للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: ابن القيم الجوزية


الأدب وكلام الصوفية فيه [*]

فصل
وأما الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم فالقرآن مملوء به، فرأس الأدب
معه كمال التسليم له والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يحمله
معارضة خيال باطل يسميه معقولاً، أو يحمله شبهة أو شكًّا، أو يقدم عليه آراء
الرجال وزبالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد
المرسل بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل، فهما توحيدان لا نجاة للعبد من
عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل وتوحيد متابعة الرسول، فلا يحاكم إلى غيره
ولا يرضى بحكم غيره، ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول
شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه، فإن أذنوا له نفذه وقبل خبره،
وإلا فإن طلب السلامة أعرض عن أمره وخبره وفوضه إليهم، وإلا حرّفه عن
مواضعه وسمى تحريفه تأويلاً وحملاً فقال: نؤوّله ونحمله، فلأن يلقى العبد ربه
بكل ذنب على الإطلاق ما خلا الشرك، خير له من أن يلقاه بهذا الحال.
ولقد خاطبت يومًا بعض أكابر هؤلاء فقلت له: سألتك بالله لو قدّر أن الرسول
صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرنا وقد واجهنا بكلامه وبخطابه أكان فرضًا علينا
أن نتبعه من غير أن نعرضه على رأي غيره وكلامه ومذهبه؟ أم لا نتبعه حتى
نعرض ما سمعناه منه على آراء الناس وعقولهم؟ فقال: بل كان الفرض المبادرة
إلى الامتثال من غير التفات إلى سواه، فقلت: فما الذي نسخ هذا الفرض عنّا؟
وبأي شيء نُسِخ؟ فوضع أصبعه على فيه وبقي باهتًا متحيّرًا وما نطق بكلمة.
هذا أدب الخواص معه، لا مخالفة أمره والشرك به، ورفع الأصوات
وإزعاج الأعضاء بالصلاة عليه والتسليم، وعزل كلامه عن اليقين، وأن يستفاد
منه معرفة الله أو يتلقى منه أحكامه؛ بل المعمول في باب معرفة الله على العقول
المنهوكة المتحيرة المتناقضة، وفي الأحكام على تقليد الرجال وآرائها. والقرآن
والسنة إنما نقرأهما تبركًا، لا أنا نتلقى منهما أصول الدين ولا فروعه. ومن طلب
ذلك ورامه عاديناه وسعينا في قطع دابره واستئصال شأفته {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ
مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ * حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ
إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لاَ تَجْأَرُوا اليَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ
فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ
جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * أَمْ
يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ
لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ *
أَمْ تَسأَلهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * وَإِنَّكَ لَتَدْعُوَهُمْ إلَى
صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} (المؤمنون
: ٦٣-٧٤) .
والناصح لنفسه العامل على نجاتها، يتدبر هذه الآيات حق تدبرها، ويتأملها
حق تأملها، وينزلها على الواقع يرى العجب، ولا يظنها اختُصت بقوم كانوا فبانوا
(فالحديث لك واسمعي يا جارة) والله المستعان.
ومن الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا
نهي ولا إذن ولا تصرف حتى يأمر هو وينهى ويأذن، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (الحجرات: ١) وهذا باقٍ إلى
يوم القيامة ولم يُنسخ. فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته، كالتقدم بين يديه في حياته،
لا فرق بينهما عند ذي عقل سليم. قال مجاهد - رحمه الله -: لا تفتاتوا على
رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضيه الله على لسانه. وقال الضحاك:
لا تقضوا أمرًا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو عبيدة: تقول العرب
لا تقدم بين يدي الإمام وبين يدي الأب. أي: لا تعجلوا بالأمر والنهي دونه. وقال
غيره: لا تأمروا حتى يأمر ولا تنهوا حتى ينهي.
ومن الأدب معه أن لا تُرفع الأصوات فوق صوته فإنه سبب لحبوط الأعمال،
فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به؟ أترى ذلك موجبًا
لقبول الأعمال، ورفع الصوت فوق صوته موجب لحبوطها؟
ومن الأدب معه أن لا يُجعل دعاؤه كدعاء غيره، قال تعالى: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ
الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً} (النور: ٦٣) وفيه قولان للمفسرين:
(أحدهما) : أنكم لا تدعونه باسمه كما يدعو بعضكم بعضًا؛ بل قولوا:
يارسول الله! يا نبي الله! فعلى هذا: المصدر مضاف إلى المفعول، أي دعاءكم
الرسول.
(الثاني) أن المعنى: لا تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم بعضًا إن
شاء أجاب وإن شاء ترك؛ بل إذا دعاكم لم يكن لكم بد مِن إجابته، ولم يسعكم
التخلف عنها ألبتة. فعلى هذا: المصدر مضاف إلى الفاعل، أي: دعاءه إياكم.
ومن الأدب أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع من خطبة أو جهاد أو رباط لم
يذهب أحد مذهبًا في حاجته حتى يستأذنه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ
آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} (النور: ٦٢) فإذا كان هذا مذهبًا مقيدًا بحاجة عارضة لم يوسع لهم فيه إلا بإذنه،
فكيف بمذهب مطلق في تفاصيل الدين: أصوله وفروعه دقيقه وجليله؟ هل يشرع
الذهاب إليه بدون استئذانه؟ {فَاسْأََلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل:
٤٣) .
ومن الأدب معه أن لا يستشكل قوله؛ بل تُستشكل الآراء لقوله، ولا يعارض
نصه بقياس؛ بل تهدر الأقيسه وتلقى [١] لنصوصه، ولا يحرف كلامه عن حقيقته
لخيال يسميه أصحابه معقولاً، نعم هو مجهول، وعن الصواب معزول. ولا يوقف
قبول ما جاء به على موافقة أحد، فكل هذا من قلة الأدب معه صلى الله عليه وسلم،
وهو عين الجرأة.
***
فصل
وأما الأدب مع الخلق فهو معاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم، فلكل
مرتبة أدب، والمراتب فيها أدب خاص، فمع الوالدين أدب خاص، وللأب منهم
أدب هو أخص به، ومع العالم أدب آخر، ومع السلطان أدب يليق به، وله مع
الأقران أدب يليق بهم، ومع الأجانب أدب غير أدبه مع أصحابه وذوي أنسه،
ومع الضيف أدب غير أدبه مع أهل بيته.
ولكل حال أدب: فللأكل آداب وللشرب آداب، وللركوب والدخول والسفر
والإقامة والنوم آداب، وللبول آداب، وللكلام آداب، وللسكوت والاستماع آداب.
وأدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره، فما
استُجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استُجلب حرمانهم بمثل قلة الأدب.
فانظر إلى الأدب مع الوالدين كيف نجى صاحبه من حبس الغار حين أطبقت
عليه الصخرة، والإخلال به مع الأم تأوُّلاً وإقبالاً على الصلاة كيف امتحن صاحبه
بهدم صومعته، وضرب الناس له ورميه بالفاحشة، وتأمل أحوال كل شقي ومغتر
ومدبر كيف تجد قلة الأدب هو الذي ساقه إلى الحرمان، وانظر قلة أدب عوف مع
خالد كيف حرمه السلب بعد أن برد بيديه، وانظر أدب الصديق - رضي الله عنه -
مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة أن يتقدم بين يديه فقال: ما كان ينبغي
لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف أورثه
مقامه والإمامة بالأمة بعده، فكان ذلك التأخر إلى خلفه - وقد أومأ إليه أن اثبت
مكانك - جمزًا لا سعيًا إلى قدام، بكل خطوة إلى وراء مراحل إلى قدام تنقطع فيها
أعناق المطي. والله أعلم.
***
فصل
قال صاحب المنازل: (الأدب حفظ الحد بين الغلو والجفاء بمعرفة ضرر
العدوان) هذا من أحسن الحدود. فإن الانحراف إلى طرفي الغلو والجفاء هو قلة
الأدب، والأدب: الوقوف في الوسط بين الطرفين، فلا يقصر بحدود الشرع عن
تمامها ولا يتجاوز بها ما جعلت حدودًا له، فكلاهما عدوان والله لا يحب المعتدين،
والعدوان هو سوء الأدب، وقال بعض السلف: دين الله بين الغالي فيه والجافي
عنه، فإضاعة الأدب بالجفاء كمن لم يكمل أعضاء الوضوء ولم يوف الصلاة آدابها
التي سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلها، وهي قريب من مئة أدب ما بين
واجب ومستحب.
وإضاعته بالغلو كالوسوسة في عقد النية ورفع الصوت بها، والجهر بالأذكار
والدعوات التي شرعت سرًّا، وتطويل ما السنة تخفيفه وحذفه، كالتشهد الأول
والسلام الذي حذفه سنة. وزيادة التطويل على ما فعله رسول الله صلى الله عليه
وسلم لا على ما يظنه سرّاق الصلاة والنقّارون لها ويشتهونه، فإن النبي صلى الله
عليه وسلم لم يكن ليأمر بأمر ويخالفه، وقد صانه الله من ذلك وكان يأمرهم
بالتخفيف ويؤمهم بالصافات، ويأمرهم بالتخفيف وتقام صلاة الظهر فيذهب الذاهب
إلى البقيع فيقضي حاجته ويأتي أهله ويتوضأ ويدرك رسول الله صلى الله عليه
وسلم في الركعة الأولى. فهذا هو التخفيف الذي أمر به، لا نَقر الصلاة وسرَقها،
فإن ذلك اختصار - بل اقتصار - على ما يقع عليه الاسم ويسمى به مصليًا. وهو
كأكل المضطر في المخمصة ما يسد به رمقه، فليته شبع على القول الآخر. وهو
كجائع قدم إليه طعام لذيذ جدًّا فأكل منه لقمة أو لقمتين فماذا يغنيان عنه؟ ولكن لو
أحسن مجموعة لما قام عن الطعام حتى يشبع منه وهو يقدر على ذلك، لكن القلب
شبعان من شيء آخر.
ومثال هذا التوسط في حق الأنبياء - عليهم السلام - أن لا يغلو فيهم كما
غلت النصارى في المسيح، ولا يجفو عنهم كما جفت فيهم اليهود، فالنصارى
عبدوهم واليهود قتلوهم وكذبوهم، والأمة الوسط آمنوا بهم وعزّروهم ونصروهم
واتبعوا ما جاؤوا به.
ومثال ذلك في حقوق الخلق أن لا يفرط في القيام بحقوقهم، ولا يستغرق فيها
بحيث يشتغل بها عن حقوق الله أو عن تكميلها أو عن مصلحة دينه وقلبه، وأن لا
يجفو عنها حتى يعطلها بالكلية، فإن الطرفين من العدوان الضار، وعلى هذا الحد
فحقيقة الأدب هو العدل، والله أعلم.
***
فصل
قال: (وهو على ثلاث درجات، الدرجة الأولى منع الخوف أن يتعدى إلى
اليأس [٢] وحبس الرجاء أن يخرج إلى الأمن، وضبط السرور أن يضاهي الجرأة)
يريد أنه لا يدع الخوف يفضي به إلى حد يوقعه في القنوط واليأس من رحمة الله
فإن هذا خوف مذموم. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: حد
الخوف ما حجزك عن معاصي الله، فما زاد على ذلك فهو غير محتاج إليه. وهذا
الخوف الموقع في الإياس إساءة أدب على رحمة الله تعالى التي سبقت غضبه
وجهلٌ بها.
وأما حبس الرجاء أن يخرج إلى الأمن فهو أن لا يبلغ به الرجاء إلى حد يأمن
معه العقوبة، فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، وهذا إغراق في الطرف
الآخر، بل حد الرجاء ما طيّب لك العبادة، وحملك على السير، فهو بمنزلة الرياح
التي تُسيّر السفينة، فإذا انقطعت وقفت السفينة، وإذا زادت ألقتها إلى المهالك،
وإذا كانت بقدر أوصلت إلى البُغية.
وأما ضبط السرور أن يخرج إلى مشابهة الجرأة، فلا يقدر عليه إلا الأقوياء
أرباب العزائم الذين لا تستفزهم السرّاء فتغلب شكرهم، ولا تضعفهم الضرّاء فتغلب
صبرهم، كما قيل:
لا تغلب السراءُ منهم شكرَهم ... كلا ولا الضراءُ صبرَ الصابر
والنفس قرينة الشيطان ومصاحبته وتشبهه في صفاته، ومواهب الرب تبارك
وتعالى تنزل على القلب والروح، فالنفس تسترق السمع، فإذا نزلت على القلب
تلك المواهب وثَبتْ لتأخذ قسطها منها وتصيره من عدتها وحواصلها،
فالمسترسل معها الجاهل بها يدعها تستوفي ذلك، فبينا هو في موهبة للقلب والروح
وعدة وقوة له، إذ صار ذلك كله من حاصل النفس والتها وعددها، فصالت به
وطغت لأنها رأت غناها به، والإنسان يطغى أن رآه استغنى بالمال، فكيف بما
هو أعظم خطرًا وأجلّ قدرًا من المال، بما لا نسبة بينهما من علم أو حال أو معرفة
أو كشف؟ فإذا صار ذلك من حاصلها انحرف العبد به - ولا بد - إلى طرف مذموم
من جرأة أو شطح أو إدلال ونحو ذلك.
ولله كم ههنا من قتيل وسليب وجريح يقول: من أين أوتيت؟ ومن أين دُهيت
؟ ومن أين أُصبت؟ وأقل ما يعاقب به من الحرمان بذلك أن يغلق عنه باب المزيد،
ولهذا العارفون وأرباب البصائر إذا نالوا شيئًا من ذلك انحرفوا إلى طرف الذل
والانكسار ومطالعة عيوب النفس، واستدعوا حارس الخوف، وحافظوا على الرباط
بملازمة الثغر بين القلب وبين النفس، ونظروا إلى أقرب الخلق من الله وأكرمهم
عيه وأدناهم منه وسيلة وأعظمهم عنده جاهًا، وقد دخل مكة يوم الفتح وذقنه تمس
قربوس سرجه انخفاضًا وانكسارًا وتواضعًا لربه تعالى في مثل تلك الحال التي عادة
النفوس البشرية فيها أن يملكها سرورها وفرحها بالنصر والظفر والتأييد ويرفعها إلى
عنان السماء، فالرجل مَن صان فتحه ونصيبه من الله، وواراه عن استراق نفسه
وبخل عليها به، والعاجز من جاد لها به، فيا له من جود ما أقبحه، وسماحة ما
أسفه صاحبها! والله المستعان.
***
فصل
قال: (الدرجة الثانية: الخروج من الخوف على ميدان القبض، والصعود [٣]
عن الرجاء إلى ميدان البسط، ثم الترقي عن [٤] السرور إلى ميدان المشاهدة) ذكر
في الدرجة الأولى كيف يحفظ الحد بين المقامات حتى لا يتعدى إلى غلو أو جفاء،
وذلك سوء أدب، فذكر منع الخوف أن يخرجه إلى اليأس [٥] والرجاء أن يخرجه
إلى الأمن، والسرور أن يخرجه إلى الجرأة. ثم ذكر في هذه الدرجة أدب الترقي
من هذه الثلاثة إلى ما يحفظه [٦] عليها ولا يضيعها بالكلية، كما أن في الدرجة
الأولى لا يبالغ به؛ بل يكون خروجه من الخوف إلى القبض، يعني لا يزايل
الخوف بالكلية، فإن قبضه لا يؤيسه ولا يقنطه ولا يحمله على مخالفة ولا بطالة،
وكذلك رجاؤه لا يقعد به عن ميدان البسط؛ بل يكون بين القبض والبسط، وهذه
حال المال، وهي السير بين القبض والبسط، وسروره لا يقعد [٧] به عن ترقيه
إلى ميدان مشاهدته، بل يرقى بسروره إلى المشاهدة، ويرجع من رجائه إلى البسط،
ومن خوفه إلى القبض. ومقصوده أن ينتقل من أشباح هذه الأحوال إلى أرواحها،
فإن الخوف شبح والقبض روحه، والرجاء شبح والبسط روحه، والسرور شبح
والمشاهدة روحه، فيكون حظه [٨] من هذه الثلاثة أرواحها وحقائقها، لا صورها
ورسومها.
***
فصل
قال: (الدرجة الثالثة معرفة الأدب، ثم الفناء [٩] عن التأدب بتأديب الحق،
ثم الخلاص من شهود أعباء الأدب) قوله: (معرفة الأدب) يعني لا بد من
الاطلاع على حقيقته في كل درجة، وإنما يكون ذلك في الدرجة الثالثة، فإنه
يشرف منها على الأدب في الدرجتين الأوليين، فإذا عرفه وصار له حالاً فإنه ينبغي
له أن يفنى عنه، بأن يغلب عليه شهود مَن أقامه فيه فينسبه إليه تعالى دون نفسه،
ويفنى عن رؤية نفسهِ وقيامها بالأدب بشهود الفضل لِمَن أقامه فيه ومنته، فهذا هو
الفناء عن التأدب بتأديب الحق. قوله: (ثم الخلاص من شهود أعباء الأدب) يعني
أنه يفنى عن مشاهدة الأدب بالكلية لاستغراقه في شهود الحقيقة في حضرة الجمع التي
غيبته عن الأدب، ففناؤه عن الأدب فيها هو الأدب حقيقة، فيستريح حينئذٍ من كُلفة
حمل أعباء الأدب وأثقاله؛ لأن استغراقه في شهود الحقيقة لم يبق عليه شيئًا من
أعباء الأدب. والله سبحانه وتعالى أعلم.
((يتبع بمقال تالٍ))