للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحد علماء حلب


الطلاق في الإسلام [١]

إن إباحة تفارق الزوجين هي نقطة متوسطة بين التغالي في الإطلاق
الموجودة في الزنا الذي هو صحبة ساعة، وبين التغالي في القيد الذي هو التزام
عدم انفكاك الاقتران مدى العمر، وحد وسط بين طرفي الإفراط والتفريط كما هو
مشرب المنهج الإسلامي في كل الأمور، وفيه تسهيل للزواج والمناكحات الرادعة
عن الالتجاء للزنا يستصعب الزواج إذا لم يمكن الفراق، وإننا لا ننكر ما في
التفارق من المضار التي ربما تحدث عنه؛ ولكنها لا ترجح عما فيه من المنافع
التي تستلزمه عند الموازنة الصحيحة، ولا يخفى أن ما تساوى طرفاه نفعًا وضررًا
فالشأن فيه الإباحة التي هي الأصل في كل أمر، وجانب الإطلاق مرجح عن جانب
القيد إذا تساويا.
هذا وإن الطلاق كذلك إذا لم يكن لعذر، أو إلجاء ضرورة فليس بمباح تمامًا
كسائر المباحات في الشرع الإسلامي، بل هو من قسم المكروهات التي لا
يستحسنها الشرع الإسلامي، ويُعتبر الطلاق شأن السفهاء؛ لأن الشرع الإسلامي
ينهى عن الجفاء بكل أنواعه، ويحث على الشفقة والإنصاف والمروءة وحفظ الوداد
والعهد، وإنما الطلاق لا بأس به إذا لم يمس بشيء من هذه المذكورات؛ أي: إذا لم
يكن فيه مخالفة للإنصاف والمروءة ... إلخ، فلا يكون الطلاق حينئذ إلا كناية عن
فَرَج، ومخرج من ضنك المعيشة التي ربما تحدث بين الزوجين، ولا مناص عنه إلا
بافتراقهما واستغناء كل منهما عن الآخر، أو استعواضه من هو خير له منه؛ إذ
ربما يبقيان على كره منهما أو أحدهما، فيكون نكد العيش الدائم لولا الطلاق.
أترى إذا كان الرجل عنينًا والمرأة شابة حسناء، وصار هو يحب الانفراد
والانزواء، وصارت هي تميل لإتيان ما تأتي النساء، ولم يكن لأحدهما حاجة
بالآخر، فعلام نلزمها بالتزام ما لا يلزمهما من الحجر الدائم عن مبتغاها؟ أرأيت
إذا تباغضا لأسباب ما؛ فعلام نلزم كلاًّ منهما بالتزام صحبة بغيضة مدى عمره؟
أرأيت إذا علم الرجل أن امرأته زانية وأراد أن يفارقها بدون أن يفضحها، ويثبت
عليها ما يخل بشرفها، أرأيت إذا عجز عن إثبات ما علمه من إتيانها الزنا فكيف
نجبره على هذا الضيم؟ ولقد رأينا كثيرًا في بلادنا ممن يتدينون بتحريم المفارقة
بدون ثبوت الزنا، يعلمون الزنا من نسائهم ولا يقدرون على إثبات ما علموه،
فيمكثون على هذا الضيم مدى عمرهم، كاتمين غيظهم بالرغم عنهم، فلمثل هذه
الحكم إباحة الطلاق لا لأجل محض الشهوة.
ولذلك لا ترى من أهل الإسلام المتربين على فضائل الأخلاق الإسلامية من
يطلق زوجته لغير عذر مقبول من مثل هذه الأعذار، فإن قيل: (فعلى هذا ينبغي أن
يكون إبطال عقد الزواج متوقفًا على رضا كل من الطرفين معًا كسائر العقود، أو بيد
كل منهما؛ فأيهما لم يطب عيشه لدى صاحبه يفارقه، لا أن يكون الرجل هو المالك
لذلك دون المرأة) فنقول: ليست أصول تفارق الزوجين في نظام الإسلام كما يتوهمه
الغالط، بل إن تفارق الزوجين إما أن يكون بإبطال عقد الزوجية وفسخ المقاولة بحيث
يرد كل منهما ما تملكه بالعقد، فتسترد المرأة ما ملكته للرجل من إباحة نفسها له دومًا
واختصاصه بها، ويسترد الرجل ما جعل لها من المال بمقابلة هذه الإباحة الدائمة كله
أو بعضه بحسب ما يتراضيان عليه حين التفاسخ، فهذا التفارق بالتفاسخ يتوقف على
رضاء الطرفين كسائر العقود ويسمى هذا النوع بالخلع أو المخالعة، وإما أن يكون
تفارق الزوجين على صورة الطلاق، وهي أن يترك الرجل حق استباحته الدائمة
للمرأة مع استكمال المرأة كل ما جعل وشرط لها من المال والنقد، فهذا أمر موكول
للزوج إلا إذا شرط في أصل عقد الزواج بينهما أن يكون للمرأة أيضًا حق تطليق
نفسها من الزوج، فيراعى هذا الشرط.
وحينئذ متى شاءت طلقت نفسها واستردت تمليك بُضعها الدائم لزوجها بدون
أن يسترد هو شيئًا، أو أن يمتنع عن تأدية ما شرط لها حين العقد، وبذلك تعلم أن
أصول المفارقة بين الزوجين منظور فيها لصورة أصل عقد الازدواج وصورة
نقضه وانفكاكه، وأن ما شرط في أصل العقد مرعي وليس للزوج إلا الرجحانية
على المرأة بأنه إذا لم يشترط في العقد شيء كان أمر الطلاق بيده دونها، وحيث
كان هذا أمرًا معلومًا مشهورًا بين سائر أفراد الملة الإسلامية، فيمكن لكل امرأة أن
تشترط في زواجها أن يكون أمر طلاقها بيدها، فتساوي الرجل في هذا الاستحقاق؛
وإنما كان أكثر النساء لا يشترطن ذلك لعدم الثقة منهن أن يتثبتن كتثبت الرجال
على محافظة بقاء الزوجية؛ لأنهن بمقتضى تركيبهن الطبيعي أقل احتمالاً وتصبرًا
وأشد خفة وطيشًا من الرجال، وأسرع تأثرًا بالغضب لرقة بشرتهن ونقاوة عصبهن،
وكثيرًا ما يستفزهن الغضب من سبب جزئي لإيقاع الطلاق بدون استيجاب السبب
له، فيوقعن الطلاق في حال استيلاء الحدة عليهن، ثم يندمن على ما فرط منهن،
فلو اُشترط الطلاق لهن دائمًا لفشا وقوعه، وكثر توقعه، مع أن كثرة وقوعه بغير
السبب الداعي يستوجب الندامة، وكثرة توقعه مخل بانتظام الراحة والتئام الألفة
الروحية، وهو متوقع من جانبهن أكثر من توقعه من جانب الرجال.
ولذلك كانت الأرجحية للرجل على المرأة في الطلاق بأن الأصل فيه أن يكون
بيده دونها إذا جرى العقد على غير اشتراط شيء، وللمرأة ما يقابل هذه الرجحانية
التي للرجل، وهي كون المهر الذي هو كالثمن يلزم من جانبه لها لا من جانبها له،
وكذلك كل ما يقضي لها من النفقة أسوة أمثالها والمصارف البيتية عائدة عليه دون
أن تكلف هي بأدنى شيء، حتى إن عليها أن يقدم لها الطعام مطبوخًا مهيئًا بدون
أن تتكلف بطبخه، وليس له أن يكلفها بشيء من الخدم الشاقة أو السافلة مع أنه
مكلف بتكبد المشاق في سبيل الكسب لأجل النفقة عليها إلا إن سامحته ببعض نفقتها
أو سايرته بالتزام ما لا يلزمها من بعض خدمتها، وعليه كل نفقة ما يولد لهما من
الأولاد حتى ليس له أن يجبرها على إرضاع ولدها، بل عليه أن يستأجر له
مرضعًا غيرها إذا امتنعت هي عن إرضاعه.
ولا يخفى أن الأرجحية التي أعطيت للمرأة هي الأنسب بضعفها، والأرجحية
التي أعطيت للرجال هي الأنسب بقوة تثبتهم، لا سيما وأنه قد دفع المهر الأول،
ثم يلزمه عند المفارقة دفع المهر المؤخر، فقل أن يسمح الرجل بتضييع هذه
الأموال التي يدفعها في المهر الأول والمهر الثاني بدون سبب ملجئ وداع قوي،
وحيث كان الأصل في نظام الزوجية أن يدفع الرجل للمرأة ما يرضيها من المهر
أسوة أمثالها، وأن يشترط لها عند المفارقة مهرًا ثانيًا كان الأصل في المفارقة التي
تقتضي خسارته في هذه الأموال دونها أن تكون موكولة إليه، ولا يخفى على
المنصف المتبصر مناسبة الأصلين في الجانبين ولياقتهما بحال الطرفين، فلا يقال:
لماذا لم يكن الأصل في الزواج أن يكون المهر من المرأة والرجحانية لها في أمر
المفارقة؟ أو أن يكون بدون مهر ولا رجحانية لأحدهما على الآخر في شأن الطلاق،
بل أي منهما أراد الطلاق أوقعه؛ لأن المرأة إذا ملكت أمر الطلاق كذلك أكثرت
إيقاعه رغمًا عن الزوج، وليس كذلك الرجل، ولذلك لا تكاد ترى من يطلق زوجته
إلا بعد نفورها، وطلبها الطلاق، أو تسببها له، كما أن الرجل بحسب ما فيه من
زيادة الاستعداد الطبيعي للكسب ينبغي أن يكون هو المعيل للمرأة، فلذلك كان عليه
المهر والنفقة.
نعم قد يكون الأنسب بحال الطرفين بالنسبة لبعض الأفراد مخالفة هذا الأصل،
وحينئذ يمكن الجري على خلافه بواسطة الاشتراط؛ وإنما كان هذا الأصل بالنظر
لما هو الأصلح بالنسبة لحال الأكثر، ثم إن من لم تشترط الطلاق لنفسها، ولا
يمكنها مفارقة زوجها عن أمرها إذا ظلمها حقها بعدم إيفاء ما يترتب عليه لها، أو
كلفها فوق ما يترتب له عليها ترفع أمرها للحاكم، فينهى الزوج، فإن لم ينته يجبره
على طلاقها، أو يفرق بينهما مع تغريم الرجل كل ما أعطاه وشرطه لها حين العقد،
فيكون حكمها كحكم من اشترطت الطلاق لنفسها فلا يتمكن الرجل من ظلم المرأة،
ولا المرأة من ظلم الرجل ولا يجبران على ضيم بكل حال، ثم إنهما مهما تفارقا
فلهما أن يتلافيا ما فرط منهما ويتراجعا اهـ. بالحرف.

(المنار)
نشرنا المقالة بحروفها على ما فيها من الخطأ اللغوي لما هي عليه من الصواب
والسداد في المعنى والإبانة عن محاسن الحنيفية السمحة. لله در كاتبها الفاضل، وقد
كنا نتذاكر في مسألة الطلاق مع صاحب الدولة رياض باشا فقال: زاد علينا الإفرنج
المنتقدون في التوسع بالطلاق؛ حتى قرروا أخيرًا أن يستقل به كل من الرجل والمرأة
بعدما كان مشروطًا عندهم باتفاقهما.