للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


موافقة وانتقاد
قرأنا في جريدة المقطم الصادرة في ٤ يناير مقالة تحت عنوان: (الرأي العام-
امتيازات الأجانب) بإمضاء (يوسف نحاس) بيَّن فيها كاتبها النبيل أن العلماء الذين
بحثوا في سبب إباحة الدولة العَلِيّة للدول الأجانب الامتيازات الشاذة عن
القوانين الدولية المقدسة، اتفقوا على أنها لم تمنحهم إياها مضطرة (اضطرارها
الآن إلى تلبية مطالب أوروبا) لأنها كانت وقتئذ في عنفوان دولتها ذات قوة ومنعة،
لا يُرهبها وعيد ولا يَهولها تهديد. وثانيًا: لأن الدول المسيحية لم تطلب منها تلك
الامتيازات بصوت واحد، ولا توعدتها بحشد الجيوش ومعاملتها بالقوة والإكراه إذا
هي لم تُعطها ما طلبت عفوًا، فالسلاطين لم يفعلوا ما فعلوا إكراهًا، بل عن
طيب نفس و (خاطر) ثم قال: إن السلاطين لم يعتنوا بمزج الشعوب التي
أخضعوها وجعلها أمة واحدة (بل حفظوا لتلك الشعوب صبغتها وتقاليدها الأصلية،
وعدُّوها كأجنبية عنهم، واستشهد على ذلك بأن السلطان محمد الفاتح نصب بطريركًا
للروم في القسطنطينية (وأعطاه الأمان على دينه وسلطة مدنية على أبناء طائفته،
فبقي الروم ممتازين عن الفاتحين، ولم تسعَ الحكومة قط في مزجهم بسائر رعيتها،
ولا حاولت تغيير عوائدهم ودينهم، فكان بين الفريقين حد فاصل، ولكل أمة منهما
حياة خاصة بها، وهذا التفريق هو الذي مكن الشعوب الخاضعة للسلطان من حفظ
جنسيتها وحياة أمتها على ممر السنين وإنعاشها عندما استطاعت التنصل من ربقة
العبودية (وكان الصواب أن يقول: عندما كفرت النعمة وخرجت عن الطاعة؛ إذ
العبودية بعيدة بمراحل عن الاستقلال الديني والمدني، بل الامتياز على سائر الأمة،
ولو استُعبدوا لمُحيت جنسيتهم وماتت عزتهم، حتى لا يمكنهم أن يثوروا، بل ولا
أن يتفكروا في الثورة والخروج، وإذا أمكنهم شيء من ذلك بعد طول الأمد فالنجاح
يكون بعيدًا عنهم بمراحل، كما تشاهد فيمن تستعبده دول أوروبا من الشعوب
الشرقية) ثم قال حضرة الكاتب البارع: (فإذا كانت هذه سياسة الحكومة العثمانية مع
الأمم الخاضعة للعمل العثماني، فكيف تحاول مزج الأجانب النزلاء برعاياها، وبسط
أحكامها عليهم) ثم علل ذلك بقوله: (والذي ساعد في البدء على حفظ ذلك الحق
للأجانب هو تقاليد الإسلام نفسه، فإنه يخص أهل الإسلام وحدهم بشريعته، ولا يبيح
إطلاقها على غيرهم من الأجانب) .
وهنا محل الانتقاد الذي كتبنا لأجله هذه السطور، فما ذكره حضرة الكاتب
غير صحيح، فإن الشريعة الإسلامية عامة يجب على الحكام القضاء بها بين جميع
الأمم التي تدخل في سلطة أهلها وبين كل من يتحاكم إلى حكامها من الأجانب، أما
في الذميين فلأننا - كما قال البيضاوي - أُمرنا بالذب عنهم ودفع الظلم منه. وأما
في الأجانب: فلأنه لا حكم إلا لله ولإراءتهم عدلنا واستمالتهم به وغير ذلك. وكان
القرآن خيَّر النبي عليه السلام في الحكم بين الأجانب وعدمه، فقال في شأن اليهود
الذين لم يكونوا أهل ذمة: {فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ
عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (المائدة: ٤٢) ولذلك اختلف الفقهاء في تخيير القاضي بالحكم بينهم، ومذهب
الحنفية الذي عليه الدولة العلية أن الحكم بينهم واجب مطلقًا، وكأنهم يرون التخيير
مخصوصًا بالنبي أو بتلك الحال أو يرون نسخه بقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} (المائدة: ٤٨) الآية، نعم، إن الإسلام منع الإكراه في الدين وأعطى حرية لأهل
كل دين في شؤونهم الدينية، ولم يجعل لأمراء المسلمين سلطة عليهم في ذلك. وأما
الحقوق فإذا تراضوا بينهم فيها فالحكام المسلمون لا يعارضونهم في ذلك ما لم تُنتهك
الحقوق العمومية، أما إذا تحاكموا إليهم في أي نوع من أنواع الحقوق فإنهم يحكمون
بينهم بالشريعة لا محالة. وكأن الكاتب اشتبه عليه معنى حرية الدين في الإسلام،
فظن أنها تشمل الأمور المدنية والقضائية، ويوشك أن يكون أخذ ذلك من فعل
السلطان محمد الفاتح، ظنًّا منه أن فعله حجة شرعية وليس كذلك. ولقد غلط بتساهله
في هذه المسألة غلطة لا تغفر عند أرباب السياسة، والدولة تذوق مرارتها إلى اليوم.
هذا وإن الجامعة العثمانية لا تقوم إلا بوحدة الأحكام، إذ يستحيل عادة أن يجمع
شعوبها دين أو لغة. ومحاكم الدولة العلية جارية على ما ذكرنا حتى المحاكم
الشرعية، فإن الذميين يتحاكمون إليها في المواريث وغيرها، فيحكم القضاة بينهم
بالشريعة الغراء كما هو معلوم للجميع.