للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: كامل باشا


الدولة العثمانية بعد الدستور
وجمعية الاتحاد والترقي

تصريحات كامل باشا في سبب سقوط وزارته
نشر كامل باشا مقالاً طويلاً في سبب إسقاط الجمعية إياه من الصدارة؛ بعد
إخراجه هو ناظر الحربية، واستعفاء ناظر البحرية من الوزارة وهما من أعضائها
وإننا ننشر ترجمته برمته للبيان في الحال والتاريخ في الاستقبال، قال:
كان يوم السبت الموافق ٣١ كانون ثاني (يناير) في مجلس المبعوثان يومًا
عبوسًا قمطريرًا؛ لهبوب إعصار الأفكار، حتى إن بعض الأعضاء ويبلغ عددهم
زهاء السبعين تركوا المجلس وانصرفوا؛ حذرًا من نتائج هذه الزوبعة التي كانت
منحصرة بين جدران دائرة المجلس المذكور، وبينما كان الذين يبلغهم خبرها في
الخارج لا يصدقون بصحة وقوعها، كان الذين داخل المجلس في غاية القلق والتأثر
من السطوة التي يرونها من بعض أناس كانوا يتخللون صفوفهم، ومما كان يلقى
على مسامعهم: من أن تسكين هذا الهياج الذي دام نحو ساعتين، لا يتأتى إلا
بإسقاط الوزارة التي كانت قد ضعفت باستعفاء ثلاثة من أعضائها، وهذا لا يكون
إلا بقرار المجلس على عدم الثقة بها. فلما رأى الأعضاء الحاضرون ذلك، بادروا
لحسم الأزمة على الوجه الذي أريد منهم، وأقروا على عدم الثقة بالوزارة ظنًّا منهم
أنهم خدموا بذلك سلامة الوطن والمملكة، ولم يكن مبعث هذا الهياج إلا المساعي
العظيمة التي بذلت في سبيل إحداثه؛ إذ بعثت البعثات الخصوصية قبل ذلك إلى
أدرنه وسلانيك، فأذاعوا هناك أن الحكومة تقصد إعادة الحكم الاستبدادي، وبذلك
حركوا بعض ضباط الفيلق الثاني والثالث وأهاجوا سخطهم.
ثم أرسلوا باسم هؤلاء الضباط رسائل برقية إلى بعض أنحاء السلطنة، تشير
بأنهم (أي الضباط) مستعدون للوقوف أمام كل حركة تبدر من الحكومة يقصد بها
إرجاع الحكم الاستبدادي، كما أنهم أوعزوا إلى بعض ضباط الأسطول بإرسال
رسالة برقية إلى مجلس المبعوثان، يطلبون فيها عزل ناظر البحرية الذي تعين
بالوكالة، ويبلغون المجلس أنهم لا يعرفون رئيسًا لهم سوى مجلس الأمة العثماني،
وقد تُلي هذا التلغراف في المجلس، وتم لهم بذلك ما يقصدونه: وهو إظهار المملكة
في حالة فوضى أمام الناس. لذلك كنت أردت وقتئذ أن أبين ما بالمملكة من
الأضرار من جراء هذه الأزمة المفتعلة والمقصودة قصدًا، وإن أذيع المسائل المهمة
والأسرار السياسية التي لا ضرر من إفشائها، وإنما رأيت أن أؤجل إيضاح ذلك
إلى وقت آخر أكثر مناسبة منتظرا زوال هياج الأفكار المارّ ذكره، وها قد أتيت
الآن بالإيضاح الموعود مقرونًا بالأدلة الواضحة بقدر ما تسمح لي به الظروف في
الحال؛ وما يفرضه على حب تجنب المحاذير السياسية: لا يخفى أني كنت قد
ذهبت بالذات إلى المجلس النيابي في أوائل انعقاده، وأوضحت أمام الأعضاء
برنامج الوزارة السياسي الذي حاز وقتئذ قبول الهيئة المحترمة ورضاها، ووعدت
الوزارة بأنها تسير على مبدأ هذا البرنامج؛ مع أن القانون السياسي لم يصرح
بشيء عن دعوة الصدر الأعظم وشيخ الإسلام للاستيضاح منهما عن بعض الأمور
وإنما فعلت ذلك بقصد خالص من كل الشوائب؛ تطبيقًا لمصالح البلاد على الحكم
الشوروي الحقيقي، ومراعاة للإدارة الدستورية، ولوضع مثال للمستقبل، ولا
يؤخذ من ذلك أنه يتحتم على الصدر الأعظم أن يحضر إلى المجلس في الساعة
واليوم اللذين يطلب فيهما، كما أنه لا يفهم من طلب تأخير الصدر ميعاد الإيضاح
بضعة أيام أنه يريد بذلك إلغاء هذا الاختصاص الذي أعطاه القانون الأساسي للنظار؛
بناءً على حكمة كبيرة، والوارد في جميع قوانين الدول الدستورية الأساسية. أن
الإصرار في هذا الباب يعد خرقًا صريحًا لأحكام القانون الأساسي. وقد كنت
عزمت عندما وصلتني رسالة الدعوة من رئاسة مجلس المبعوثان في مساء يوم
الخميس الموافق ٢٩ كانون الثاني (يناير) أن أذهب في اليوم المطلوب إلى
المجلس؛ للإجابة على الاستيضاح حذرًا من إخلال الأحوال الموضوعة. ولكنه
جاء في اليوم التالي (الجمعة) رسول من قبل سفير روسيا يخبرني بأن السفير
سيحضر يوم السبت إلى الباب العالي؛ لمقابلتي وللمذاكرة معي في المسألة البلغارية
حسب تلغراف ورد عليه من بطرسبرج، وفى الحقيقة حضر السفير المشار إليه في
اليوم المذكور. فلأجل ذلك ولاشتغالي ببعض مسائل سياسية مهمة، كتبت إلى رئيس
المجلس بإرجاء موعد الإيضاح يوم الثلاثاء المقبل.
وبعد عصر يوم السبت المذكور وردت عليَّ رسالة من رئيس مجلس
المبعوثان، يقول فيها: إنه بناء على بعض إشاعات وصلت إلى مسامع المجلس،
هاجت أفكار الأعضاء، وهو يرى من الضروري ذهابي في الحال إلى البرلمان
لإعطاء الإيضاح اللازم، فكتبت إلى الرئيس جوابًا قلت فيه: إن الإشاعات التي
بلغت المجلس عارية عن الأهمية، وإن لا أصل بالمرة لما قيل من حدوث هياج في
المدينة، وإني سأحضر إلى المجلس يوم الأربعاء. وكان قصدي من هذا الإرجاء:
(أولاً) أن نتوصل بما عندنا من الزمن إلى ربط المسائل السياسية المهمة
الماسة بمرافق الدولة الحيوية؛ بالأصول التي كنا نتصورها إلى هذا اليوم.
(ثانياً) أن أتمكن من استخراج الوثائق الرسمية من محافظها (دوسياتها) ؛
استعدادًا للإيضاح أمام المجلس، ولتقديمها لهيئة المبعوثان بصورة غير علنية، حتى
يقتنع الأعضاء بصفة قطعية بما سأقوله:
ورد بعد قليل رسالة ثانية من رئاسة المجلس، فأعدت جوابي الأول بإيضاح
أكثر فلم يأت بفائدة، بل أرسل أحمد رضا بك بضرورة حضوري إلى المجلس؛
لبيان الإيضاح المطلوب نظرًا لهياج الأمة والمجلس الناشئ من تبديل بعض النظار
وما عقبه من إشاعة الخلع الكاذبة (أي خلع السلطان) واستعفاء بعض النظار،
مما جعل سياسة الدولة في الخارج والداخل في حالة غموض وإبهام.
فلما رأيت هياج الأفكار الذي كان منحصرًا فقط في أعضاء المجلس دون
الأهالي؛ أي لا أثر له في الخارج، باشرت التحقيق في الحال؛ لأقف على الطرق
والمساعي التي بذلت في سبيل إحداث هذا الشغب، وعلمت أنه ازداد عدد الحزب
المعارض لي في المجلس وما تقرر لديهم من أمر معاملتي في حالة ذهابي، مما
يسبب حدوث أمور غير مرضية تحط بقدر مجلس المبعوثان. فتجنبًا لذلك كله
كتبت إلى الرئيس أعلمه بأني مستعد لتقديم الاستقالة من منصبي إلى الحضرة
السلطانية، إذا لم يراع نص المادة ٣٨ من القانون الأساسي، ملقيًا تبعة ما ينشأ من
الاضطراب داخلاً وخارجًا على عاتق الذين كانوا السبب في حدوثها. فلم يأت
الجواب، وحصل ما حصل في المجلس من الأمور الغريبة، وقد جذبت الأحوال
المذكورة أنظار الأجانب الذين كانوا موجودين وقتئذ في دائرة المجلس، واستوقفت
أبصارهم الطرق والوسائل غير القانونية التي اتخذت للوصول إلي إجبار الأعضاء
على التصويت ضدي، وإعطاء قرار بعدم الثقة بي، كما أن شيوع هذه الأمور
التي هي بمكان من الغرابة قد شغل أفكار الجمهور.
وزد على هذه الحالة المخلة بالقانون بصفة خصوصية ذهاب رئيس مجلس
المبعوثان مساء اليوم المذكور؛ وبرفقته بعض أعضاء المجلس إلي القصر
السلطاني، وطلبه من الحضرة السلطانية فَصْلي من منصبي قبل أن أستقيل منه،
وتعيين خلفي الذي رشحته الجمعية (جمعية الاتحاد والترقي) من قبل.
ومن الأمور التي تستدعي دقة النظر المنشور السلطاني الذي استصدره
بتوجيه منصب الصدارة العظمى على حسين حلمي باشا، والذي تلي في الباب
العالي، إذ ورد فيه هذه الجملة بحروفها:
بناء على انفصال كامل باشا حسب الإيجاب من منصب الصدارة، وهو مثل
ما كان يحصل في الزمن الاستبدادي عند فصل الصدور من مناصبهم بناء على
دسائس أصحاب الأغراض، مع أنه كان يجب أن يبنى انفصالي على استعفائي.
وسبب هذا الهياج الذي لم يكن ليوجد لو لم يحدثه البعض عن قصد؛ هو
تعيين ضياء باشا في منصب نظارة المعارف التي كانت شاغرة من قبل، وتعيين
حسن باشا من أمراء الجند البحري في منصب نظارة البحرية بالوكالة بدلاً عن
عارف باشا الذي استقال وترك الخدمة بصفة رسمية، وتعيين علي رضا باشا ناظر
الحربية مندوبًا ساميًّا للدولة في القطر المصري؛ نظرًا لبعض الإجابات السياسية
الواردة فيما بعد، وتعيين ناظم باشا قائد الفيلق الثاني في منصب نظارة الحربية
بدلا عنه.
ولما كان تأليف الوزارة من حقوق الصدر الأعظم الذي يرفع إلى الحضرة
السلطانية أسماء من يعتقد قدرتهم وكفاءتهم لتولي مناصب النظار، كنت أرى وجهًا
للاعتراض على التبديل الذي حصل في الوزارة وقتئذ، كما وقع قبله تبديل نظار
الداخلية والمعارف والأوقاف والعدلية ورئيس شورى الدولة حسبما ظهر أنه
المصلحة، ولم ينبس أحد ببنت شفة اعتراضًا على ذلك.
وقد ظهر فيما بعد أن سهم الاعتراض في التبدلات الوزارية الأخيرة، كان
مصوبًا بوجه خاص إلى تعيين ناظم باشا في منصب نظارة الحربية، حتى إنه
مساء اليوم الذي كان فيه تعيين المشار إليه ناظرًا لوزارة الحرب، حضر إليَّ رجل
يدعى ناظم بك من جمعية الاتحاد والترقي، وكانت أمارات القلق واضطراب البال
بادية على وجهه، وقال: إن الجمعية تستغرب تبديل بعض الوكلاء (النظار) ،
وتستوضح منكم جلية هذا الأمر الذي حدث من غير أن يكون عندها علم به،
فأجبته بأن ليس في الأمر ما يوجب كل هذا الاستغراب، وفي اليوم التالي اجتمع
مجلس الوكلاء، واشتغلنا برؤية الأمور حسب العادة وزدنا عليها المذاكرة في
الأحوال المهمة السياسية، وافترق أعضاء الوزارة في الساعة ٢ ونصف
(بالحساب العربي) ، وكلهم على اتفاق تام، ولم ينتصف الليل إلا ووردت
استقالة حسين حلمي باشا من نظارة الداخلية، وفي اليوم التالي استقال رفيق بك
ناظر العدلية، وعقبه ورود استقالة حسين فهمي باشا ويظهر أن استعفاء هؤلاء
الوزراء من مناصبهم لم يكن نتيجة اتفاق بينهم؛ إذ لا يعقل أن يكونوا اجتمعوا في
تلك الليلة ليتفقوا على الاستقالة؛ لبعد الشقة بين مساكنهم التي يحول بينها البحر.
ولكن كان حسب مشورة ونفوذ رجال الغيب (أي جمعية الاتحاد والترقي) ، ولقد
بذلت المساعي في حمل توفيق باشا ناظر الخارجية على الاستقالة أسوة بزملائه
المستقيلين، ولكن الرجل رفض الاستقالة غير متأثر بنفوذ أصحاب هذه المساعي،
ويروى أن سبب استعفاء الوزراء المشار إليهم؛ هو تبديل وزيري الحرب والبحر،
على أن وزير البحرية استقال من تلقاء نفسه، وكتاب الاستعفاء الذي رفعه إلى
الصدارة محفوظ في قلم الأوراق، والذي سُمِّي بدلاً عنه لم يعين إلا بالوكالة فقط.
إذن لا وجه ألبتة للقيل والقال في هذه المسألة. وأما مسالة تعيين علي رضا باشا
مندوبًا في القطر المصري، وإقامة ناظم باشا ناظرًا للحربية بدلاً عنه، فسأوضحها
فيما بعد مقرونة بالأسباب التي أوجبت هذا التبديل.
وفي الحقيقة إنه لم يكن هناك موجب لاستعفاء النظار الثلاثة كل على حدته
وهم خارج المجلس، بل لو كان زملائي النظار ارتأوا أثناء المذكرات وهم في
المجلس؛ أن تبديل ناظر الحربية مخالف لقواعد الشورى والدستور ومضر بمرافق
الدولة، لكنت أقدم استقالتي في الحال؛ هربًا من الوقوع تحت تبعة التهلكة والخطر
اللذين كنت أراهما يتخللان تيارات الأحوال الحاضرة. ولكن الحقيقة لم تكن كذلك،
بل كان القصد من إجبار هؤلاء النظار على الاستقالة (من قبل رجال الغيب) إنما
هو إظهار الحالة الحاضرة بمظهر الاضطراب، وأن يعدوا بذلك وسيلة لإحداث
الهياج المطلوب في مجلس المبعوثان.
ولإيضاح الأمور التي أوجبت تبديل ناظر الحربية، يجب قبل كل شيء أن
أذكر الحقيقة الآتية:
كان بعض الفتيان أو ذوي الأفكار الفنية من: المستخدمين الملكيين أو الضباط
العسكريين أصحاب الكلمة النافذة من الذين انتسبوا بعد إعلان القانون الأساسي إلي
جمعية الاتحاد والترقي؛ التي لها الخدمات المشكورة في إعادة الحكم الدستوري.
جعلوا ديدنهم وضع إدارة الحكومة تحت السيطرة والمراقبة إلي أن تتأيد الحكومة
الدستورية؛ وذلك خوفًا من عودة الاستبداد على زعمهم. على أن جميع العناصر
العثمانية قبلت أصول الشورى بكمال الحمد والشكران والسرور، وأثبتوا أنه لم يكن
ليوجد بينهم من يريد الرجوع إلى الحكم الاستبدادي، كما أن الجنود العثمانية كلها
أقسمت وتعاهدت على الذود عن أحكام القانون الأساسي، فلا موجب - والحالة هذه -
لوضع إدارة الحكومة تحت السيطرة والمراقبة المار ذكرهما. ومع هذه البداهة
كانت المداخلات باسم الجمعية في شئون الحكومة تتوالى وهو الأمر الذي أخل
بانتظام إدارة الحكومة، وعرقل مساعيها جدًّا، ووضع العقبات في سبيل معاملاتها
وأوجب طروء الضعف على القوة الإجرائية من مداخلات الجمعية التي تألفت في
الولاية العثمانية، واختل من جراء ذلك أمر الضبط والربط والنظام. كما أن انقسام
الضباط الذين هم القوة المحركة في الفيلقين الثاني والثالث إلي قسمين، ووقوع
الخلاف بين الذين ينتسبون إلي الجمعية والذين لا ينتمون إليها، أدى إلى الإخلال
بالنظام العسكري.
ولا يخفى أنه بمقدار ما تراعي فيالقنا النظام العسكري، ويكون جنودها يدًا
واحدة في اتحاده بما يشبه الجسم الواحد، بمقدار ذلك يكون التأثير في الأعداء،
وتنكسر شرتهم، وبعكس ذلك يتجرأ العدو على تجاوز حده ويتمرد ويطغى، ومن
جهة ثانية لا يعود في قدرة الجيش قمع الفتن الداخلية؛ فلذلك كله كان الواجب على
الضباط أن يتجنبوا الاشتغال بالسياسة وأن يبتعدوا عنها، وأن يراعوا سلسلة
المراتب حسب ما نص عليه القانون. ولكن بدلاً من ذلك صار الضباط يلقون
الخطب السياسية في: الملاهي (قونسر) والاجتماعات والمظاهرات، وأنشأوا
يقيمون المناورات الحربية والاستعراضات العسكرية في المراسح، فكنت ترى فرق
الجند العثماني تمر بأسلحتها، وضباطها من أمام المتفرجين في مراسح التشخيص،
وهو ما يحط بالشرف العسكري، وكل ذلك كان منشؤه ضعف إرادة على رضا باشا
ناظر الحربية، المطلوب منه حسب وظيفته منع كل هاته الأمور المخلة بنظام
الجيش، والذي لم يكن ليقدر على تنفيذ أوامره وتنبيهاته بإزاء نفوذ كلمة الضباط
المنتسبين للجمعية.
على أني أشهد أن علي رضا باشا رجل على غاية من الاستقامة والحلم.
ولكنه غير قادر على الوقوف أمام حركة الضباط التي أخلت بنظام الجيش، كما مر
ذكره آنفًا، فحفظًا لشرف الجيش وإعادة النظام والانتظام إلي صفوفه؛ تقرر تعيين
ناظم باشا قائد الفيلق الثاني الذي أثبت اقتداره بإصلاح الفيلق المذكور وإعادة النظام
إليه في مدة لا تزيد عن الشهرين ناظرًا للحربية، وبودر في الحال لإنفاذ هذا القرار
وهو الوسيلة الوحيدة لسلامة الأمة والوطن. ولكن جمعية الاتحاد والترقي التي لا
تريد إلا استبقاء نفوذها، أجبرت زملائي الوكلاء (النظار) على الاستعفاء وأخذت
مجلس المبعوثان تحت أمرها، وبذلك أعدت الوسائل اللازمة لإسقاط وزارتي.
وهنا يجب أن أسرد بعض أمور حدثت قبل سقوطي، وكانت مقدمة لإثارة الأفكار
ضدي، فكانت السبب في انفعال الجمعية مني، وإليك الأسباب.
كنت من زمن حدوث الانقلاب أروج بقدر الإمكان والزمان اقتراحات من كان
يراجعني بصفته عضوًا في الجمعية، واستمر الحال كذلك إلى أن حضر ليلة إلى
منزلي، (وذلك قبل افتتاح مجلس المبعوثان بأسبوعين) البكباشي إسماعيل حقي بك
ومعه رحمي بك الذي يدعي أنه قائم مقام الوكيل السياسي عن الجمعية، وقالا: إن
الجمعية لا تدخر وسعًا في إكرام أعضاء اللجنة البلقانية الإنكليزية المؤسسة في
لندره، الذين حضروا أخيرًا إلى الآستانة، وإنه صار دعوتهم لوليمة عشاء
يحضرونها نهار غد في منزلي، فقلت لهم: إني أجهل وصول هؤلاء الأعضاء إلى
الآستانة، ولا أعلم مركزهم ومنزلتهم في بلادهم؛ لعدم ورود شيء يعرفني عن ذلك
لا من سفير الدولة في لندره، ولا من سفير إنكلترا هنا، فأستغرب دعوتكم
لأشخاص لا معرفة لي بهم، ولم يسبق لي المقابلة معهم، إلى تناول العشاء في
منزلي من غير أن يكون عندي علم بذلك: كأنكم تدعونهم إلى فندق، وهو أمر لا
أستصوبه بعدم موافقته للأصول، بل يجب أن أتعرف بهم قبل كل شيء وأقابلهم،
وبعد ذلك أعد لهم الوليمة في يوم معين.
احتد إسماعيل حقي بك ورفيقاه من كلامي هذا، وخرجا من المنزل، وذهبا
في الساعة الرابعة من الليلة المذكورة نفسها إلى القصر السلطاني، وقابلا أحد قرناء
الحضرة السلطانية وقالا له: (اعرض لحضرة السلطان أن يسترجع الختم
السلطاني من الصدر الأعظم) : أي أن يعزله وإلا نذهب غدا بالقوة العسكرية إلى
الباب العالي، ونخرجه منها قسرًا، على أنه قد تقرر أن يعزل في أول اجتماع من
مجلس المبعوثان.
فهال هذا الكلام القرين، فأجابهم قائلاً: (وما السبب في ذلك) ، إني لا
أستطيع عرض هذه المسألة على جلالته في مثل هذا الوقت، فالأحسن أن تحضرا
غدًا؛ لنفهم ما في الأمر ونعرضه على الحضرة السلطانية.
وعلى ذلك ذهبا وعادا في نفس اليوم التالي وبرفقتهما ضابط آخر، اجتمعت
بهم بدعوة خصوصية حسب الإرادة السنية الصادرة لي، وكان معنا أحد القرناء
فسألتهم مِنْ قِبَلِ مَنْ أُرْسِلُوا؟ فقالوا: إنهم حضروا مِن قِبَلِ الجمعية، فقلت لهم:
هل الجمعية راضية عن مراجعتكم للحضرة السلطانية في مثل هذا الطلب؟ أجابوا
نعم، إن الجمعية توافق على كل ما نعمله، وعند ذلك أعدْتُ ما قلته لهم في الليل
من عدم موافقة اقتراحهم في مسألة الدعوة، وزدت عليه أن عزل الصدر الأعظم
بلا سبب ودون أن يستقيل هو من منصبه مخل بما نصه القانون الأساسي، وأن
خدمتي الآن في هذا الزمن المحفوف بالمخاطر ليس إلا تفاديًا مني في حب الوطن،
وليس لأجل التفاخر ولا لجر منفعة، قلت هذا الكلام بشدة واشمئزاز، فقاموا
وانصرفوا من غير أن يفوهوا ولا بكلمة.
وبعد ذلك صدرت إدارة سنية؛ تبلغتها بالواسطة بوجوب دعوة أعضاء اللجنة
البلقانية المذكورة إلي الشاي بعد حصول التعارف بهم، وصادف أن حضر
الأعضاء المومأ إليهم إلى الباب العالي حيث زاروني، وكان عددهم اثني عشر بين
ذكور وإناث، فدعوتهم لتناول العشاء في اليوم التالي عندي، حيث حضروا هذه
المأدبة كما حضرها أيضًا بعض أعضاء جمعية الاتحاد والترقي، فكان عدد الجميع
٢٤ مدعوًّا ما عدا رحمي بك الذي لم يشأ أن يحضرها.
واللجنة البلقانية هذه كانت تتألف من بعض وجوه ومعتبري الإنكليز بقصد
إنساني ألا وهو: تذكير الحكومة الإنكليزية بحماية السكان البلغاريين من أهالي
مقدونية من مظالم العثمانيين، وقد طاف بعض أعضائها القطر المقدوني بعد
الانقلاب؛ ليتحققوا بأنفسهم عما إذا كان البلغاريون لا يزالون في حاجة إلى الحماية
الأجنبية، ثم حضروا إلى الآستانة، وقد قصدت جمعيتنا بإكرام هؤلاء الأعضاء:
أن نقيم الحجة لهم على الأخوة التي حصلت بين المسلمين والبلغار، وأن تكسب
بذلك رضا اللجنة المذكورة، وتحوز بواسطتها انعطاف الأمة الإنكليزية، على أن
الأمة العثمانية كانت قد اكتسبت حسن نظر وانعطاف الشعب الإنكليزي العظيم؛ بما
أظهرته عقب انقلابنا السعيد من الاستعداد لإدارة دستورية سالمة.
وهنا يجب عليَّ أن أترك الحكم إلى أرباب الفكر والإذعان في مسألة الذهاب
إلى القصر السلطاني، وطلب إسقاط الوزارة من أجل أني رفضت طلب دعوة
أشخاص إلى منزل صدر أعظم بدون إذنه، ولم يسبق التعارف بهم مما هو مخالف
لأصول وآداب المعاشرة؛ ولأني قابلت هذا الطلب الغريب بصورة معقولة، وهذا
أمر جدير بتوجيه الأنظار إليه.
لذلك صرفت الجمعية كثيرًا من المساعي لإسقاط الوزارة عقب انعقاد مجلس
المبعوثان؛ ولكنها أخفقت أمام ميل الرأي العام الطبيعي، ولما رأت الجمعية ذلك
وعلمت أن لا قبل لها بالوقوف أمام الرأي العام أوفدت من قبلها طلعت بك وأنور بك
فحضرا إليَّ ليلة، وأبلغاني بأنه تقرر أن يكون السير حسب رأيي، فشكرتهم على
قرارهم هذا، وقلت لهم: إننا كلنا جسم واحد، فيجب أن نسعى معًا في سبيل خدمة
الأمة والدولة.
مضي ١٥ يومًا على ذلك، فصادف أن احتفلت فرقة الأحرار في عيد مضي
٦١٠ سنوات على استقلال الدولة العثمانية، فدعيت الوزارة أيضًا إلى المأدبة التي
أقيمت لأول مرة في (برابالاس) ، فرأيت أن أحضر هذا الاحتفال احترامًا لذلك
اليوم المقدس، فلم يرق ذلك في نظر الجمعية، فأوفدت إليَّ أحمد رضا بك في اليوم
التالي، فأشار في كلامه معي إلى عدم استحسان ذهابي إلى الحفلة المذكورة، فقلت
له: إني بصفتي رئيس الوكلاء (النظار) يجب عليَّ أن أحضر الاحتفالات التي
تقام من قبل أي حزب كان؛ تذكارًا لمثل هذه الأعياد الوطنية المقدسة، وأن هذا
أمر طبيعي.
فزاد كلامي هذا في موجدة الجمعية عليَّ وجدد حزازاتها، وصارت تنتظر
الفرصة لإسقاطي، حتى تقرر تعيين رجل نشيط نادر المثال مثل ناظم باشا في
منصب نظارة الحربية، وعلمت الجمعية أن النظام العسكري سيعود قريبًا إلى
ربوع الجيش بواسطة الناظر الجديد، فلم يرق في نظرها ذلك، فأحدثت الهياج
المار ذكره.
على أن التخلص من هذه الأزمات الخطرة والرجوع إلى الحالة الطبيعية مع
توقي الضرر والهلكة هو من وظائف الحكومة المسؤولة أمام العموم، والحيلولة بين
الحكومة وبين أداء هذه الوظيفة هو بمعنى الرضا بالهلكة وقبولها.
وإذا كانت الحكومة العثمانية لا تستند إلى مجلس نيابي يحوز أعضاؤه على
حرية الفكر، فإنه لا يمكن الوقوف أمام المخاطرات والمهالك الآتية. وإذا أصرت
الجمعية على التمسك بتيار نفوذها هذا واستمرت في السير معه، فالنتيجة تكون
مجهولة بسبب مضادة الرأي العام للسير على المنوال المذكور، وذهاب الضباط
وأمراء الجند مذاهب شتى.
على أن الحكومة العثمانية تقترب شيئًا فشيئًا من مسألتين سياسيتين مهمتين،
إذا لم تنحسما بالطرق الحكيمة الضرورية في زمن غير بعيد، يخشى من أن تجد
الدولة نفسها أمام غائلة كبيرة.
الأولى مسألة كريد وقد كانت الحكومة وقتئذ اتخذت الوسائل اللازمة التي
توصل إلى حلها حلاًّ يوافق مصالح الدولة العثمانية وأهالي الجزيرة، وهو جدير
بموافقة الدول الأربع الحامية لكريد. ولا أدري بالنظر إلى الحاضرة في أي طور
ستدخل هذه المسألة المهمة الآن.
وأما الثانية: وهي المسألة البلقانية فهي أهم من مسألة كريد، وقد زاد مركزنا
إشكالاً؛ فيها تضارب المصالح السياسية بين الروسية والنمسا في هذه الآونة، فإذا لم
يحكم مركزنا في الوقت اللازم باستعمال الوسائل الرشيدة، كانت العاقبة وخيمة جدًّا
علينا.
ولا يخفى أن القوة أساس كل شيء، فإذا كان ناظر خارجية إحدى الدول لم
يشأ قبول اقتراح سفير دولة أخرى، كان من الواجب أن يظهر لمعان ٣٠٠ ألف
حربة وراء ذلك الناظر مستعدة لنصرته، كما قاله البرنس ميترنيخ (ناظر خارجية
النمسا السابق) لرفعت باشا مندوب الدولة العثمانية السامي.
ولو كان عندنا في شهر أغسطس الماضي قوة مهيأة مجهزة للدفاع عن مرافقنا
في الروم إيلي، لما كانت بلغاريا تجرأت على إعلان استقلالها، ولما أقدمت النمسا
على ضم البوسنة والهرسك لبلادها، وهذا الحال يمكن تطبيقه في المستقبل، فإذا
أهملت قوانا الحربية كما كانت أهملت من قبل، لا تتمكن الدولة من الوقوف في
وجه الأعداء، وتخرج بلاد الدولة العثمانية قطرًا بعد قطر من يدها، وهذا ثابت
بدليل حدوث أمثاله مرارًا؛ لذا رأيت تعيين ناظم باشا المشهور بقدرته على إصلاح
جيشنا في بضعة شهور ناظرًا للحربية أمرًا ضروريًّا؛ ليمكن الإصلاح في مدة قليلة
قبل فوات الوقت. أفلا يعد الوقوف في سبيل الحكومة لمنعها من إصلاح كهذا؛
ضارًّا ومروجًا لمقاصد الذين يرجحون أغراضهم الشخصية على مصالح الدولة.
إن إعلان الدستور الذي كان نتيجة مساعٍ عظيمة صرفت في هذه السبيل
أكسب الدولة انعطاف أوربا عليها واطمئنانها إليها والثقة بها، فأخذ أصحاب رؤوس
الأموال يوفدون وكلاءهم إلى الآستانة، والبعض منهم حضر بنفسه للقيام
بالمشروعات المفيدة الاقتصادية النافعة للبلاد مثل: إنشاء الخطوط الحديدية،
وإرواء الأراضي من الأنهار، واستثمار المناجم والمعادن، وتجفيف المستنقعات
والبرك، مما يستلزم بذل الملايين في البلاد العثمانية، وبذلك يجد المعوزون
والفقراء من سكان البلاد الذين كثيرًا ما يلجأون بسبب ضيق ذات اليد إلى ارتكاب
المحرمات شغلاً بأجر وفير، يوفر لهم أسباب المعيشة، ويكفي الحكومة مؤنة
الاهتمام بهم وبجرائمهم المضرة بالسكان والبلاد الناشئة عن الفقر والاحتياج.
لكن اختلال النظام في المملكة المتأتي من تغير شكل الحكومة ودخول إدارة
السلطنة تحت نفوذ جمعية غير مسئولة، مما لم يحصل مثيله في الممالك المتمدنة،
استوجب بكل أسف انسلاب ثقة أوربا وعدول أرباب رءوس الأموال من الغربيين
عن إرسال ملايينهم إلى البلاد العثمانية؛ انتظارًا لرجوع المياه إلي مجاريها
الطبيعية، واستتباب الأمن في البلاد تحت إدارة حكومة شرعية يرتاح إليها أرباب
الأموال، وقد كنا آملين أن تساعد زيادة الإيرادات المنتظر حصولها من
المشروعات الاقتصادية المار ذكرها، أو من احتكار بعض البضائع التجارية
الواردة في البروتوكول العثماني النمساوي، وتزييد رسم الجمارك على سد العجز
الذي في الميزانية العمومية.
وأما الآن فإن المرء يتساءل، كيف يمكن للدولة أن تقوم بإدارة حركتها مع
نقص الملايين في ميزانيتها، ومع عدم وجود الأمل في زيادة الإيرادات بالنظر؛
لامتناع أرباب الأموال عن إنفاذ المشروعات الاقتصادية في المملكة، وأخال أن
الدول لا ترضى بسبب حالتنا هذه بزيادة رسم الجمارك وترويج اقتراح الدولة في
مسالة الاحتكار، خصوصًا وأن الحكومة مضطرة لإعاشة أكثر من ٢٥٠ ألف جندي
في هذا الزمن السلمي، ولا نستطيع تخفيض هذا العدد بسبب القلاقل الضاربة
أطنابها في المملكة، وفقدان الأمن في أنحائها، وعدم مساعدة أحوال الدولة المالية
لإنفاق كل هذه المبالغ بصورة دائمة، وليس في الإمكان مع الحال الحاضرة إيجاد
منابع إيراد لها، كل هذا يجعل المرء في حيرة من حالة الدولة وكيفية إدارتها، مع
ما هي عليه من التضعضع المالي. ولو زال هذا الارتباك وحل محله النظام،
وعادت المياه إلى مجاريها الطبيعية لاستتب الأمن والراحة في المملكة، ويمكن
حينئذ صرف عدد كبير من الجند، وإدارة ما بقي منه ضمن دائرة الميزانية، كما
أن الجنود التي لا لزوم لها تنصرف إلي الانشغال بالزراعة والفلاحة في بلادها،
فيزيد بذلك المحصول في المملكة. ولكن هذه الملاحظات بعيدة جدًّا على ما أرى
عن النظر والإمعان.
كان قد ذكر على الألسن في الأيام التي دعيت فيها إلي الذهاب لمجلس
المبعوثان إشاعة الخلع (أي خلع السلطان) ، فقد اتصل بنا خبر من هذا القبيل،
عندما كان ناظر الداخلية ملازمًا لفراشه من مرض أصابه، وقد صار حينئذ اتخاذ
كل الطرق اللازمة لمعرفة ما إذا كانت هذه الإشاعة حقيقية أم هي فرية من
المفتريات التي نشرت في الجرائد الأوربية، وفي ذلك الوقت نفسه أشيعت أرجوفة
أخرى؛ بأني أنا وناظم باشا نريد إعادة الحكم الاستبدادي، وأرسل بعض ضباط
الفيلق الثاني والثالث رسائل برقية إلى بعض البلاد في المعنى المذكور، واستدلوا
على ذلك بطلب إعادة توابير الصيادة إلى الفيلق الثالث، على أن لا أصل ألبتة لكل
ما قيل من هذا القبيل، والحقيقة هي أن السكان المسلمين الذين هالهم خبر تسليح
الحكومة اليونانية للأروام القاطنين قرب الحدود في ولاية يانيا، قد طلبوا من
الحكومة إرسال أربعة توابير في أسرع ما يمكن، كما أنه قد وردت برقيات من
أهالي تلك الجهات إلى نوابهم في مجلس المبعوثان في هذا المعنى نفسه وزادوا على
ذلك أن أهالي (قالقاندلن) تسلحوا واجتمعوا، وأنهم مستعدون للقيام بما يجب عمله
إذا لم تحضر الجنود في الحال.
فبناء عليه صدر الأمر إلى نظارة الحربية بوجوب إرسال أربعة توابير من
الفيلق الثالث إلى يانيا، وأنه إذا لوحظ أن أخذ أربعة توابير من الفيلق المذكور
يؤدي إلي إضعاف قواه العمومية - خصوصًا وإن كثيرًا من جنده كان قد أرسل
طاشليجه؛ لتقوية الحدود الصربية تلقاء هياج الصربيين وقتئذ - فلا بأس من إعادة
التوابير التابعة للفيلق الثالث، والمرابطين الآن في الآستانة. هذا هو الأمر الصادر
إلى نظارة الحربية، وقد أجاب ناظم باشا عليه قائلاً: إن الفيلق الثالث أجاب: بأنه
لا يمكن أخذ جند فوق ما أخذ قبلاً من قوى فوق الفيلق، وأن المسألة انحسمت
بتدابير أخرى بلا حاجة إلى إرسال الجند إلى يانيا.
بقى عليَّ أن أشرح بعض نقط في مسألة رغبتنا في إعادة الحكم الاستبدادي،
فأقول: إنني عندما كنت صدرًا أعظم للمرة الثانية قبل ١٤ سنة وجدت تغيرًا
عظيمًا في أصول الإدارة، ورأيت أن نتيجة شكل الإدارة على هذا النمط سيكون
وبالاً على الدولة. فرفعت في الحال تقريرًا مفصلاً إلى الحضرة السلطانية،
وطلبت من جلالتها أن تسلم الإدارة لهيئة عمومية، تكون مسؤولة أمام العموم، وأن
تستريح من عناء الأعمال، فقبلت الحضرة السلطانية كل ما عرضته وصدرت الإرادة
السنية بتأليف الوزارة حسبما ورد في التقرير الآنف الذكر. ولكن لم يمض يومان إلا
وصار فصلي بصورة غريبة من الصدارة؛ بناء على إفساد بعض المقربين الذين
يرجحون منافعهم الشخصية على صوالح الوطن والأمة، وعُيِّنت واليًا على حلب
بقرار من مجلس الوكلاء (النظار) ، ثم نفيت إلى أزمير فبقيت هناك ١٢ سنة، وأنا
أذوق الأمرين من الفسدة الذين سلطوا عليَّ عن قصد. وفي النهاية صدر الأمر بنفيي
إلى رودس حسب تسويلات أصحاب المآرب.
كل هذا يعرفه الجمهور، كما يعرف كيفية خلاصي من النفي المؤبد الأخير
إلي رودس وحضوري إلى الآستانة. ولو فدى إخلافي قليلاً من مصالحهم في سبيل
صالح الوطن، وساروا على الطريق الوطني الذي سرت عليه أنا، لما دامت
الإدارة السابقة ودام معها تخريب البلاد.
وأما اتهام ناظم باشا معي بأنه يريد إعادة الحكم الاستبدادي، فيكفي لدحض ما
قيل فيه أن أقول: إن الرجل نفي إلى أرزنجان لسبب طفيف، بعد أن جرد من
رتبه وألقابه، وألقي في غيابة السجن، وقضى على هذا الحال سبع سنوات هناك
وهو لا يملك بارة واحدة، وعائلته وأولاده يئنون تحت أثقال الجوع والفقر، ولم
يعد إلى الآستانة إلا بعد إعلان الدستور، مما يثبت أن ما أشيع في حقنا نحن
الاثنين كذب وافتراء شنيع.
إني لم أقبل منصب الصدارة الذي أسندته الحضرة السلطانية إليَّ؛ وأنا في
هذا السن عقب إعلان الدستور، وفي زمن سخط الرأي العام على الإدارة السابقة
وتهيجه؛ إلا لتهدئة الأفكار التي بلغت منتهى التهيج، وللقيام بما يجب عليَّ حسب
الحمية الوطنية من المساعدة على تأسيس الحكم الدستوري، مستعينًا على ذلك
بتوفيقات الله الصمدانية، ولم يكن لي أرب في حيازة المناصب قط. وإني أتمنى
لأخلافي أن يؤدوا الخدمات النافعة للوطن المقدس والأمة والدولة، وهم بعيدون عن
كل تأثير ونفوذ. وأختم كلامي بتحويل قرار عدم الثقة بي الصادر من مجلس
المبعوثان، وتقديره على الرأي العام العادل.
... ... ... ... ... ... ... ... الصدر الأعظم السابق
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كامل