للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحمد بن تيمية


مسألة صفات الله تعالى
وعلوه على خلقه بين النفي والإثبات
جواب سؤال رفع إلى شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية [١]
رحمه الله تعالى

وهكذا ذكر أهل الكلام الذين ينقلون مقالات الناس مقالة أهل السنة وأهل
الحديث، كما ذكره أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي صنفه في اختلاف المصلين،
ومقالات الإسلاميين، فذكر فيه أقوال الخوارج والرافضة والمعتزلة، والمرجئة
وغيرهم، ثم قال: ذِكر مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث وجملة قولهم: الإقرار
بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاء من عند الله، وبما رواه الثقات عن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يردون من ذلك شيئًا إلى أن قال: (وأن
الله على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: ٥) وأن له
يدين بلا كيف كما قال تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي} (ص: ٧٥) وأقروا أن لله علمًا
كما قال {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} (فصلت: ٤٧) وأثبتوا السمع
والبصر، ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة، وقالوا: إنه لا يكون في
الأرض خير ولا شر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله، كما قال
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّه} (الإِنسان: ٣٠) إلى أن قال: ويقولون: إن
القرآن كلام الله غير مخلوق، ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - مثل (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر فأغفر له) كما جاء في الحديث.
ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ} (الفجر: ٢٢) وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ
مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: ١٦) وذكر أشياء كثيرة، إلى أن قال: فهذه جملة ما يأمرون
به ويستعملونه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قوله نقول وإليه نذهب.
قال الأشعري أيضًا في مسألة الاستواء: قال أهل السنة وأصحاب الحديث:
ليس بجسم، ولا يشبه الأشياء، وأنه على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى
العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: ٥) ولا نتقدم بين يدي الله في القول، بل نقول: استوى بلا
كيف، وأن له يدَين بلا كيف كما قال تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي} (ص: ٧٥)
وأن الله ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث، قال: وقالت المعتزلة استوى
على عرشه بمعنى استولى، وقال الأشعري أيضًا في كتاب الإبانة في أصول الديانة
في باب الاستواء: إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل: نقول له إن الله
مستوٍ على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: ٥) وقال:
{ِإلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ} (فاطر: ١٠) ، وقال: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (النساء: ١٥٨) وقال حكاية عن فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً
لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} (غافر: ٣٦- ٣٧) كذب فرعون موسى في قوله: إن الله فوق السموات، وقال الله
تعالى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} (الملك:
١٦) ، فالسموات فوقها العرش، وكل ما علا فهو سماء، وليس إذا قال: {أَأَمِنتُم
مَّن فِي السَّمَاءِ} (الملك: ١٦) يعني جميع السموات، وإنما أراد العرش الذي هو
أعلى السموات، ألا ترى أنه ذكر السموات فقال: {وجعل القمر فيهن
نورًا} (نوح: ١٦) ولم يرد أنه يملأ السموات جميعًا، ورأينا المسلمين جميعًا
يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء؛ لأن الله مستوٍ على العرش الذي هو فوق
السموات، فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، وقد قال
قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية: (إن معنى استوى استولى وملك وقهر،
وأن الله في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق،
وذهبوا في الاستواء إلى القدرة فلو كان كما قالوا كان لا فرق بين العرش الأرض
السابعة؛ لأن الله قادر على كل شىء، والأرض فالله قادر عليها وعلى
الحشوش، والأخلية فلو كان مستويًا على العرش بمعنى الاستيلاء لجاز أن يقال:
هو مستوٍ على الأشياء كلها وعلى الحشوش والأخلية فبطل أن يكون معنى الاستواء
على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، وقد نَقل هذا عن
الأشعري غير واحد من أئمة أصحابه كابن فورك والحافظ ابن عساكر في كتابه الذي
جمعه في تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري، وذكر
اعتقاده الذي ذكره في الإبانة، وقوله فيه: فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة،
والقدرية، والجهمية، والحلولية، والرافضة، والمرجئة؛ فعرفونا قولكم الذي به
تقولون، وديانتكم التي بها تدينون؛ قيل له: قولنا الذي به نقول، وديانتنا التي بها
ندين: التمسك بكتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما روي عن
الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد
بن حنبل ـ نضَّر الله وجهه ـ قائلون، ولِما خالف فيه مُجانبون لأنه الإمام
الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج
وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكّين ورحمة الله عليه
من إمام مقدم، وكبير مُفهم وعلى جميع أئمة المسلمين.
وجملة قولنا: إنَّا نُقر بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، وما جاء من عند الله
وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر ما تقدم وغيره في
جمل كبيرة أوردت في غير هذا الموضع. وقال أبو بكر الآجرّي في كتاب الشريعة:
الذي يذهب إليه أهل العلم أن الله تعالى على عرشه فوق سمواته وعلمه محيط بكل
شيء، قد أحاط بجميع ما خلق في السموات العلى وجميع ما في سبع أرضين يرفع
إليه أفعال العباد، فإن قال قائل: أي شيء معنى قوله: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى
ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} (المجادلة: ٧) الآية.
قيل له: علمه وهو على عرشه وعلمه محيط بهم كذا فسره أهل العلم والآية
يدل أولها وآخرها أنه العلم وهو على عرشه هذا قول المسلمين.
والقول الذي قاله الشيخ محمد بن أبي زيد وأنه فوق عرشه المجيد بذاته،
وهو في كل مكان بعلمه قد تأوله بعض المبطلين بأن رفع المجيد، ومراده أن الله
هو المجيد بذاته، وهذا مع أنه جهل واضح فإنه بمنزلة أن يقال الرحمن بذاته
والرحيم بذاته والعزيز بذاته.
وقد صرح ابن أبي زيد في المختصر بأن الله في سمائه دون أرضه، هذا
لفظه والذي قاله ابن أبي زيد مازالت تقوله أئمة أهل السنة في جميع الطوائف.
وقد ذكر أبو عمرو الطلمنكي الإمام في كتابه الذي سماه الوصول إلى معرفة
الأصول: (إن أهل السنة والجماعة متفقون على أن الله استوى بذاته على عرشه
وكذلك ذكره عثمان بن أبي شيبة حافظ الكوفة في طبقة البخاري، ونحوه ذكر ذلك
عن أهل السنة والجماعة، وكذلك ذكره يحيى بن عمار السجستاني الإمام في
رسالته المشهورة في السنة التي كتبها إلى ملك بلاده، وكذلك ذكره أبو نصر السجزي
الحافظ في كتاب الإبانة له، قال: وأئمتنا كالثوري ومالك وابن عيينة وحماد بن
سلمة وحماد بن زيد وابن المبارك وفضيل بن عياض وأحمد وإسحاق متفقون
على أن الله فوق العرش بذاته، وأن علمه بكل مكان. وكذلك ذكر شيخ الإسلام
الأنصاري وأبو العباس الطرقي والشيخ عبد القادر ومن لا يحصي عدده إلا الله من
أئمة الإسلام وشيوخه.
وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني صاحب حلية الأولياء وغير ذلك من
المصنفات المشهورة في الاعتقاد الذي جمعه: طريقنا طريق السلف المتبعين الكتاب
والسنة وإجماع الأمة، قال وما اعتقدوه أن الله لم يزل كاملاً بجميع صفاته القديمة لا
يزول ولا يحول، لم يزل عالمًا بعلم، بصيرًا ببصر، سميعًا بسمع، متكلمًا بكلام
أحدث الأشياء من غير شيء وأن القرآن كلام الله، وسائر كتبه المنزلة كلامه
غير مخلوق وأن القرآن من جميع الجهات مقروءًا ومتلوًا ومحفوظًا ومسموعًا
وملفوظًا كلام الله حقيقة لا حكاية ولا ترجمة، وأنه بألفاظنا كلام الله غير مخلوق،
وأن الواقفة من اللفظية من الجهمية، وأن من قصد القرآن بوجه من الوجوه يريد
خلق كلام الله فهو عندهم من الجهمية، وأن الجهمي عندهم كافر وذكر أشياء
إلى أن قال: والأحاديث التي ثبتت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في
العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل وأن الله
بائن من خلقه والخلق بائنون منه لا يحل فيهم، ولا يمتزج بهم وهو مستو على
عرشه في سمائه من دون أرضه، وذكر سائر اعتقادات السلف وإجماعهم على ذلك
وقال يحيى بن عثمان في رسالته: لا نقول كما قالت الجمهية أنه مداخل الأمكنة
وممازج كل شيء، ولا نعلم أين هو، بل نقول: هو بذاته على عرشه
وعلمه محيط بكل شيء وسمعه وبصره وقدرته مدركة لكل شيء وهو معنى قوله:
{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (الحديد: ٤) وقال الشيخ العارف معمر بن أحمد شيخ
الصوفية في هذا العصر: أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة وأجمع ما كان
عليه أهل الحديث وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين فذكر
أشياء من الوصية إلى أن قال فيها: وإن الله استوى على عرشه بلا كيف، ولا
تأويل والاستواء معقول والكيف مجهول، وإنه مستو على عرشه بائن من خلقه
والخلق بائنون منه بلا حلول ولا ممازجة، ولا ملاصقة، وإنه - عز وجل - بصير
سميع عليم خبير يتكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب، يتجلى لعباده يوم
القيامة ضاحكًا وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء بلا كيف ولا تأويل، ومن
أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال، وقال الإمام أبو عثمان إسماعيل بن
عبد الرحمن الصابوني النيسابوري في كتاب (الرسالة في السنة)
ويعتقد أصحاب الحديث ويشهدون أن الله فوق سبع سمواته على عرشه كما نطق
به كتابه وعلماء الأمة، وأعيان سلف الأمة لم يختلفوا أن الله تعالى على عرشه فوق
سمواته. قال: وأما إمامنا أبوعبد الله الشافعي احتج في كتابه المبسوط في مسألة
إعتاق الرقبة المؤمنة في الكفارة، وأن الرقبة الكافرة لا يصح التكفير بها بخبر
معاوية بن الحكم وأنه أراد أن يعتق الجارية السوداء عن الكفارة؛ وسأل النبي -
صلى الله عليه وسلم - عن إعتاقه إياها، فامتحنها ليعرف أنها مؤمنة أم لا، فقال
لها (أين ربك؟ فأشارت إلى السماء، فقال: أعتقها فإنها مؤمنة) فحكم بإيمانها لما
أقرت أن ربها في السماء وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي باب القول في الاستواء:
قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: ٥) ثم استوى
على العرش، {وهو القاهر فوق عباده} (الأنعام: ٦١) ، {يخافون ربهم
من فوقهم} (النحل: ٥٠) ، {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} (فاطر: ١٠) ، ? {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} (الملك: ١٦) وأراد من فوق السماء
كما قال: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (طه: ٧١) وقال: {فَسِيحُوا فِي
الأَرْض} (التوبة: ٢) أي على الأرض، وكل ما علا فهو سماء والعرش أعلى
السموات، فمعنى الآية، ءأمنتم من على العرش كما صرح به في سائر الآيات
قال: (وفيما ذكرنا من الآيات دلالة على إبطال قول من زعم من الجهمية أن الله
بذاته في كل مكان، وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُم} (الحديد: ٤) إنما أراد بعلمه
لا بذاته.
وقال أبو عمر بن عبد البر في شرح الموطأ لما تكلم على حديث النزول قال:
وهذا حديث لم يختلف أهل الحديث في صحته، وفيه دليل أن الله في السماء على
العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة وهو من حجتهم على المعتزلة،قال:
وهذا أشهر عند الخاصة والعامة وأعرف من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته؛
لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم، وقال أبو عمر أيضًا:
أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم قالوا في تأويل قوله: {مَا يَكُونُ
مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (المجادلة: ٧) هو على العرش، وعلمه في كل
مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يُحتج بقوله.
وقال شيخ الإسلام المسؤول - أيده الله -: فهذا ما تلقاه الخلف عن السلف؛ إذ لم
ينقل عنهم غير ذلك؛ إذ هو الحق الظاهر الذي دلت عليه الآيات الفرقانية
والأحاديث النبوية فنسأل الله العظيم أن يختم لنا بخير ولسائر المسلمين، وأن لا
يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا بمنه وكرمه، إنه أرحم الراحمين.
والحمد لله وحده
((يتبع بمقال تالٍ))