للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

التربية بركوب البحر
الشذرة الرابعة عشرة من جريدة الدكتور أراسم [*]
عن ميناء لوندرة في ٣ مارس سنة ١٨٦
(في البحر) تقرر أن يقلع أصحاب السفينة التي تقلنا في يومين , وها نحن
أولاء ننام فيها الآن.
ذلك أني كنت قرأت في الصحف الإنكليزية منذ ستة أسابيع إعلانًا بأن
سفينة تسمى المونيتور تسافر عما قليل إلى بلاد البيرو فلم ألبث عند وصولي إلى
لوندرة أن سألت عنها ولاقيت ربانها في أحواض الميناء, وهو رجل في نحو الثانية
والأربعين من عمره أسمر قصير بادن , تؤذن بدانته بأن ستنتهي بسمن مفرط مع
ما هو فيه من معيشة الجد والنشاط. ويطري الناس خبرته ومتانة سفينته , وإني
قلما صادفت وجهًا أطلق من وجهه , وأدل منه على الذكاء والاستقامة، وقد
تبين لي أنه عَرَفَ في مواني إستراليا ربانًا جسورًا انقطع للملاحة لا يعرف غيرها,
كنت سافرت معه فيما سبق واتخذته صديقًا , فلما علم أني صديق صديقه أقبل علي
بصدر رحب وقلب سليم , وكان من نتيجة هذا التعارف أن اتفقنا على أن أكون طبيبًا
للسفينة كما كنت لذلك الصديق , وأن يكون (أميل) تلميذًا بحريًّا في مدة السفر.
لما سمعت والدته بهذا ارتاعت في أول الأمر لما توقعته له من سوء الطالع
في ذلك العمل فاجتهدت فى تسكين روعها مبينًا مقاصدي منه.
بلغ (أميل) الآن من السن أكثر من ثلاث عشرة سنة , وأصبح طويل القامة
قوي الجسم يتمتع بصحة تامة من أسبابها فيما أرى نظام المعيشة الذي جرى عليه ,
وقد بدا لي أن اشتغاله بتعلم الملاحة فرصة مفيدة لتربية قوته البدنية وشد أعضائه
وتذليل عضلاته بأعمال تقتضي من المهارة مثل ما تقتضيه من الشجاعة الحقيقية ,
فإني وهيلانة ما قصدنا قطعًا أن نجعله واحدًا من أجنة العلم الفاسد الذين لا حياة لهم
إلا في رؤوسهم , فليعجب من شاء بأولئك المراهقين السقام المخدجين [١] الذين
أعجزهم الدرس عن العمل , فليس هذا هو الكمال الذي نطلبه (لأميل) .
رأيت الناس في مكان لا يحضرني اسمه الآن يجرحون باطن الصَّدَفَة في
بعض الحيوانات الرخوة بطرف خنجر؛ ليحملوا هذه الحيوانات على توليد اللؤلؤ
بالصناعة , فذلك يشبه أن يكون شأن المربين مع أحسن التلامذة فهم يتلفون بناهم ,
وينهكون أجسامهم ولا أدري أي قصد لهم فى ذلك سوى الحصول على مجموع من
المعاني تتحجر فى أذهانهم تواضعوا على أن يسموها علمًا , وإني لفي شك من أن
ما يحصله المتعلمون من المعاني يعوضهم شيئًا مما خسروه في سبيل تحصيله من
قواهم وما أتلفوه من صحتهم. ولست أقصد بقولي هذا تثبيط المتعلمين عن العلم
فإن الإنسان خلق ليعلم , وإنما أريد أن يفهموا أن العمل البدني والعمل العقلي
متكافئان في لزومهما لتقوية العقل وإحصافه فعلينا أن نربي كل ما وهبه الله لنا ولا
نستخف بشيء منه.
استشرت (أميل) قبل اعتزامي على هذا الفكر فألفيته مملوء النفس به لأنه
كجميع أترابه يحب الجديد، ويأنس من نفسه فخرًا بتعلمه حرفة , ويجب في هذا
المقام أن أبين مرادي وهو أني لا أعتقد بحال أن من حقي أن أختار لولدي عملاً
تقوم به معيشته , كما أني لا أدعي لنفسي حق إلزامه الإيمان بعقيدة دينية أو سياسية.
على أنه لما يأت وقت التفكير في الحرفة التي ينبغي أن يشتغل بها ولا أدري هل
يعرف بنفسه ما يلائمه من الحرف أم لا؛ فإن تربيته في غاية البعد عن نهايتها ,
بل هي في بدايتها ولكني أرى أنه مهما حذق المربي في التبكير بإنشاء الطفل على
الميل إلى النفع والطمع فيه لم يكن ذلك منه عجلة مذمومة , ولقد عرف (أميل)
مما تلقاه على والدته من الدروس شرف العمل وكرامته فتراه يتخيل الآن أنه
سيكسب أجرة سفره بتسلقه شُرُع السفينة، وهو تخيل غير صحيح إلا في جزئه
غير أني تحاميت كل التحامي إزالة هذا الوهم من نفسه، وتركت له أن يفخر بأنه
يطعم خبزه الجاف بكده ونصبه، فإن أقل ما في هذا أنه مفخرة كنت جديرًا باللوم
لو أني حرمته منها.
ثم إن التعليم في سفينة تجارية مفيد ومقو للعقل خصوصًا إذا كانت مدته لا
تتعدى بضعة شهور , فحرية الإنسان على ظهر البحار هي أن لا يخضع إلا إلى
الواجب , فطاعة البحار في الحقيقة فيها شيء من الاختيار , وهذه هي الخاصة
الفارقة بينه وبين الجندي , فالرجل الذي يرى من نفسه الجهل ببعض نواميس
الكون فيبدي من قوتها ما يكفي لامتثال أمر الربان وهو يعلمه بقول موجز ما جهله
من تلك النواميس يكون قد جمع في عمله هذا بين الاستقلال والحكمة.
لست أبالغ لنفسي مطلقًا فيما لهذا التعلم من الآثار الحسنة والنتائج المفيدة،
فإني أعلم أن (أميل) لن يكون بحارًا لمجرد ما يمارسه من ضروب التمرن في
حبال السفينة بيد أن بلاءه في ذلك لا يمكن أن يتخلف عنه استفادته منه فإنه
بواسطته يتعلم شيئًا من أحوال البحر، وبه يعرف أجزاء السفينة الأساسية وما
يطلق عليها من الأسماء فكثير من أترابه لا يعرفون شيئًا من أمر هذه الدنيا السارحة.
أخص ما أعني به في هذا الأمر أن يحصل في ذهنه بالاختبار والمشاهدة معنى
من القوى الكونية العظمى، وما يلزم للإنسان في مقاومتها لو قهرها من ثبات
الجأش وحضور الفكر، وسيكون هذا أعظم درس له في سفره. ومما لا يسعني إلا
أن أضحك منه أنني أسمع بعض المعلمين يقولون لغلمانهم المتبطلين الذين ورموا
من صغرهم كبرًا وغرورًا: إنهم ملوك الخلق فهلا وصفوهم أيضًا بأن أيديهم
البيضاء الرقيقة لم تخلق إلا لتقود عجلة الشمس في أرجاء السماء؟ رويدًا أيها
المعلمون , قفوا هؤلاء الملوك أمام البحر فانظروا ما يعتريهم من الرعب خشية أن
تبصق أمواجه الكثيفة في وجوههم.
وأما (أميل) فإنه لا بد أن يتعلم من الآن ما يجب أن يبذله الإنسان في سبيل
سيادته على الفواعل الكونية , وكيف ينبغي أن يكون معها في كفاح مستمر ليحفظ
سلطانه على عرش الماء.
حادثت الربان وهو رجل شهم في شأن ولدي، وكاشفته بفكري في تربيته ,
ففهم حق الفهم الدرس الذي أردت تعليمه إياه وهو أن من المفروض على الشبان أن
يعتبروا العمل العقلي جزاء للعمل البدني ومكافأة عليه. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))