من تقتيل وتصليب ومخمصة ونفي مشاهدات ومجاهدات شاهد عيان هو الأمير شكيب أرسلان
(٣) تشنيع الكاتب على جمال باشا بالآستانة: وما وصلتُ إلى الآستانة حتى بدأت بشرح ما جرى في سورية من أفعال الشدة والقسوة وإرهاف الحد، وذكرت ذلك في جميع المراكز بدون استثناء، ولا يوجد تقريبًا واحد من كبار رجال الدولة القدماء أو الجدد إلا وهو يعلم أنني كنت منتقدًا إدارةَ جمال في سورية مشددًا النكير على الدولة في إرخائها العِنان لهذا الرجل إلى هذا الحد. ويصعب عليَّ الآن استقصاء شهودي على ذلك، سواء من الفئة المعارضة للاتحاديين أو الفئة الموافقة لهم؛ فإن ذلك يطول جدًّا، وإنما أجتزئ بالاستشهاد بجلالة السلطان وحيد الدين نفسه، الذي بقيت بين يديه أكثر من ساعتين أبسط له ما حدث في سورية من الأمور، وأبيِّن له وجه الظلم والخطأ فيها، وكذلك بولي عهد السلطنة الأمير عبد المجيد أفندي الذي تكلمت معه في هذا الشأن مرارًا، وكان كل منهما يتنفَّس الصعداء، ويتأوه، ويعِد ببذل جهده بإصلاح الأمور، وإيتاء العرب حقوقَهم، وإنصافهم من ظالميهم، وذلك عندما تضع الحرب أوزارها، وينتصب الميزان، ويبدأ بالحساب. وبقيت في الآستانة من أوائل سنة ١٩١٧ إلى نهاية الحرب، واستحضرت عائلتي إليها، وتحملت نفقات الغربة؛ حتى لا أعود إلى سورية وجمال باشا فيها، مع أنني كنت أصرح أمام الجميع أنني من جهتي الشخصية لا أقدر أن أشتكي منه بشيء، بل يجب عليَّ الشكر له لمزيد الرعاية وبالغ العناية اللتين كنت أراهما منه نحوي، وإنما أشكو بطشه وعنفه وسفكه للدماء وشدة استبداده، وما يعود بذلك من الضرر بالدولة وبالجامعة العثمانية. ولما حضرت إلى ألمانيا أول مرة سنة ١٩١٧ سعيت بإقناع الألمان في طلب صرفه عن سورية، وكان لهم بذلك يد، وأرسلوا الجنرال (فالنكنهاين) قائدًا لفلسطين، وقطعوا علاقة جمال بالجيش المرابط فيها، وما زال نفوذ جمال يقل ودائرة اختصاصه تضيق، إلى أن طلب هو الرجوع إلى الآستانة، وذلك قبل دخول الإنكليز بقليل، ولما جاء إلى الآستانة، ووجد النكير عليه عامًّا - كان كمَن استيقظ من منام، وتبدَّل مرارة الحقائق بحلاوة الأحلام، وربما تذكَّر ما كنت أنحله إياه من النصيحة، وأنهاه به عن الشدة والبطش، ولا سيما عن القتل؛ لأنه غير قابل التلافي، وما شعرت يومًا إلا وأحد أصحابي وأصحابه يتكلم معي في الذهاب إلى نظارة البحرية للسلام على جمال باشا، ويلح جدًّا بذلك، فقلت: ليس بيننا أدنى شيء يوجب النفور شخصيًّا، وإنما كان النفور منبعثًا عن اختلاف في الرأي، وإنه كان يرى الشدة ضرورية لحفظ سلامة المملكة، وأنا كنت أرى الذي أتاه معجِّلاً في تجزئتها، وذهبت، وسلمت عليه، وتصالحت معه، وعاتبني على حملاتي عليه، وقال لي: إن رفقاءه كانوا يقولون له إن شكيب أرسلان بك هو أيضًا في مقدمة الناقدين الناقمين، وهو ممن لا شك في صدقهم، وأنه هو كان يجاوبهم: نعم إنه مخلص، ولكنه رقيق القلب، ويريد أخذ الأمور كلها بالعفو، فدار بيني وبينه جدال طويل، أتذكر منه أنني قلت له: يا مولانا عندما أتيتم بالزهراوي من باريز، وجعلتموه في مجلس الأعيان - كنت أنا منتقدًا هذا العمل، ولكن بعد أن عفوتم عنه، ومضى على ذلك ثلاث سنين - تأخذونه من مجلس الأعيان، وتشنقونه! ، هذا انتقدته أكثر؛ لأنه خطأ أعظم من الأول، ثم لا يكفي شنق الزهراوي بتلك الصورة حتى يُنفَى إلى الأناضول والده البالغ من العمر نحو ٩٠ سنة، فكيف تريد أن لا أنتقد هذه الأعمال، وقد دافع عن نفسه ببعض أجوبة لا تخرج عن التدابير العسكرية التي يعملها كل قائد في أثناء الحرب، وأنا لا أنكر أن جمالاً تصرف تصرف أي قائد أوربي أُودِع إليه أمر مستعمرة آسيوية أو إفريقية، وليس في قواد فرنسا ولا إنكلترة كثير يقدرون أن يرموا جمالاً بحجر كما يقال، أو أن يعيبوا مظالمه؛ لأنهم جميعًا تقريبًا يسلكون هذا المسلك، وأفظع منه، وهذا تاريخ استعمارهم في الهند وفي مصر وفي الجزائر وفي تونس وفي الكونغو ... إلخ أصدق شاهد على ما نقول، وفي الحرب العامة قد جرت من فريقَيْ الدول المتحاربة كلما علت يد فريق على آخر من المناكير والموبقات وغرائب القسوة والوحشية - ما يزيد على أعمال جمال، ولكن جمالاً تركي، عيبه ظاهر، ولا يوجد له ساتر، وأما القائد الإنكليزي أو الفرنساوي فهذا مسموح له عند بعض أبناء وطننا بأن يفعل ما يشاء، فلا يتعرض بذلك لانتقاد أحد منهم، ولو فات الوحوش في أعماله؛ لأنه كما ورد في المثل العامي: (من بيت الفُرفُور ذنبه مغفور) . على أن وجه انتقادنا على جمال هو كوْن سورية ليست مستعمرة ولا الدولة العثمانية هي دولة أوربية؛ فإن الدول المعهودة إذا قدمن عملاً بين يدي العار كان لهن من القوة المادية ومن الثروة ومن البسطة ما يغطيه [١] ، وأما الدولة فليس عندها من القوة ما يغطي عيوبها، ولو فازت ألمانيا وتركيا بهذه الحرب لما وجدت أحدًا انتقد جمالاً من هؤلاء الذين يملئون الدنيا صخبًا عليه اليوم! ، بل يقحمون في زمرته أناسًا أيديهم طاهرة من جميع ما عمله، ولكانوا اليوم ينوهون بمتانة جمال وإقدامه وحزمه! والناس من يلقَ خيرًا قائلون له ... ما يشتهي ولأم المخطئ الهبلُ مسألة محاولة جعْل سورية تركية: قال لي بديع بك المؤيد مبعوث الشام -عقب عودتي إلى الآستانة - إنه يوجد قانون مراد الحكومة إلقاؤه إلى المجلس للمناقشة فيه وتصديقه، وهو يتضمن جواز تبديل أملاك المبعدين بدون تعيين، وأنه بعد تصديق هذا القانون يمكن الحكومة نزع أملاك المبعدين من سورية، وإعطاؤهم عوضًا عنها في الأناضول! ، وكان شاع أن جمالاً ينوي هذه النية، وأنه أسس (قومسيون التهجير) لهذه الغاية، وأخذوا بإحصاء أملاك المبعدين، فذهبت إلى نجم الدين بك ملا رئيس الشعبة الخامسة في مجلس الأمة، وحكيت له القصة، فلم يعتقد أن المراد بهذا القانون منفيو سورية، ولكنه أشار عليَّ بمذاكرة طلعت، ثم ذهبت إلى الحاج عادل بك رئيس مجلس الأمة، فأشار عليَّ بمراجعة الحكومة، وصرفها عن هذا المشروع قبل طرحه في المجلس، فصادف أنني مرضت بهاتيك الأمة [٢] ، ولزمت محلي، فجاءني سعد الله بك الملا مبعوث طرابلس، وأخبرني أن القانون عند حامد بك مبعوث حلب وقد روجع في تأخيره إلى أن أكون شُفيت من وعكتي، وذهبت إلى المجلس، فأبى، وإنه إن طرح القانون في المجلس خِيفَ تصديقه بالأكثرية، فاضطُرِرْت أن أقوم من فراش مرضي، وأذهب إلى الباب العالي، وكان طلعت تولى الصدارة جديدًا، فلما حكيت له القصة أجابني فورًا: هذا قانون لن يذهب إلى المجلس أبدًا، كن مستريحًا، ثم سحبوه، وانطوت هذه المسألة، التي كنت أنا السبب الوحيد في دفعها، كما يعلم كثير من الزملاء، وما كنت لأتعرض لذكر هذه الخدمة ونشر مكنونات لم يكن في البال إظهارها خوف نسبة التبجُّح لولا تشدُّق بعض الأعداء بما يتشدَّقون به من الافتراء والافتئات، وإذا أراد الله نشر فضيلة طُويت أتاح لها ألسنة أمثالهم. إعادة السوريين المَنفيين: كذلك القرار الأول بإعادة مَنفيي سورية إلى أوطانهم حصلت عليه بواسطة طلعت وخليل ونسيمي وجاويد، ولم يكن لي فيه شريك مطلقًا، وقدمت تقريرًا بواسطة جاويد، أقول فيه إنه لا يوجد أدنى محذور من إعادة هؤلاء المنفيين إلى سورية، وإنني أكفلهم بنفسي كفالة عامة، وأقدم عن كل شخص منهم بمفرده كفالة خاصة من رجل مأمون، فرد جمال هذا القرار، وكان يومئذ لم يزل في سورية، وكان انكسار الإنكليز عن فلسطين في واقعتي غزة الأوليين قد كسب جمالاً جمالاً ورونقًا، فلم يريدوا أن يكسروا كلمته، وقد أنذرهم بالاستعفاء إذا أصر مجلس النظار على هذا القرار، وذهب أنور بنفسه ثاني نوبة إلى سورية ومدحت شكري ناموس جمعية الاتحاد والترقي، ولم يقدرا على إقناعه، فعادا بخُفَّيْ حُنَيْن، وبلغني الخبر، فذهبت إلى طلعت، وقلت له: صح أن جمالاً لم يقبل قراركم فرجاني أن أصبر عليه شهرين فقط، وأنه بعد ذلك ينفذه، ثم أخذ يأذن لأناس من المنفيين بالتنقُّل من مكان إلى آخر، كلما راجعناه في قضية واحد أجاب الطلب. كذلك أنور صار يتعاهد المنفيين بالإحسان والعطاء، وكانت سنين عسيرة أثناء الحرب كما لا يخفى، فأضفت زيادات كثيرة على مرتبات قسم من المنفيين من جبل لبنان كانوا بأسكي شهر وآخرين من المدينة المنورة، كانوا بكوتاهية وعشاق وأزمير وغيرها، وكانت هذه العلاوات كلها من دائرة التشكيلات التي كانت تابعة نظارة الحربية، وكنت في آخر كل شهر أطالب بها، وأرسلها، كما أنني كنت أتردد دائمًا إلى لجنة المهاجرين في الباب العالي أستنجز دفع شهريات المنفيين بأجمعهم، فكانت الدولة تنقدهم كل شهر ١٥٠ ألف ليرة، وكنت أقول لرجال الدولة: ما سمعت أن دولة في الدنيا تشتري عداوة قسم من تبعتها بمائة وخمسين ألف ليرة شهريًّا، اصرفوا هؤلاء الناس إلى أوطانهم يصيروا شاكرين داعين لكم، وتوفّروا على خزانة الدولة أكثر من مليون ونصف مليون ليرة في السنة، ولم يكن أحد يهتم بأمر المنفيين، ويخاطبهم سِوَاي؛ لأن الآخرين يخافون مغبَّة العلاقة معهم، فكنت أقضي ليلي ونهاري في تحرير الأجوبة والبرقيات بقضاء حاجاتهم، وكانت ترِد عليَّ منهم مئات من الرسائل ممن بأزمير ومغنيسية وبروسة وبأليكسر وقره شهر وأسكي شهر وكوتاهية وعشاق وسيواس وتوقات وكنغري وأدرنة. وما زلنا نكافح بلاءهم، ونخفف من مضض غربتهم، إلى أن تحول جمال من سورية إلى الآستانة؛ فأخذ طلعت بتسريح المنفيين تدريجًا. وحدث أن الحكومة احتاجت إلى أصواتنا (أي مبعوثي العرب) في مسألة تتعلق بتحديد مدة الامتياز لشركة حصر الدخان، فاشترطت أنا والمرحوم فقيد الشام محمد باشا العظم أن يطلقوا لنا سراح المنفيين لنعطيهم أصواتنا، وصرنا نعقد بعد ذلك اجتماعات يحضرها جميع مبعوثي سورية، وفي إحدى الجلسات قرر المبعوثون تفويض ثلاثة بمفاوضة الحكومة في شأن المنفيين، وهم المرحوم محمد باشا العظم مبعوث الشام وأبو علي سلاَّم مبعوث بيروت، وهذا العاجز. *** (٤) المجاعة في سورية أثناء الحرب ومَنْ هم المسؤولون الحقيقيون عنها؟ لا جرم أن من أعظم حوادث هذه الحرب ونتائجها على الإنسانية هي المجاعة التي عضَّت بأنيابها كثيرًا من الأمم، وأتلفت مئات ألوف، بل ملايين من النسم، وكان لسورية منها نصيبٌ وافٍ لم يحدِّث التاريخ منذ قرون عديدة بأن سورية أُصيبت بمثله. فقد وصل الأمر إلى أن بعض الناس أكلوا الميتة، وبعضهم فتكوا بالأطفال، وطعموا من لحمهم، وبعضهم اختلط عقله، فذبح ابنته، وأكلها! ، كما حصل لرجل من معلقة الدامور، ولما كان وقوع هذه المسغبة في أواخر دور الدولة العثمانية بسورية كان بديهيًّا أن ينقم الناس أمر هذه المصيبة على هذه الدولة؛ لأن الناس متى حلَّت بهم المصائب ينهالون بالقذف والطعن قبل كل شيء على حكومتهم الحاضرة؛ ولأن سحر الإنكليز والفرنسيس وغيرهم من الحلفاء كان لا يزال ماشيًا إلى ذلك الوقت على السوريين، وكان لهم في البلاد سُعَاة يستثمرون جهالة العامة وأغراض الخاصة في تحويل تبعة هذه الفادحة على الدولة العثمانية خاصة دون سواها، ولما كان المصاب - كما يقال - يغيب عن الصواب كان السواد الأعظم من المصابين ميَّالين إلى تصديق ذلك الحديث المفترى، ثم لما انتهت الحرب بانتصار الحلفاء، وصار الناس في سورية يتزاحمون بالمناكب في مواكب إجلالهم، ويتسابقون على جِيَاد القرائح في ميدان التزلُّف إليهم - كانت في مقدمة أسباب الزلفى قضية هذه المجاعة، يذكرون أهوالها للحلفاء بكرةً وأصيلاً؛ ليُفْضوا منها إلى التنظير بينهم وبين الأتراك بأن هؤلاء أماتوهم جوعًا قصدًا وعمدًا، وقطعوا عنهم الميرة لإتلاف خضرائهم تصوُّرًا وتصميمًا، وأن الحلفاء جاؤوا بعد الفتح والظفر فأغنوهم من فقر، وأسمنوهم من جوع، وآمنوهم من خوف، واندفعت جرائد سورية - إلا ما ندر - تضرب على هذا الوتر، وانبرى كل مَنْ أراد إظهار المودة للحلفاء يسرد قصص المصائب التي صبَّها الأتراك على نصارى لبنان؛ نظرًا لتعلُّقهم بفرنسا، وكيف أنهم جوَّعوهم، وأزهقوا من أرواحهم نحوًا من ٢٠٠ ألف نسمة، كلها ذهبت في حب فرنسا، ولا عجب - فأوله سقم، وآخره قتل - وأنه لولا حب هذه الفئة لفرنسا لكان الأتراك أشبعوها، ولم يهملوها؛ إذ كان الخير والميرة فائضين لديهم، وإنما قتروا على اللبنانيين ليستأصلوهم، أو لينقصوا عددهم نقصًا عظيمًا، يستريحون بعده من وجودهم. وبالاختصار فمائتا ألف (شهيد) هذه كلها تكللت بالشهادة في حب فرنسا لا غير! ... وقد سرت هذه الأوهام إلى أناس من أنفس الأوربيين ولا سيما من الفرنسيس، حتى قرأت لهم في هذا الموضوع كلامًا كثيرًا، وردد صداه مجلس البرلمان الفرنساوي. فاللبناني من هذه الفئة كلما أراد أن يعتد بخدمة لقومه في هذه الحرب قال: ولقد أمات منا الأتراك ٢٠٠ ألف نسمة أثناء الحرب من أجل استمساكنا بعروة الحلفاء ولا سيما فرنسا، ولعدم انحرافنا عن سبيلها، والفرنساوي كلما أراد ادعاء حق في سورية، وحاول تسويغ احتلاله إياها نادَى: ولنا نحن الفرنسيس هناك أصدقاء مرتبطون بنا منذ أحقاب متطاولة، وطالما سِيموا الخسف والهوان من أجلنا، وتحملوا الانتقام والاضطهاد، وناهيك أنه في أثناء هذه الحرب قد أهلك منهم الأتراك مائتي ألف جوعًا من أجل محبتهم لفرنسا! وهكذا تتواتر هذه الكلمات، وَتَتَكَرَّرُ وتُعاد وتصقل وتخمس وتشطر، وكلما جرى ذِكر الحرب العامة، وما أصاب السوريين فيها كانت هذه الدعوى، ويسمونها (التجويع) أول ما يستفتح به الخطاب، ويعتد به من المنن على الحلفاء، حتى إن كثيرين ممن لا يحبون فرنسا ولا إنكلترا إذا طالبوهما بتحرير سورية وتركها لأهلها وذكروا سابقة السوريين في خدمتهما ومناصحتهم للحلفاء في الحرب العامة - جعلوا من جملة هذه الخدمات الجلى والمناصحات المثلى هذا (التجويع) الذي أجراه الأتراك على سورية انتقامًا من أهلها. ولقد آن لكل إنسان يحترم نفسه ويحاسب وجدانه، ولا يرضى أن يكون ذليلاً للباطل وهو يعلمه، ولا أن يقارّ على البهتان وهو يشهده - أن يثور في وجه هذه الأكذوبة التي طال أمرها، وتمادى أجلها، ويعصي سلطة هذه الأغراض مهما كان وراءها من دول وملل، وسيف وقلم، فإن القليل بالحق كثير، وإن العزيز مع الباطل ذليل، وإن الحق أولى أن يُتَّبع، ولو انهزم أتباعه، وإن الضلال لأجدرُ بأن يُتنكَّب، ولو انتصر أشياعه، ولا سيما وإن صولة الباطل ساعة، وجولة الحق إلى قيام الساعة، فإلى متى نداهن الحلفاء بأن الأتراك هم الذين أماتونا، وأنهم هم الذين أحيونا، ونتبصبص إليهم بقولنا إن الأتراك كان بوسعهم أن يميرونا، لولا تعمُّدهم تنقيص أعدادنا، وتقليل سوادنا، وإنهم إنما أماتونا على بيّنة، وأهلكونا، وهم قادرون على استحيائنا، كل ذلك من أجل محبتنا لفرنسا وإنكلترا، والله لقد أصبحنا أُمثولة في العالمين، وأضحوكة في الأولين والآخرين، وجعلنا لسورية في التذلُّل والتملُّق تاريخًا، تضرب به أمثال المتمثِّلين، فكفانا - يا قوم - حربًا لضمائرنا، ومكابرة لحواسنا، إنه ليس المقصود هنا الدفاع عن الترك الذين خسروا من الأمور ما هو أهم من عطفنا ومودَّتنا، وأصبح لا يهمهم حبنا لهم، أو كرهنا إياهم، وإنما المقصود هو تقرير حقيقة، وتحرير واقع، وإبطال نغمة ملَّتها الأسماع، وعافتها الطباع، لا سيما مع شدة إعراقها في الباطل، ومحض صدورها عن الهوى، فإن المجاعة أثناء الحرب كانت عامة شاملة طامَّة غير خاصة محلاًّ دون آخر، وإنما كانت شدَّتها على درجات متفارقة، وذلك على مقدار تحمُّل البلدان وقابليتها، وقد عمت السلطنة العثمانية بأجمعها شرقيها وغربيها، وشماليها وجنوبيها، فلم ينجُ من مخلبها مكان، ولا سلم سكان، إلا أنه مما لا مِرية فيه أن السهول والبقاع التي تكثر فيها البسائط لزرع الحبوب - كانت أوفر تحملاً، وأقل بلاءً من الجبال والبقاع القاحلة التي هي عيال على البحر من جهة، وعلى السهل من جهة أخرى لأجل ميرتها؛ لذلك لا يمكن أن يتصور العقل أن بلدة من الشام أو حلب مثلاً تجوع بقدر جبل لبنان الذي كان ما ينبت من الحبوب يكفي أهله شهرين من السنة فقط، ويضطر لمؤونة العشرة الأشهر الباقية إلى الجلب من البحر، أو من داخل البلاد، أما البحر فإن دول الحلفاء قد سدت أبوابه على الأهالي سدًّا مُحكمًا، فلم تسمح حتى للإعانات الخيرية أن تدخل إلى سورية، لا يقدر أن يكابر في ذلك أحد. وأما الداخل فإن الحبوب التي عاش منها أهل بيروت ولبنان وسكان السواحل عمومًا أثناء الحرب كانت ترد منه وحده، وإن قيل إنه لم يرد من الداخل إلا القليل؛ ولذلك مات ألوف من أهل السواحل جوعًا، فالجواب: مَن قال لكم إن الداخل لم يشتد به الغلاء، ولم يخف أهله من الموت جوعًا! ، وأي عقل يصدق أن أهل الداخل يسمحون بحبوبهم أن تُرسَل إلى السواحل وبغلالهم أن تؤخذ من بين أيديهم، ويكونون هم أنفسهم تحت خطر المجاعة، فقد عالجنا هذه المسألة جيدًا، وتعاركنا مع أهل الشام وحماة وحلب مرارًا أثناء الحرب؛ لأجل المقدار الذي نحتاجه من الحبوب من بلادهم، وكانوا دائمًا يعارضون أشد المعارضة في فتح الباب على مصراعيه، وبعد اللتيا والتي يسمحون بشاحنتين من الحبوب يوميًّا، ويرون ذلك كثيرًا، وكم مرة أصدرت الحكومة التركية الأوامر المشددة المؤكدة بشحن كذا وكذا من الحنطة إلى بيروت ولبنان، وكان مجلس إدارة الشام ومجلس إدارة حلب يملآن الدنيا صراخًا بكوْن بلادهما لا تتحمَّلان إخراج هذه الكميات منها، وإنهم لا يرضون أن يجوعوا هم لأجل أن يشبع أهل لبنان وبيروت والمثل يقول: ابدأ بنفسك، ثم بأخيك، وكانوا يحتجون بأن البلاد الداخلية قد تلقَّت قسمًا عظيمًا من سكان الجبل والسواحل، وآوتهم، وأطعمتهم، ولم تقصر في رِفدهم. فنقول: إن مجالس الشام وحلب وحماة وحمص الإدارية التي هي مركبة من أعيان البلاد من مسلمين ومسيحيين ويهود، هل كانوا يقصدون (التجويع) ، وينوون به استئصال نصارى لبنان؟ وهل سكان السواحل كلهم نصارى؟ لا، إن الإحصاء يثبت أن المسلمين في السواحل إذا اعتبرت كلها منضمَّة مع لبنان يزيدون على النصارى في العدد [٣] ، أفنقول: إن مسلمي الداخل أرادوا إهلاك مسلمي السواحل جوعًا؟ وقد يرد بأن أهالي حلب والشام وحماة وحمص لم يكونوا بمانعين إخراجَ الحبوب، وإنما هم الأتراك الذين كانوا يضعون العوائق. والحقيقة التي لا مرية فيها أن الأتراك كانوا يأمرون بإصدار الحبوب المرة تلو المرة، وكانت المعارضة تقع من أهل تلك الولايات بحجة أن مواسمها لا تكفيها، وأن أهلها أولى بها، فلا يموتون هم جوعًا لأجل شبع غيرهم، وهو كلام معقول لا غبار عليه، وكم من مرة ذهب علي منيف بك متصرف لبنان بنفسه، وعزمي بك والي بيروت بذاته وغيرهما إلى الشام وإلى حماة وإلى حلب، وأقاموا الأيام الطوال يتنازعون مع المجالس الإدارية في تلك الجهات، فأحيانًا يظفرون بشيء، وأحيانًا يعودون بخُفَّيْ حُنَيْن، وبلغ الأمر في الآخر أن صاروا يطوفون بأنفسهم على القرى في تلك البلاد، ومعهم القوة العسكرية لأخذ ما يجدونه من الحنطة قسرًا، فكان الفلاحون يطمرونها في الأرض، ويخفونها بكل وسيلة، وينكرون وجودها، وهذا جمال باشا نفسه - على ما كان عليه من القسوة والغلظة - أصدر أوامر لا تعد ولا تُحصى بإرسال المقادير اللازمة إلى لبنان، وتولى هو بنفسه إرسال كميات عظيمة عدة مِرَار، ولكن تشديد الأوامر وصدورها - ولو ممن اشتهر بقطّ الرقاب - لا يكفيان في إيجاد القمح من العدم، حينما المجاعة تكشر للجميع عن أنيابها، والموت الأبيض واقف على الأبواب. ومن جملة اعتراضات بعضهم قولهم: يا للعجب كيف أن سورية التي كانت تمير أهلها - وتصدر منها حبوب إلى الخارج - تعجز فيما بعد عن ميرة أهلها، ويموت منهم الألوف المؤلّفة جوعًا! ، وهذا الاعتراض يكاد يكون من السخف بحيث لا يستحق الجواب، فإن الذين يقولون مثل هذا القول ينسَوْن الحرب الكبرى، ويغفلون، أو يتغافلون عما كان من نتائجها في كل الدنيا لا في سورية فقط، ولقد أعطت سورية وحدها خمسمائة ألف جندي إلى الدولة هم لُباب الأمة وقوتها، وأصحاب الأيدي العاملة فيها، وأكثر الباقي كان من الشيوخ والنساء والأطفال، وقد يقال: إن قسمًا كبيرًا من هؤلاء الخمسمائة ألف فرّوا من خدمة الأتراك، والجواب أن الفارين كانوا يختبئون فلا يقدرون أن يظهروا، ولا أن يتعاطوا الأشغال الزراعية فلا فائدة منهم، على أن الحرث والزرع لا يقومان بالأيدي العاملة فقط، فلا يقال: ها قد حضر الزارع فحسب، فإن البلاد أعوزها البذر والبقر، وكل ما به قوام الغلة لكون الحرب جرفت أكثر المواشي بما ساقت منها العسكرية لأجل جرّ المدافع وحمل الأثقال؛ ولأجل أكل الجنود على مدة أربع سنوات، واستأصلت حرب ترعة السويس وحدها ٣٠ ألف جمل، كنت أراها بنفسي تموت بالعشرات على الطريق، وأنا عائد من قلعة النخل إلى معان، مع المتطوعين الذين سرت بهم إلى تلك الحملة، ولماذا نعني أنفسنا بسرد هذه الأسباب التي كل أهل سورية يعرفونها، ويعرفون أنها هي السبب الأصلي في المجاعة، وأن الجوع عَمَّ البلاد كلها، فالسهول التي مثل حوران وحمص وحماة وحلب والبقاع والغور ومرج ابن عامر، كان الخَطْب فيها أيسر من الجبال التي كلبنان وجبل القدس، ومن المدن التي كبيروت وصيدا ... إلخ، ولا ننسَ أنه في سنة ١٩١٥ جاء جراد سد الآفاق، وعمّ البلاد كلها، وأهلك الزرع والضرع، ولم يبقَ من بعد بذر كافٍ للمستقبل، فكان من أقوى عوامل الجوع في السنين التي بعدها. إذًا، فالجوع الذي أُصيبت به سورية لم يكن سببه سوء نية الأتراك كما يقولون، بل سببه حالة الحرب العامة والحصر البحري، وذلك الجراد الذي لم يسبق له مثيل، فامتصَّ خير البلاد من أول سنة، وأعثرها عثرة صعبت من بعدها إقالتها، ولقد اشتد الغلاء في جميع القطر الشامي، حتى في دمشق الشام التي كانت منذ وُجدت أزهى بلاد الله عيشًا، وأرخصها أسعارًا، ومات فيها وفي توابعها ألوف من الجوع، ومن الأمراض التي قواها سوء الغذاء، ولكن ليس كما حصل في الساحل؛ لأن درجات الشدة كانت بحسب درجات قابلية الأراضي لزرع الحبوب كما قلنا، وقد بلغ ثمن رطل الحنطة في حوران، وهي أم الحنطة نحو ١٨ و ٢٠ غرشًا ذهبًا، وذلك على البيادر، فماذا تقول في البلاد التي ليست تُقاس بحوران في قليل ولا كثير. (للكلام بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))