نافع للجسم مانع من إصابته ببعض الأمراض كالزكام والسعال وغيرهما مما قد ينشأ عن الضعف الذي يُحْدِثه، أما ضرره في أول الليل فهو لأن الجسم في ذلك الوقت يكون تعبان والمعدة في الغالب تكون ممتلئة، فلذا يحسن النوم قبله وبعده. ومن أهم ما يقوي الجسم وينشطه على هذا العمل، ويزيل الآلام، ويمنع بعض الأمراض التي قد تنشأ عنه - الغُسل خصوصًا بالماء الحار؛ ولذلك كان الغسل واجبًا شرعًا. أما الاستمناء باليد فهو من أضر الأشياء للصحة والعقل، وهو أضر بكثير من الإفراط في الجماع، فإنه يُضْعِف قوى الجسم والمخ والأعصاب، وكثيرًا ما يصاب صاحبه بالصرع أو بالجنون، وهذا الضرب من الاستمناء يسمى أيضًا (جلد عُمَيْرَة) وينسبه الإفرنج إلى رجل من بني إسرائيل من أبناء يهوذا يسمى (أونان) ، ولكن الوارد في التوراة أن هذا الشخص كان يأتي العَزْل، لا الاستمناء باليد، وغضب الله عليه لأنه لم يرد أن يقيم نسلاً لأخيه (راجع سفر التكوين ٣٨: ٦ - ١٠) . ومن البنات من تفعل هذا الفعل القبيح أيضًا خصوصًا إذا كان بظرها كبيرًا ولم يُقْطَع. أما العَزْل من الوجهة الطبية، فهو أيضًا مضيع للذة، مضر بالصحة، والظاهر أنه مكروه في الشريعة الإسلامية، ولذلك بَيَّنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق أنه من العبث الذي يتنزه العاقل عنه، خصوصًا لأنه مضيع للذة بلا فائدة محققة، وقال فيه أيضًا: (ذلك هو الوأد الخفي) ، وذلك لأنه وإن لم يكن مانعًا محققًا للنسل، فهو لا شك مقلل له كثيرًا فكان إتيانه لذلك مذمومًا؛ لأنه ينافي كثرة التناسل التي حث عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. مضار الزنا: للزنا مضار كثيرة منها الإصابة (١) بالداء الإفرنجي (٢) أو السيلان (٣) أو القرحة الأكالة (٤) أو القرحة الرخوة (٥) أو القمل العاني وغيره، ويوجد بعض أمراض أخرى جلدية وباطنية قد تعدي بسببه مثل الجرب والأرضة (Tinea) ، والسل الرئوي، ولا تنس مع هذا مضاره الأدبية والدينية والاجتماعية والمالية وكل هذه الأشياء الأخيرة ليس من غرضنا التكلم عليها هنا وإليك بعض تفصيل ما ينشأ عنه من الأمراض: (١) الإفرنجي: ويسميه الإفرنج (Syphilis) وهي كلمة غير محقق أصلها، ويمكننا أن نسميه بالعربية (التهويش) ، وبلسان العامة (التشويش) ، وأما كلمة الزهري فهي في الحقيقة نسبة لجبل الزهرة - كما سبق - وتطلق عند الإفرنج على أهم الأمراض التي تنشأ عن الجماع، فهي عندهم ليست خاصة بهذا الداء وأصله من أمريكا ودخل مصر بدخول الإفرنج فيها؛ ولذلك سمي (بالداء الإفرنجي) . ولهذا الداء ثلاثة أطوار: (١) الطور الأول: ظهور القرحة، وهي شيء كالدمل يظهر في العضو مكان التلقيح بالميكروب، فمثلاً إذا جامع الرجل امرأة مصابة بهذا الداء، وكانت قروحه في فرجها فقد ينتقل إليه الداء، وتظهر عنده هذه القرحة الأولى في فرجه أو ما قاربه كالعانة، وكذلك إذا قَبَّلَهَا في فمها مثلاً، وكان فيه شيء من قروحه وبثوره ظهرت في فيه أولاً، وقد ينتقل بواسطة أدوات الأكل والشرب وغيرهما. وهذه القرحة تظهر عادة بعد خمسة أسابيع من الجماع أو التقبيل وغيرهما، وذلك لأن ميكروب الزهري (وهو حلزوني الشكل) [٣] إذا انتقل إلى الإنسان يتكاثر في جسمه حتى يمتلئ الدم به، وعندئذ تظهر القرحة بطور الحضانة أو التفريخ، ومما يساعد على دخول الميكروب وجود أي جرح أو سَحج في بشرة الجلد الذي يلامس المرأة المصابة؛ ولكنه غير ضروري، والقروح الإفرنجية الأولى منها ما يكون صلبًا، ومنها ما يكون رخوًا تسيل منه مِدَّة، وصديد، وهذه القروح كثيرة في فروج الزناة والزانيات. (٢) الطور الثاني: ظهور طفح مخصوص في الجسم كله، له أشكال متعددة، مع قروح في الأغشية المخاطية أيضًا، وله أعراض أخرى غير ذلك، كضخامة الغدد اللمفاوية في الجسم كله خصوصًا في الأربية والقفا، وكانوا يقولون إن الطور الأول والثاني هما المُعْدِيان دون الثالث؛ ولكن ثبت الآن حصول العدوى في جميع الأطوار الثلاثة، إلا أنها في الأخير منها قليلة جدًّا أو نادرة، وإذا تزوج شخص مصاب أصيب نسله بالإفرنجي أيضًا، ويبتدئ ظهور الطور الثاني بعد مضي ٦ أسابيع إلى ٣ أشهر من ظهور القرحة الأولى. (٣) الطور الثالث: هو عبارة عن ظهور أورام متعددة تصيب أي جزء من أجزاء الجسم، وهذه الأورام عبارة عن مادة تشبه الأزرار اللحمية التي تلتحم بها الجروح، وتسمى هذه الأورام بالأورام الصمغية، وإذا أصابت أي جزء من الجسم أفسدته وشوهته، وكثيرًا ما تبطل عمله أو تعطله على الأقل، وهذا الطور يبتدئ بعد سنة أو سنتين من مبدأ التلقيح، وربما استمر إلى نهاية العمر بأشكال متعددة تختلف باختلاف العضو المصاب. ومن المشاهدات الغريبة في أمر هذا الداء أن الطفل المولود من أب مصاب به لا يعدي أمه؛ وإنما يعدي المراضع الغريبات، ويسمى ذلك بقانون كوللس (Colles) ، ويعللون ذلك بأن الأم تلقحت بالمرض تلقحًا خفيفًا لم تظهر أعراضه. والإفرنجي من الأدواء العضالة التي يمكننا أن نقول: إنها من أهم الأسباب لأمراض جميع أعضاء الجسم، ويؤثر في الأعصاب تأثيرًا سيئًا جدًّا، فَيَحْدُث فيها أنواع كثيرة من الشلل والآلام، وقد يؤدي إلى المرض المذكور سابقًا المسمى بالشلل العام للمجانين، ويكفي في ذمه أن نقول إن ضرره ليس قاصرًا على الشخص نفسه، بل قد يقتل جنينه في بطن أمه، وإذا ولد كان النسل ضعيفًا مشوهًا مصابًا بالقروح المتنوعة. وأحسن الأدوية له في الطور الأول والثاني الزئبق ومركباته، وفي الطور الثالث يودور البوتاسيوم، وكذا حقنة ٦٠٦ [٤] أو ٩١٤ في الأوردة أو العضلات - وكل منهما مركب زرنيخي - استُعمِل أخيرًا في معالجته، وسيأتي الكلام عليها تفصيلاً في الجزء الثاني، وللوقاية منه يجب غسل ما لامس المريض غسلاً جيدًا بالماء والصابون، ثم بالأدوية المطهرة كالسليماني وغيره بنسب مخصوصة بعد اللمس مباشرة. (٢) السيلان: السيلان داء يصيب بعض الأغشية المخاطية وغيرها فيحدث فيها التهابًا يسيل منه صديد، وله ميكروب مخصوص معروف، وأكثر الأعضاء إصابة به الفرج والدبر والأنف والعين - ويسمى فيها بالرمد الصديدي - ومن مضاعفاته التهاب الخصيتين والخراجات الأُرْبيَّة والتهاب المثانة والتهاب الرحم والبوقين والمبيضين وغير ذلك، وقد ينشأ عنه مرض في المفاصل مؤلم جدًّا، ويكون معضلاً (عسر الشفاء) ، وهو من أعظم الأسباب المؤدية للعقم في الرجل والمرأة - كما سبق -. (٣) القرحة الأكالة: هي قرحة مخصوصة تضاعف القروح الإفرنجية وغيرها؛ ولكن حصولها في القروح الإفرنجية أكثر منه في غيرها، فإذا أصابت القضيب مثلاً أو الفرج أكلته كله، أو بعضه وربما أفقدت الإنسان خاصية التناسل طول حياته فيضيع نسله. (٤) القرحة الرخوة البسيطة: هي قرحة أخرى لها ميكروب مستطيل الشكل أكثر ما تصيب الفرج في الذكر والأنثى، فتذهب منه جزءًا صغيرًا، وكثيرًا ما تسبب خراجًا في الأربية أيضًا وهي من أهون الأمراض الزهرية (أي التي تنشأ من الجماع) . (٥) القمل: يشاهد في كثير من الأشخاص قمل في رءوسهم وأجسامهم وعانتهم وهو ثلاثة أنواع، وينتقل من شخص إلى آخر بالملامسة أو المجاورة، وقمل الجسم هو السبب الوحيد لنقل الحمى الراجعة قطعًا، فلذا يجب العناية بتنظيف الجسم منه، زد على ذلك كونه يُحْدِث حكة في الجسم، ويقلق راحة الإنسان، وقد تنشأ عنه حمى غير الحميات المذكورة آنفًا لسم فيه، أو لاضطراب عصبي يحدث من قرصه ومن الطرق لإزالته غلي الملابس وحلق الشعر والإدهان بزيت الصخر (البترول) ومرهم الراسب الأبيض - إذا كان الجزء المصاب محدودًا - وإلا اكْتُفِيَ بما ذُكر قبله خوفًا من امتصاص الزئبق الذي في هذا المرهم فيسمم الجسم، وتجب إطالة مدة غلي الملابس؛ فإنه شوهد أن بعضه يعيش في طيات الثياب وإن وضعت في الماء الغالي مدة خمس دقائق أو أكثر، وبيض قمل الجسم (الصئبان) يشتمل أيضًا على ميكروب الحمى التيفوسية، والحمى الراجعة، فإذا فقس وخرج منه قمل جديد كان ناقلاً أيضًا لهذين النوعين من الحمى. (٦) الجرب: الجرب داء يصيب الجلد خصوصًا ما بين الأصابع والفخذين وأعضاء التناسل، وينشأ من حُييوين أصغر بكثير من القمل العاني، يسمى باليونانية أكروس [Acarus] (ومعناها لا يتجزأ) وله ذكر وأنثى، أما الأنثى فبعد أن يلقحها الذكر تتخذ من الجلد جحورًا تبيض فيها نحو خمسين بويضة، ويبقى الذكر فوق سطح الجلد، فإذا أفرخت البويضات خرجت حييوينات جديدة، وإنما تفرخ البويضات حينما تظهر على سطح الجلد بزوال البشرة وتأكلها بالتدريج، وتحمل الإناث من جديد وتثقب الجلد أيضًا كأمهاتها وهلم جرا، وما تُحْدِثه هذه الحييوينات في الجلد من التهيج يكون سببًا تحصل به حكة شديدة تنشأ عنها قروح وبثور تؤذي الإنسان كثيرًا. ومن أحسن طرق علاجه الاستحمام بالماء والصابون مع الدلك الشديد جدًّا حتى يزول جزء من البشرة، وتنفتح الجحور بقدر الإمكان، ثم يُدهن الجسم بمرهم الكبريت، ويجب غلي جميع الملابس، وكل ما لامس جسم المصاب منعًا لتكرار العدوى له، أو انتقالها إلى غيره، ويتكرر الاستحمام والإدهان بالمرهم بضعة بضعة أيام حتى يزول الداء. (٧) الأرضة: الأرضة داء - يسمى باللاتينية تينيا Tinea [٥]- يصيب الجلد أو الرأس أو الأظفار، فيحدث بهما التهابًا وحكة، وهو ينشأ من نمو فطر (أحياء نباتية مجهرية) في هذه الأجزاء وأحسن علاج له النظافة التامة، والأدوية المطهرة كالمراهم الزئبقية والكبريتية وصبغة اليود ونحو ذلك، ولكن يجب قبل ذلك نتف شعر المكان المصاب أو حلقه - والنتف أولى - وكذلك تُغلى الملابس لمنع تكرار العدوى. (٨) السل: سنفصل القول في السل تفصيلاً في باب الأمراض المعدية، إن شاء الله. ويكفي أن نقول هنا كلمة مختصرة في عدواه بطريق التنفس: ينشأ هذا الداء من ميكروب مستطيل الشكل كالعصية ولذلك يسمى باللاتينية باسيلس (Bacillus) أي العصا الصغيرة [٦] اكتشفه البكتيريولوجي الألماني الشهير المسمى كوخ (Koch) سنة ١٨٨٢ م، وهو يوجد كثيرًا في بصاق المصابين بالسل، ويخرج أثناء السعال في ذرات البلغم وينتشر حول المصاب إلى بعد متر ونصف تقريبًا، فيكون الجو حوله ملوثًا به، فإذا دخل مع التنفس في رئة شخص مستعد لهذا الداء أصيب به، وذلك بتكون درنات صغيرة بيضاء اللون في الرئة أو غيرها، وهذه الدرنات تكبر وتتكاثر وينضم بعضها إلى بعض وتُحْدِث فيها تجاويف تسمى بالكهوف، ويحصل سعال شديد مصحوب بدم أو صديد، وترتفع حرارة المريض، وتضعف قواه، وينحف جسمه ويصاب بالأرق من كثرة السعال وغيره بالعرق الكثير بالليل، وقد يحصل له إسهال متعاصٍ، أو بحة في الصوت من التهاب الحنجرة وتقرحها وغير ذلك حتى تنهك قواه فيموت. *** مضار الزنا الاجتماعية هذا وإننا نختم هذا المبحث بذكرى ونصيحة، إذا لم تكن من وظيفة الطبيب من حيث هو طبيب، فهي مما يحسن منه من حيث هو إنسان، وهي التحذير من مضار الزنا الاجتماعية، وليس من غرضنا التكلم عليها هنا تفصيلاً - كما قلنا - إلا أننا نُذَكِّر الناس إجمالاً بحقيقة لا تعزب عن عقل المفكر: تلك أن الزنا يُفقد المحبة الأبوية لنسل الزانيات، فلا يهتم المرء بحياة الأطفال، ولا بصحتهم، ولا بتربيتهم، ولا بمستقبلهم اهتمام من يعلم أن المولود هو ابنه، حتى يؤثره على نفسه في كل شيء غالبًا، فيكثر بسبب ذلك موت الأطفال أو قتلهم، وتسُوء صحتهم وتفسد أخلاقهم، ويصبحون عالة على المجتمع، أو متشردين مفسدين، ولا تحسن الأم وحدها القيام بتلك الشؤون على ما لديها من الشواغل والصوارف عنها، كتحسين منظرها وملاقاة الرجال المتنوعين، والملق لكل منهم، والتحبب إليهم، فهذه الشؤون لا تدع لها وقتًا، ولا قلبًا توجهه إلى شيء آخر، ولذلك ترغب الزانيات عن النسل ويقتلنه إذا وجد، أو يلقين به في الطرقات، وفي ذلك من الأضرار بالأمة ما فيه، زد على ذلك أن الزنا يُحْدِث البغض والحقد والحسد بين الأفراد والبيوت، ويقطع كل رابطة للمودة والرحمة بين المرء وزوجه، ويحمل الناس على خيانة بعضهم بعضًا، وعلى الكذب ويضيع الحقوق في المواريث المالية وغيرها، فتفسد الأخلاق، وتكثر الشحناء والمخاصمات التي تسفك فيها الدماء، وتستباح الأموال والأعراض، فتتنافر الأمة ويتناقص عددها، وتزول روابط المحبة من بين أفرادها، وفي ذلك هدم وإزالة لعزها وسلطانها، وتقويض لدعائم بنيانها، فتهوي في مهاوي الفساد حتى تستقر في الدرك الأسفل من الفقر والضعف والانحطاط والتأخر لذلك وصف الله تعالى الزنا بقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} (الإسراء: ٣٢) لِمَا يُوجِده بين الناس من البغض والحقد والكره فيهدم أركان الأسرة أولاً، والأمة ثانيًا، والمجتمع الإنساني ثالثًا. *** اللواط الأمراض التي تنشأ عنه، هي عين الأمراض السابقة تمامًا، وتزيد عنها غالبًا في إحداث جروح في الذكر وفي الشرج، وإذا تضاعفت هذه الجروح ببعض الأمراض نشأ عنها ما لا تُحْمَد عقباه، وترتخي عضلات الشرج حتى قد يسهل نزول البراز وغيره بغير إرادة الإنسان، وهو مفسد للأخلاق، ومبيد للشهامة والرجولية، وقاضٍ على الآداب كافة، وما انغمست فيها أمة إلا انحطت وتدهورت لتخنث رجالها، وذهاب نجدتهم، ومروءتهم، وهمتهم، فلا تصلح بعد ذلك لمقاومة أعدائها؛ فيتغلبون عليها وتبيد شيئًا فشيئًا، زد على هذا أن الرجال المنغمسين في تلك الشهوة الدنيئة يقل ميلهم إلى النساء كثيرًا؛ فيقل عدد الأمة فتضعف أيضًا من هذه الوجهة، نعم إن اللواط أخف ضررًا من الزنا من وجهة واحدة اجتماعية، وهي أنه لا تضيع بسببه الأنساب، ولا توجد به اللقطاء، فهو أقل بذلك إضاعة لحقوق العباد والأولاد، أما تحريمه فيكفي في بيانه ما ورد في القرآن الشريف في قصة لوط، وأما حده فقد ورد فيه قوله تعالى على أصح التفاسير: {وَالَّلذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا} (النساء: ١٦) الآية , فلوِليّ الأمر أن يؤذي أهل اللواطة بما يتفق عليه الأمة من العقاب الرادع لأهل هذه الطائفة المحتقرة الدنيئة. وقد أجمعت الأمم على استقباح هذه الشهوة البهيمية حتى سماها الإنجليز (الرذيلة المغايرة للطبيعة) [Unna tural Vice] . *** سن الزواج بالفتيات كتبت مقالة بهذا العنوان حينما أراد أحد المحامين المصريين (زكريا بك نامق) أن يطلب من الحكومة سَن قانون تحدد فيه سِن الزواج للبنات بالسنة السادسة عشرة، ولاشتمال هذه المقالة على عدة فوائد تناسب الفصول السابقة في الكلام على الجهاز التناسلي أردت إثباتها هنا لإفادة قراء محاضراتي هذه وقد أنصف هذا المحامي الفاضل فكف عن اقتراحه هذا بعد ظهور مقالتي هذه في الجرائد ومقالات غيري من أفاضل الأطباء والفقهاء و [سحبه] بعد أن قدمه للجمعية التشريعية. وهاك نص مقالتي كما نُشرت في عدد ١٠٩٥٦ من جريدة الأهرام الصادر يوم الخميس ١٢ مارس سنة ١٩١٤ - ١٥ ربيع الآخر سنة ١٣٣٢: لما لهذا الموضوع من العلاقة الكبرى بالشريعة الإسلامية الغراء، وبالمسائل العلمية والاجتماعية والقانونية أردت أن أمحصه تمحيصًا، وأحرر مسألته تحريرًا، ليصل حكمنا فيه إلى نتيجة نافعة لأمة مبنية على أساس متين من البحث والنقد حتى لا يكون مبنيًّا على التسرع، وحب التقليد فأقول: من المعلوم أن سن البلوغ تختلف باختلاف حرارة الجو والبيئة والوراثة، ففي الهند مثلاً كثيرًا ما تبلغ الفتاة في السنة التاسعة من عمرها، ولكن في البلاد الباردة كإنجلترة تجد أن سن البلوغ هو من ١٤ - ١٦ سنة، وفي البلاد التي هي أشد بردًا منها يحصل البلوغ في السنة السابعة عشرة أو الثامنة عشرة، أما في مصر فالغالب أن يكون في السنة الثانية عشرة إلى الرابعة عشرة، وذلك في مثل مديرية الجيزة لا في مديرية أسوان، وللبيئة أيضًا تأثير في زمن المحيض، فإنك ترى أن الفتيات اللاتي يكثرن من الاختلاط بالشبان يُسرع مجيء المحيض إليهن، وكذلك اللاتي يكثرن من قراءة الروايات الغرامية ونحوها ومشاهدة تمثيلها، أما الوراثة فهي تؤثر أيضًا في قرب زمن البلوغ، فإذا بلغت الأم وهي صغيرة جدًّا كانت ابنتها مثلها في ذلك. وفي سن البلوغ يكبر الحوض، ويظهر شعر العانة، وتكبر أعضاء التناسل والثديان، وتستعد المرأة للقيام بوظيفتها التناسلية التي خُلقت لأجلها، وقد اتفقت كلمة علماء التشريح على أن نمو عظام الحوض الذي من شأنه أن يؤثر في سعة أقطاره يتم في زمن البلوغ أو بعده بقليل، وذلك لا ينافي أن التحام عظام الحوض لا يتم إلا في نحو الخامسة والعشرين غالبًا، وإذا حملت المرأة لانت مفاصل حوضها، وتمددت لا فرق في ذلك بين الصغيرة والكبيرة، وإنما إذا تأخرت المرأة في الزواج يبست عضلات العجان والرحم، وربما نشأ عن ذلك إجهاض أو عسر في الولادة بسبب عسر تمدد هذه الأجزاء التي تفقد مرونتها الطبيعية كلما كبرت البنت، ويغلب العقم أيضًا فيمن يتأخرون عن الزواج. وقد وجد بعض الباحثين مثل (بروس ودنلوب) في بلاد الحبشة والبنغال أمهات لا يزيد عمر إحداهن عن إحدى عشرة سنة، وكذلك وجد في أوربة - وإن كان ذلك قليلاً - أمهات ولدن أولادًا أصحاء في السنة الثالثة عشرة من عمرهن، حتى وجدوا بنتًا حاملاً في سويسرة في السنة التاسعة، وظهور الحيض في هذه السنة ليس نادرًا في أوربة كما تقول كتبهم. لذلك كله ولغيره اعتبرت الشريعة الإنكليزية مثلاً أن السن القانونية للزواج (عندهم) هو ١٤ للذكور و١٢ للإناث، أما زواج الأطفال القاصرين فتعتبره صحيحًا بشرط أن لا يبدو من الطرفين إذا وصلا إلى سن البلوغ طعن في العقد السابق (راجع صفحة ٥٦ من كتاب أصول الطب الشرعي لمؤلفيه جاي وفرير الإنكليزيين) ، فمن أعجب العجائب بعد ذلك أن يقوم بعضنا في هذه الأيام ويطلب تضييق شريعتنا الإسلامية الغراء بما لم يفعله الإنكليز في بلادهم الباردة، وهم أرقى منا بكثير في سائر شؤونهم العلمية والمدنية والاجتماعية! ! أما زعم هؤلاء المضيقين أن الفتاة إذا تزوجت قبل تمام نموها وقف هذا النمو فهو غير صحيح، بل تكذبه المشاهدة العامة، فإن الحمل لا شك يسرع في تمام نمو الجسم كله؛ ولذلك تجد الفتاة بعد الولادة يكبر جسمها بأسرع من الفتاة التي لم تتزوج، أما دعوى أن الفتاة إذا حملت وهي صغيرة ضعف جسمها عما إذا حملت وهي كبيرة فهي غير مُسَلَّمة، ولا يمكن إثباتها إثباتًا قطعيًّا، وإنما هي دعوى يرددها بعض الأطباء تقليدًا لبعض بلا بحث ولا تمحيص، فإن الفتاة الكبيرة تكون ليبس أعضائها أكثر عرضة للعقم وللإجهاض أو عسر الولادة من الفتاة الصغيرة - كما سبق- ولا يخفى ما ينشأ عن الإجهاض وعسر الولادة من المضاعفات المرضية كفقر الدم الشديد بسبب النزف الرحمي والتمزقات العجانية وما يتبعها كالنواصير وسقوط المهبل أو الرحم وغير ذلك، بل ربما قضت المرأة نحبها في الإجهاض أو الولادة العسرة، نعم إن الطفل المولود من الفتاة الصغيرة يكون في أول الأمر أصغر جرمًا من الذي ولد من الفتاة الكبيرة؛ ولكنه لا يكون أقل صحة منه، وصغر حجمه هذا لا يلبث طويلاً بل يزول شيئًا فشيئًا. مدة التربية: أما علم الوالدة بتربية الطفل فذلك يتوقف على مقدار ما اكتسبته في هذا الموضوع ودرجة صلاحيته وسهولة تلقينه لها أثناء دراستها المدرسية أو البيتية، فإن كانت تلقت شيئًا نافعًا في هذا الأمر، ولو كان مختصرًا أفادها أكثر من التي قضت سنين عديدة من حياتها الأولى في دراسة الجغرافيا مثلاً والهندسة والجبر. وإذا كانت الطبيعة لم تبخل على الفتاة الصغيرة بإعطائها الحمل والولد فكيف نحظر عليها الزواج، ولسنا أعلم باستعدادها، ولا أشفق عليها من الطبيعة [٧] ، وأي شيء جرى عليه الناس طِبْق سنن الكون ونواميس الوجود وكان ضرره غالبًا على نفعه، ومحققًا كما يدعون في هذه المسألة؟ أليس التضييق الذي يطلبونه مصادمًا للشرائع الإلهية، والقوانين الوضعية، بل والسنن الكونية؟ فأي دليل قطعي عندهم عليه يعتمدون؟ . أما مضار تأخير زواج الفتاة بعد بلوغها في السنة الثانية عشرة أو الثالثة عشرة كما هو الغالب عندنا في مصر، فمنها زيادة الشهوة عندها التي قد تفسد أخلاقها أو تجرها إلى الفسق أو الألطاف (استمناء المرأة بيدها) أو السحاق وكلها أشياء يشتد الميل إليها في أول البلوغ؛ ولذلك يكثر وجودها في البلاد التي تتأخر فيها البنات عن الزواج، ولا حاجة بي هنا للتكلم على ما ينشأ عنها من المضار والمفاسد فإنها معروفة شهيرة، والإمساك عن الجماع مع فرط الشهوة مضعف للجسم والأعصاب مؤدٍّ إلى سوء الخلق، وضعف العقل، مورث للهستيريا، أو الجنون، والشقيقة، وعسر الطمث، وغير ذلك. وهناك بعض أسباب كثيرًا ما تحمل الناس على التعجيل بالزواج كالفقر أو فقد من يقوم بشئون البنت وتربيتها وكفالتها وحفظها من الوقوع في مهاوي الدنس والعار، ولذلك نرى أن الشريعة الإسلامية وغيرها كالإنكليزية أباحته في جميع الأعمار حتى للأطفال، إلا إذا كانت البنت غير مطيقة للجماع، فيحرم في شريعتنا تسليمها للزوج حتى تطيق، وإذا عقد أولياء الأمر على طفل وطفلة أباح لهما الإسلام فسخ العقد إذا بلغا، ما لم يكن الذي تولى الأمر الأب أو الجد فإنهما أدرى الأولياء وأعلمهم بمصلحة البنت، وأشدهم محافظة عليها، وأكثرهم رغبة في نفعها الصحيح، وإبعاد كل ضرر عنها، فأي عيب في هذه الشريعة حتى أردنا الخروج عنها، والاشمئزاز منها، مع أنها تشبه شريعة الإنكليز في ذلك، وهم من أرقى أمم الأرض الآن! ! وإذا علمت أن سن البلوغ تختلف باختلاف البلاد، وأحوال أهلها تبين لك السبب في عدم تحديد الشريعة الإسلامية لهذه السن لشرطت بل اشترطت الإطاقة، ولم تمنع العقد على الأطفال، لما في ذلك من المنفعة للناس، كأن يريد شخص أن يضمن لنفسه الانتفاع بمال بنت، أو جاهها، أو الانتساب إلى بيتها، أو نحو ذلك، أو يكون له غرض آخر كالرغبة في النفقة عليها، وإحسان تربيتها لجمالها، أو لفقدها الأهل والمعين من أقاربها. وبسبب سرعة البلوغ في البلاد الحارة كالهند، وبلاد العرب فشت في الشرق عادة تزويج البنات الصغار كما هو معلوم حتى أن عائشة - رضي الله عنها - كانت خطبت قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمرها سبع سنوات لجبير بن مطعم بن عدي، وهو يدل على أنها كانت قد قاربت البلوغ في تلك السن؛ ولذلك عقد عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقتئذ، ودخل عليها في التاسعة من عمرها، فالظاهر أنها كانت قد بلغت حينئذ كما هو الغالب في بنات العرب، وأهل الهند، وغيرهم من أهل الشرق كما سبق بيانه. أما المضار التي يذكرها المضادون لذلك الزواج، فهي في الحقيقة ناشئة عن أحد أمرين أو عنهما معا (الأول منهما) الدخول بالبنت قبل الإطاقة، أو قبل البلوغ (الثاني) طريقة المصريين الوحشية في افتضاض البكارة، حتى أني شاهدت مرة بنتًا كادت تموت بنزيف شديد من تمزق في مهبلها نشأ من إصبع زوجها الوحش القاسي؛ ولكن العيب في ذلك ليس على الشريعة نفسها، بل العيب إنما نشأ من الجهل والقسوة وعدم التزام حدود هذه الشريعة الغراء التي فيها الكفاية لتقويم المعوج. وهناك فوائد أخرى غير ما تقدم لتزويج الفتيات الصغيرات البالغات (منها) أنهن يحرضن الشهوة في ضعاف الرجال، حتى أنهن يكن سببًا في تقوية أجسامهم وعودة الحياة إليهم، فتزيد قوة الباه عندهم، ويتحسن نسلهم، وقد عرف ذلك الأقدمون، حتى أنه ذكر في الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى أن داود - عليه السلام - شاخ، وكانوا يدثرونه بالثياب فلا يدفأ لشدة ضعفه فأشار عليه عبيده بإحضار فتاة جميلة لتحضنه ليدفأ، ففعل ذلك وعاش بضعة شهور مع أنه كان في غاية الضعف والبرودة والاضمحلال (راجع الإصحاح الأول والثاني من سفر الملوك الأول) ، وكذلك فعل الإمبراطور (طيباريوس) ليستعيد جسمه الضعيف حرارته الأولية، وقد أشار (بورهاف) الشهير على عمدة بلدة (ساردام) الذي كان مبتليا بالنقرس بأن يبيت مع بنات فتيات، ولما عمل بمشورته تحسنت حاله، وزال مرضه (راجع صفحة ٤٦٢ من كتاب تاريخ الإنسان الطبيعي) ، وقد جربوا ذلك العلاج أيضًا في الروماتزم المزمن للشيوخ، فأفاد كثيرًا بعد أن يئسوا من الطب والدواء، وقال الكتاب المذكور ما محصله: (إن مساكنة البنات الفتيات ذوات الدم الوافر، والصحة الجيدة يتطاير منها نشأة منعشة تخترق جسم الشيخ الجاف، وتسخن دمه الضعيف الفاتر، وتحرك فيه الأعضاء الذابلة) . وذكر بعض العلماء أن من الشيوخ من اسود شعره، ونبتت أسنانه مرة ثالثة بعد سقوطها بسبب معاشرة الفتيات الصغيرات، وعادت إليه قوة الجماع، ولا شك أن صحة البنات في وقت البلوغ تكون أحسن منها في جميع الأوقات الأخرى؛ فيؤثرون في الرجل تأثيرًا قويًّا مصلحًا؛ فينتفع هو؛ وينتفعن هن بماله، أو جاهه خصوصًا إذا كان من أصحاب الملايين، أو الملوك، وإذا تزوج رجل مسن بعجوز مثله ساء نسلهما جدًّا بخلاف ما إذا كانت هي صبية. هذا وليعلم القارئ أني لا أذكر هذه الأمثلة هنا لكوني ممن يريد أن ينفض الشيوخ عيش الفتيات بالتزوج بهن كلا! بل الغرض من ذكرها تتميم البحث، وبيان فوائد زواج البنات البالغات الصغيرات، واستقصاء تلك الفوائد كلها. والخلاصة أني أرى أنه ليس من الصواب تحديد سن الزواج بالسنة السادسة عشرة من العمر، بل الأصوب عندي أن توضع طريقة تحمل الناس على شدة مراعاة حدود الشريعة الإسلامية، وأن يتركوا عاداتنا المصرية القاسية المعروفة في الزواج، وإن كان لا مندوحة عن التحديد، فليكن ذلك بعد بلوغ البنت بسنة، أو ليجروا في ذلك حسب القانون المصري الحالي في مسألة عقوبة الفسق، بأن يجعلوا سن الزواج (١٤) سنة فما فوق، وهذا هو رأيي بإخلاص، والله ولي التوفيق، الهادي لأقوم طريق. ((يتبع بمقال تالٍ))