للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تركيا في بلاد العرب

عقد محرر جريدة التيمس الإنكليزية الشهيرة مقالة في مسألة شبه جزيرة
العرب، ترجمتها بالعربية جريدتا الهدى ومرآة الغرب الشهيرتين في نيويورك
فأحببنا أن ننشر ترجمتها في المنار وهي:
اهتم الناس كل الاهتمام بالمأساة العظيمة التي تمثلت في شبه جزيرة البلقان
حتى إنهم لم يكترثوا كثيرًا للمعارك الصغيرة التي نشبت من مضي شهرين أو ثلاثة
أشهر في بلاد العرب.
وقد كانت العرب من مضي عدة قرون أرضًا مجهولة مهجورة مرت حولها
مجاري التاريخ البشري دون أن تتوغل فيها. وهي شبه جزيرة كبرى واقعة بين
ثلاث قارات كبرى تتكسر أمواج البحار العظمى على شواطئها من ثلاث جهات،
وكل سنة يسير على سواحلها العارية الجرداء عشرات الألوف من الناس، ولكنها
بالرغم من ذلك لا يعرف الناس عنها أكثر مما عرفوه عن آشور في أيام آشور
بانيبال.
ولكننا نسمع بعض الأحيان من وراء كثبانها المحرقة أصداء ضعيفة عن قتال
شديد ناشب هناك، وترد على أسواق بومباي والقاهرة أخبار معارك شديدة بين
محاربين مدرعين وجيوش تتماصع بالسيوف وتتطاعن بالذوابل، وتتراشق بالسهام،
وتتقاتل في الليل ويقع بينها حصار وخروج وهجوم ومباغتة.
وهؤلاء الناس بالرغم من أنهم لا يزالون على بداوتهم يتأثرون بمجرى
الشئون الحديثة كما أثبتت الحوادث الأخيرة، فلما انتصر البلغاريون على العثمانيين
في تراقية وأرجعوهم إلى خطوط شتالجه قال الناس: إن تركيا تقدر أن تنشئ مملكة
عثمانية مجددة في آسيا الصغرى، وقد وافقهم على قولهم هذا القليلون الذين عرفوا
الحقيقة، ولكنهم ارتابوا في ما إذا كان الأتراك يقدرون أن يؤيدوا سلطتهم المتداعية
في أطراف بلاد العرب، فلم تكد معاهدة الصلح توقع في لندن حتى ثار العرب في
أواسط شبه جزيرة العرب، ولكن ثورتهم لم تكن منظمة؛ إذ لم تسر كتائب من
الجنود المنظمة على الطرق الصحراوية بل وقع القتال بين ثلات قليلة من
فرسان العرب غير المدربين على أساليب القتال الحديث، وشراذم من الجنود
العثمانيين ذوي الملابس الرثة، وقد انتصر العرب في الشهر الماضي على الجنود
العثمانيين وأخرجوهم من شرقي بلاد العرب وبذلك ذهبت فتوحات مدحت باشا
المتقلقلة في بلاد العرب، وأصبحت الطرق الشرقية إلى مدينتي الإسلام المقدستين
مكة والمدينة تحت رحمة زعماء العرب المنتصرين.
ولا يمكن القول بأن اندحار الأتراك في الحرب البلقانية أحدث هذه الحركة في
بلاد العرب فإنها بدون تلك الحرب ممكن حوثها لأن سيطرة الأتراك على بلاد
العرب لم تكن قط قائمة على ركن منيع، فمن مضي مائة سنة قامت الحركة
الوهابية في بلاد العرب واستولى الوهابيون الخارجون على الدين الإسلامي (؟)
والخلافة الإسلامية على أكثر جهات شبه جزيرة العرب، ونهبوا مكة: مقدس
المسلمين السنيين، وكربلاء: محجة الشيعيين، وهددوا مدينة دمشق، فعجز
الأتراك عن إخماد ثورتهم فاستعانوا بمحمد علي باشا خديوي مصر فقمع من نخوتهم،
وأخمد الحركة الوهابية، ومنذ الغارة المصرية الكبرى على بلاد العرب نال
الهلال انتصارات قليلة في تلك البلاد حتى إن الخط الحجازي لم تستطع الحكومة
تأمينه إلا برشوة القبائل العربية، فالخط الحديدي الممتد إلى المدينة هو دائما تحت
خطر.
وقد نشبت بالأمس ثورة طال عهدها في ولاية العسير جنوبي مكة، وثورة
أخرى أعظم منها في ولاية اليمن، ولا تزال نيران هاتين الثورتين كامنة تحت
الرماد، أنفق الأتراك كثيرًا من المال والرجال على إخمادها فما نجحوا، ولذلك أخذ
مركز الأتراك في تلك البلاد يتداعى يومًا بعد آخر، ورؤية جنودهم المغلوبة
المنطرحة على متن باخرة إنكليزية في خليج بلاد فارس هي من الأدلة الكثيرة
الراهنة على تداعي مكانتهم في شبه جزيرة العرب.
هذا، وإن تجدد القوة العربية في شكلها الحاضر يرجع إلى عهد يزيد قليلا
عن عشر سنين، أما منشئها الحقيقي فهو مبارك بن الصباح أمير الكويت ذلك
السياسي الشيخ، والمحارب المنيع الجانب الذي ينبسط نفوذه على أكثر جهات بلاد
العرب مع أنه لم يطمع بأرض خارجة عن حدود مسقط رأسه.
وبيان الأمر أن المصريين بعد أن أخمدوا الحركة الوهابية وأسقطوا أمراءها
بني السعود، انتقلت السيطرة على أواسط بلاد العرب إلى أيدي أمراء بني الرشيد
الذين جعلوا عاصمتهم بلدة حائل في قلب شبه الجزيرة العربية وحكموا هناك سبعين
سنة، وقد كانوا أقوياء الجانب أجرياء.
وفي أوائل القرن الحاضر كان أميرهم المقيم في حائل ذا مطامع تتجاوز قوته
فدعا نفسه ملك بلاد العرب وباشر الزحف على خليج فارس وهدد الكويت فخرج
الأمير مبارك بن الصباح من عاصمة إمارته الصغيرة لملاقاته وقتاله فقاتله وانتصر
عليه، وتعقب رجاله المغلوبين حتى منتصف الطريق عبر بلاد العرب واستولى
على حائل عاصمة ولايته وكان غرض الأمير مبارك من هذه الغارة تأديب ابن
الرشيد فقط لا بسط حكمه على نجد ولذلك قفل راجعًا، وعند رجوعه إلى الكويت
أخذه ابن الرشيد على غرة فإنه جمع جموعه وباغت رجال الأمير مبارك ليلاً وهم
يعبرون معبرًا صخريًّا وضربهم ضربة قاضية فقتل منهم خلقًا كثيرًا، والذين نجوا
من الموت في هذه المعركة ترادف كل ثلاثة منهم على متن جواد ووصلوا سالمين
إلى الكويت.
غير أن الأمير مباركا كان شجاعًا جريئًا فأضمر الشر لابن الرشيد ودعا أبناء
أسرة السعود الوهابية التي أسقطها المصريون وعالهم وآواهم وأعطاهم مالاً وسلاحًا
وأرسلهم إلى الصحراء العربية لاسترجاع مملكتهم المفقودة.
وكانت لابن رشيد عاصمتان الحائل في الشمال والرياض في الجنوب فزحف
أحد شبان أسرة ابن السعود على الرياض وكان يجمع الرجال في مسيره حتى بلغ
عددهم ثلاثة آلاف وقد توقف بهم سرًّا في إحدى القرى القريبة من الرياض، وهجم
تحت ظلام الليل على المدينة بخمسين فارسًا باسلاً لا يهاب الموت.
وقد وقعت هذه الحادثة من مضي عشر سنين وبهؤلاء الفرسان الخمسين
تجددت ولاية ابن سعود، فإنهم عند وصولهم إلى باب المدينة جعلوا رئيس الحراس
يفتحها لهم بخدعة حربية ولما دخلوا أعملوا المهاميز في شواكل خيولهم، واجتازوا
أسواق المدينة بسرعة البرق، وهجموا على قصر الحاكم ابن الرشيد وذبحوه،
وعند انشقاق عمود الفجر دخل بقية رجالهم وجددوا الولاية الوهابية في تلك الجهة.
وقد حصر ابن الرشيد ثلاث سنين في مدينة حائل، ولكن ابن السعود انتصر عليه
في آخر الأمر وقهره في إقليم قاسم على منتصف الطريق بين المدينتين.
أما المعركة الأخيرة التي نشبت بين رجال ابن السعود من جهة ورجال ابن
الرشيد وبعض الجنود العثمانية من جهة أخرى، فقد أسفرت عن انتصار الأولين،
وقتل ابن الرشيد بثلاثة سهام أصابه أحدها في فخذه فسمره بسرج جواده، وقد أبلى
رجال ابن السعود في هذه المعركة بلاء حسنًا فكانوا لا يرمون سهمًا إلا بعد معرفتهم
أنهم سيصمون به رجلاً من أعدائهم.
وكانت نتيجة المعركة أن ابن السعود صار مسيطرًا على كل نجد، وتم له ما
أراد من مضي عهد طويل من إخراج الأتراك من بلاد العرب وإرجاعهم إلى خليج
العجم، ولكن انتصاره هذا لا يدل على تجدد الحركة الوهابية الحقيقية، بل هو
تجدد مؤقت لها، كما أنه لا ينوي إعلان جهاد جديد؛ لأن العالم لم يعد يرى بعد
تيارًا سريعًا من القوات الإسلامية متدفقًا من رمال بلاد العرب.
نعم إن عرب البادية هناك يتضامون، ولكنهم غير متحدين اتحادًا يستطيعون
به إيقاد حروب وفتوحات، ولا تجول في صدورهم حمية دينية كافية لأن تمكنهم
من إعلان جهاد جديد أو إرغام غير المسلمين بالقوة، ولكن تجدد قوتهم يبطن خطرًا
على الأتراك، ولذلك ترى أصدقاء تركيا المخلصين لها ينصحون لها بنية صافية
أن تصالح ابن السعود الذي يعتقد أنه يميل إلى مفاوضة السلطان بطاعة واحترام،
فواحات الأحساء قليلة غير مفيدة لتركيا، في حين أن علائقها الولائية بحاكم نجد
تنفعها كثيرًا، والأمر الذي يهم تركيا أكثر من غيره في بلاد العرب هو أن تبقى لها
السيطرة على مدينتي الإسلام المقدستين لتحفظ اعتبارها وهي صاحبة الخلافة
الإسلامية في عيون المسلمين، وخير ما يساعدها على إدراك غايتها هذه هو اتفاقها
مع ابن السعود.
وكان من الواجب عليها أن تكف عن إرسال الجنود إلى اليمن، وتنشئ لها
علائق ولائية مع إمام صنعاء على قاعدة تسلطه على تلك الولاية تحت سيادتها
وكذلك يجب عليها أن تنهي ثورة العسير بهذه الصورة فتسلط الإدريسي على تلك
الولاية تحت سيادتها أيضا.
وبهذه الطريقة تكتفي مؤونة إرسال كثير من المال والرجال إلى تلك البلاد
على غير فائدة، ولا تخسر حقوقًا أرضية لا ينازعها إياها منازع في الوقت
الحاضر، وتستطيع بعد أن يهدأ بالها من جهة العرب أن تنصرف كل الانصراف
إلى المهام الحيوية التي لا تزال تنتظرها في آسيا الصغرى. اهـ.
(المنار)
خير ما في هذه المقالة خاتمتها، فهو النصح الخالص للدولة العثمانية الذي
سَبَقْنا إليه غير مرّة (وقد يستفيد الظنة المتنصح) والقسم التاريخي منها يشوبه شيء
من الخطأ كقوله: إن الوهابيين كانوا خارجين على الدين الإسلامي والخلافة، فهذا
خطأ فهم مسلمون متشددون في التمسك بالإسلام، وجلُّ ما عُزِيَ إليهم من الشذوذ
كذب افترته السياسة، وبعضه من الخطأ الذي اقتضته طبيعة القتال لا تعاليم
المذهب، وكقوله: إن مكة مقدس أهل السنة ومحجهم، وكربلاء محج الشيعة.
والصواب أن مكة هي محج جميع المسلمين، وأما كربلاء فليست محجا واجبا لأحد
ولكن يزورها الشيعة كثيرًا وغيرهم قليلا، وما ذكره الكاتب من أن ابن سعود وإمام
اليمن والإدريسي كلهم يودون الاستقلال في بلادهم تحت سيادة الدولة صحيح،
وأصح منه قولاً ونصحًا قوله: إن الواجب على الدولة أن تترك قتالهم، وتعطيهم
استقلالهم ولكن هل يعقل هذا رجال الآستانة، ويعملون به؟ الله أعلم.