(كتاب تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية) لكل عصر من الأعصار مناهج مخصوصة في شؤون أهله الحسية والمعنوية أو المادية والأدبية والأمور الثابتة التي تتغير بتغيُّر الزمان يطرأ التغيير على وسائلها وعوارضها، وقد قال العلماء: إن من أسباب تغير الشرائع حتى السماوية اختلاف شؤون البشر باختلاف الزمان. وأجمع المسلمون على أن الدين الإسلامي آخر الأديان وشريعته خاتمة الشرائع. وإنما كان كذلك؛ لأنه جاء بقواعد عامة تنطبق على مصالح البشر في عصر التشريع وفي كل عصر يأتي بعده مهما بلغوا من الترقي في العلوم والأعمال، لكن هذه القواعد الصحيحة الثابتة تحتاج إلى من يجليها في هذا العصر بما يناسبه ويستنبط منها الأحكام التي توافق مصالح أهله، ولا يمكن أن يقوم بهذا العمل الشريف الذي يتوقف عليه حفظ الإسلام وأهله فضلاً عن انتشاره وعزة أهله - إلا مَنْ عرف وقته وعرف الدين معرفة صحيحة. ومن الأسف أن أكثر التصانيف الإسلامية في القرون الأخيرة أو كلها مأخوذة من كتب المتقدمين نسخًا يشبه المسخ، وأنه لم يكن يوجد عندنا كتاب في الدين إذا عرض على متمدني هذا العصر يأخذ من قلوبهم مأخذًا يستلفتهم إلى النظر في الدين بتمثيله سائقًا لهم إلى سعادة الروح والجسد على الوجه الذي يناسب زمنهم وعمرانهم حتى قام حكيم المسلمين في هذا العصر العلامة الشيخ محمد عبده وألف (رسالة التوحيد) الشهيرة. وأمامنا الآن كتاب (تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية) الذي نوهنا به في العدد ٣٣ من السنة الأولى لجريدتنا عند الشروع في طبعه وذكرنا أن مؤلفه صديقنا هو القاضي الشاب الذي فاق الشيوخ أناة وكمالاً وعملاً بعمله محمد فريد أفندي وجدي. أما الكتاب فقد تم طبعه وقرأناه فإذا هو قد وافق اسمه مسماه، افتتحه بمقدمات في الدين والعلم والإسلام، بيَّن فيها أن الدين ناموس عام ضروري في الكون كسائر نواميسه، وذكر آراء مشاهير فلاسفة أوربا في النسبة بين الدين والعلم وفيما ينبغي أن يكون عليه الدين، وبيّن أن العلوم الطبيعية خدمت الإسلام وأنها كلما ترقت وزاد الناس رسوخًا فيها زادوا قربًا من الإسلام، وأن القواعد التي وضعها الفلاسفة للديانة الطبيعية موجودة في دين الإسلام، وهي أربع: (١) الاعتقاد بأن الله غني عنا وعن أعمالنا. (٢) وأنه رحيم بنا ويود صلاحنا. (٣) أن العبادة يجب أن تنطبق على النواميس الثابتة للحياة وتلائم الطبيعة البشرية لا أن تعارضها وتسعى في ملاشاتها. (٤) وأن العبادة الجسمية يجب أن تعتبر وسائل لتطهير النفوس وتهذيبها لا أغراضًا مطلوبة لذاتها. واستدل على وجواد هذه الأشياء في الإسلام بالكتاب والسنة، ثم عقد فصولاً في نواميس المدنية وانطباقها على الإسلام مبينًا النواميس بأقوال علماء أوربا مستشهدًا على الانطباق بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية. وأراني مضطرًّا لأن أقول: إن من الأحاديث التي أوردها ما لا يصح رواية وإن كان معناه صحيحًا ومسلّمًا في الدين ولو راجع كتب الحديث لوجد في معنى تلك الأحاديث الواهية الإسناد أحاديث صحيحة، وعساه يستدرك هذا في طبعة ثانية. وقد خاض الكتاب في كثير من المسائل العصرية وبيّن نسبتها إلى الدين الإسلامي: كالحرية بأنواعها، والواجبات بأنواعها، وبراءة الإسلام من الحقد الديني المعبر عنه بالتعصب والاسترقاق، وأن الإسلام راعى فيه ناموس، الحضارة وكون الإسلام هو الدين الوحيد الذي راعى حقوق الروح والجسد معًا، وختم الكتاب بنظرة في الإسلام والمسلمين أجمل فيها القول في أمراض المسلمين وبيان دوائها الذي هو الإسلام نفسه. وكفى هذا الكتاب شرفًا أننا جعلناه ثاني كتاب رسالة التوحيد التي لم يؤلّف مثلها في الإسلام قط، ولعمري إن مؤلفه الفاضل جرى على آثار الأستاذ في الرسالة أسلوبًا وبحثًا، ولا يعيبه أنه لم يبلغ شأوه بلاغةً وتحقيقًا وتحريرًا؛ فالأستاذ حكيم الأمة في هذا العصر وأبلغ كُتاب العربية أجمعين. ومن جملة ما تبع فيه رسالة التوحيد تشبيه النوع الإنساني كله بشخص منه، وبيان أن جميع الأديان والشرائع السابقة كانت مناسبة لأطوار النوع من الطفولية ومبادئ التمييز، وأن الإسلام هو الدين الذي منَّ الله به على الإنسان عند ابتداء دخوله في طور الرشد والعقل؛ ولهذا كان آخر الأديان، على أن في الكتاب من الفوائد الكثيرة ما ليس في الرسالة كما أن فيها ما ليس فيه، فلا يُستغنَى بأحدهما عن الآخر. ومما يمتاز به الكتاب سهولة التناول؛ فيتسنى لجميع طبقات الناس فهمه. وسننقل منه نموذجًا تعرف به مكانته من الفائدة إن شاء الله تعالى. ومما انتقدناه على صديقنا الفاضل مؤلفه أنه هضم حقنا في خدمتنا في المنار؛ حيث قال - في فاتحة الكتاب - ما نصه: (نسمع كل جمعة على المنابر قائلاً يقول: لم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه. ولكنا لم نسمع قط بأن عاقلاً قام يبحث بدقة وثبات عن أسباب هذا الاضمحلال الشديد الذي وقعت فيه الأمة الإسلامية من منذ (كذا) قرون كثيرة، أما والعلم لو بحث باحث عن علل هذا الهبوط الهائل بعد ذلك الصعود السريع - ما وجدها إلا في ترك السنن واتباع البدع) . نحن قد سبقناه إلى هذا في المنار إجمالاً وتفصيلاً؛ حتى إن عبارة الخطباء التي قالها قد ذكرناها في مقالة افتتحنا بها العدد ١٩ من السنة الأولى أو تكلمنا فيها على البدع. وقد كتب المؤلف - لهذا العاجز منشئ المنار - كتبًا كثيرة يثني فيها على خدمتنا للإسلام، وكأنه ذهل عن ذلك عند كتابة ما ذكر، وسبحان المنزه عن الذهول والنسيان. *** (إظهار لفضل وإصداع بحق) لبعض الأدباء التونسيين لا يخفى على حضرة القراء أنه ظهر في عالم المطبوعات من عهد غير بعيد جريدة المنار المصرية لمنشئها الفاضل السيد محمد رشيد رضا وهو أحد فضلاء الشرقيين، ومن يوم بروز هاته الجريدة إلى عالم الوجود أخذت تنشر مقالات علمية في مواضيع شتى، يكتب مضمونها بالنور على نحو الحور، ولقد تصفحنا ما صدر منها عددًا عددًا؛ فوجدناها قد بينت الأسباب التي هدمت الهيكل الإسلامي وقوضت مجده إلى أن أوصلته إلى حالة اليوم. منها مقالة في الإصلاح الديني المقترح على مقام الخلافة الإسلامية في تلافي البدع والتعاليم الفاسدة التي انتشرت بين المسلمين انتشارًا أضر بجامعتهم. ومنها مقالات في أعمال المنتسبين للأولياء والصوفية التي خالفت الشرع ظاهرًا وباطنًا والاحتجاج عليهم بكتاب الله وسنة رسوله وأعمال السلف الصالح، إلى غير ذلك من المقالات التي وقع لها دوي عظيم في الأصقاع الإسلامية، وحيث كانت هاته الأفكار لا تخفى على مَن له اطلاع على ما جاءت به شريعتنا السمحاء وعلى ما يعتقده غالب الإسلام من الخرافات الباطلة والأوهام الفاسدة - وجب علينا أن نعضد هذا الفكر بكل ما في الوسع، ونعلن بفضل هاته الجريدة على رؤوس الملأ. ولا فائدة لنا في بيان ما اشتملت عليه من الحقائق المسلّمة، وإنما نحثّ أبناء العلم والوطن على اقتناء هاته الجريدة الغراء؛ فإنها المرشدة الوحيدة واللؤلؤة الفريدة والناصحة الأمينة والدرة الثمينة، ونقدم إلى صاحبها خالص الشكر والثناء عما قام به من النصيحة نحو المسلمين، والله لا يضيع أجر المحسنين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الحاضرة)
(المنار) إذا كان الإخلاص في النصيحة حسنًا فتوجيه النظر إلى سماعها يكون حسنًا أيضًا، وإذا كانت خدمة الملة والأمة محمودة فلا شك أن المساعدة عليها محمودة، وحيث كان الساعي بالخير كفاعله فصاحب هذه النبذة الحاضَّة على زيادة انتشار المنار - هي مشاركة لنا في الخدمة به، فحمدًا له وشكري، ونسأل الله تعالى أن يكثر في الأمة أمثاله من أهل الغيرة والفضل.