رغَّب إلينا غير واحد أن نكتب في جريدتنا بعض نبذه في الأدبيات، يعنون بذلك ما عليه الجماهير من أن الأدب هو عبارة عن: الشعر والأمثال والنوادر والأفاكيه، وإلا فإن معظم ما نشرناه في الجريدة هو من المباحث التي تنظر إلى تهذيب النفوس وتحليتها بالفضائل، بعد تطهيرها من أدران الرذائل، وليس الأدب الصحيح إلا هذا، فقد قال العلماء: إن الأدب ملكة تعصم من قامت به عما يَشينه. ولا ريب أن أية رذيلة من الرذائل تَشين الإنسان إذا تلبّس بها واقترف ما تدعو إليه من الأفعال المنكرة. فإن قيل: إن القوم يريدون بالأدب أدب اللسان وهذا التعريف إنما هو لأدب النفس أَقُلْ: إن أدب النفس لا يكون كاملاً إلا بأدب اللسان، فالأول يستلزم في كماله الثاني، وكان كلا القسمين متحققاً في فضلاء سلف الأمة من أهل الصدر الأول. ولما وضعت العلوم والفنون باتساع عمران الأمة، وانفرد بكل نوع منها طائفة من الناس، اختص الباحثون بأدب النفس علمًا وتخلقًا باسم الصوفية، وسمي علمهم: (التصوف) . وخص الباحثون بأدب اللسان باسم: (الأدباء) ، وسمي مجموع فنونهم أو ثمرتها: (بعلم الأدب) على إطلاقه، ولقد كان لكل من الفريقين حظ من أدب الفريق الآخر. لكن الأدبين كليهما معًا لم يكملا إلا لأفراد منهما. وإننا نقتدي بالقوم في التسمية، ونبحث في الأدب بحثًا نبين به العلاقة بين أدب اللسان وأدب النفس والجنان؛ لأن سعادة الأمة لا تتم إلا بهما كليهما فنقول: كان الأدب عند أسلافنا عبارة عما يحترز به عن الخطأ في كلام العرب قولاً وكتابة، وأصوله عندهم: اللغة والصرف والاشتقاق والنحو والمعاني والبيان والعروض والقوافي وقَرْض الشعر والإنشاء والمحاضرات والتاريخ، وربما أطلقوا الأدب على ثمرة هذه الفنون وهي: الإجادة في المنظوم والمنثور في كل موضوع، ولابد في هذا من وقوف الأديب على كل فن من الفنون المتداولة في عصره. ومن ثم قال الفيلسوف العربي ابن خلدون عند الكلام على علم الأدب في مقدمته: (هذا العلم لا موضوع له، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فنَّيْ المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم) ، إلى أن قال: (ثم إنهم إذا أرادوا حدَّ هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها، والأخذ من كل علم بطرف، يريدون من علوم اللسان أو العلوم الشرعية، من حيث متونها فقط، وهي القرآن والحديث؛ إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلام العرب إلا ما ذهب إليه المتأخرون عند كَلَفهم بصناعة البديع من التورية في أشعارهم وترسّلهم بالاصطلاحات العلمية، فاحتاج صاحب هذا الفن حينئذ إلى معرفة اصطلاحات العلوم ليكون قائمًا على فهمها) . اهـ. وأمَسّ الاصطلاحات العلمية بالأدب: اصطلاحات علم الأخلاق، بل هو الجدير باسم علم الأدب دون غيره؛ لأن أدب اللسان ثمرة من ثمرات أدب النفس، وقد لاحظ أدباء العرب هذا في أيام نهضتهم العلمية، لذلك ترى كتبهم الأدبية ملأى بالكلام على الأخلاق والسجايا وأعمال ذويها من حيث هي ممدوحة أو مذمومة (وإن كانوا أفردوا للأخلاق مصنفات يبحثون بها عنها من حيث هي قوى نفسية تنشأ عنها الأعمال البدنية، وهو المسمى بالفلسفة الأدبية أو العملية أو علم تهذيب الأخلاق) . فمن لا يقدر على الكلام الفصيح في التنفير عن الرذائل والترغيب في الفضائل وفي سائر المواضيع المتعلقة بمنافع الأمم ومصالحها، قولاً وكتابة لا يكون أديباً. ويستمد علم الأدب اليوم من ينابيع لم تكن مفجّرة في أرض أسلافنا من قبل، ويحتاج في تحقيق نتيجته التي علمت إلى فنون كثيرة لم تكن في العصور الأولى أو كانت لكن على غير هذه الحالة التي هي عليها اليوم، كالتاريخ الذي كان مجموع قصص وأساطير لا تكاد تفيد غير التسلية والتفكّه، وهو اليوم علم من أفيد العلوم التي عليها مدار العمران. ذكر بعض المؤلفين في الأدب أن الكاتب والشاعر يحتاجان في كمال صناعتهما (الأدب) إلى معرفة كل ما في العصر من الفنون والصنائع في الجملة؛ ليقتدروا على مخاطبة كل صنف من الناس بما يناسب ذوقه، ويتصرفوا في كل موضوع بما هو أمسّ بحالة أهله. نعم هذه سنة الذين خلوا من قبل، كانوا لا يمنحون لقب الأديب إلا لمثل ابن العميد والصاحب بن عباد وأبي إسحاق الصابي وبديع الزمان والحريري. فمَن ذا الذي يستحق هذا اللقب اليوم؟ ! لا جرم أن من يأخذ هذا اللقب بحق لا بد أن يكون أعلم من هؤلاء وأكْتَب، وأشْعَر وأخْطَب، لأن هذا العصر قد زخرت بحار فنونه، وكثر التشعب في أفانينه، ومع هذا فإنك ترى الدهماء لا يتحامون إطلاق لقب الأديب على كل مَن يلفق كلمات موزونة، أو يأتي بسجعات ولو كانت ملحونة، بل ابتذل هذا اللقب الشريف حتى صار يلفظ به إلى من لا لقب له من ألقاب الحكومة التي تشير إلى رتب الشرف المعلومة، وليس مستلاًّ من سلالة الأمراء، أو من الصنف الذي يدعى ذووه بالعلماء، وقد سُجِّلَ هذا مع أمثاله من (التشريفات) الكاذبة في جرائد التملق والنفاق، وصحف المَين والاختلاق، حتى صار محب الصدق في حيرة، إن أرضى نفسه أسخط غيره، وحتى صار يمقت هذا اللقب، من لديه رَسّ (طرف أو ذرو) من علم الأدب، وأجدر به أن يتقذره وهو مبذول للعامة، والجرائد تحلي من لا أدب عنده بلقب عالم أو علاّمة، مما لم يكن يطلق إلا على الراسخين في المعقول والمنقول كالشيرازي والتفتازاني وأضرابهم. هذه حال أمتنا اليوم تركوا صدق أسلافهم للأوربيين واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، ومن صَدَقهم النصح حَمَلوا كلامه على الإهانة ونبذوه ظِهّريا (وقد يستفيد الظَّنة المُتنصّح) . يحْسَب قوم أن إعطاء الألقاب الشريفة لغير أهلها ليس إلا من جزئيات الكذب التي لا ينجم عنها ضرر، ولا يتأثرها خطر، وغفلوا عن كون منح ألقاب الفضل والكمال لغير مستحقها، كمَنْح رتب الشرف والوسامات لغير الجدير بها، وإن كلا الأمرين من أرزاء الأمم التي تودي بحياتها الأدبية والسياسية، وتقذفها في مهاوي الجهل والضعف. وليس هذا من موضوع كلامنا الآن، فلنغضّ عنه الطرف ولنرسل أشعة نظره إلى رياض الآداب، لعله يجتني شيئًا من أرطابها وثمارها اليانعة وأزاهيرها البهيجة العطرة، يهديها لقوم كان لهم من الآداب النفسية واللسانية جنتان، {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} (الرحمن: ٥٢) ، فطوّحت بهم الطوائح، واجتاحت ثمارهم الجوائح، وصوّحت رياضهم البوارح، وبدلوا {بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} (سبأ: ١٦) . يهديها لهم لعلها تبعث هممهم إلى إحياء الموات، واسترجاع ما فات، واحتذاء مثال الأمم القوية، التي جعلت آدابها معارج لمنافعها الصورية والمعنوية، فيعود للعربية بهاؤها، وللأمة مجدها وسناؤها، في ظل مليكنا الأعظم، ونصير المعارف الأعصم، أيَّده الله تعالى، وزاده عظمة وجلالاً. لعمرك قد طفت المعاهد كلها، واستسقيت وابلها وطَلّها، فلم أر كلامًا في الأدب حكيمًا، قد انتهج صاحبه صراطًا مستقيمًا، ونبه الناس على الطريقة المثلى، وأرشدهم إلى المرتبة الفضلى، إلا ما جاء في (العروة الوثقى) التي لا انفصام لتعاليمها تحت عنوان (نصيحة في الأدب) منسوبة لحضرة الفاضل مولوي عبد الغفور شهباز بمدينة كلكتا. وإنَّا نوردها بنصها وهي: (ليس الأدب كما يظن بعض الناس: مجموع قصص تتلى للفكاهة، أو أساطير تنقل في المسامرات، أو منظوم من القريض يمتاز بحسن الاستعارة ورقة التشبيه، مع مراعاة المحسنات اللفظية والمعنوية، من التورية والجناسات ونحوها من فنون البديع، أو منشآت ورسائل تتضمن إطراء في المدح أو مغالاة في القدح، فإن جميع هذا بمجرده لا يتصل بمعنى من معاني الأدب. وإنما الأدب في كل أمة هو الفن الذي يقصد به تهذيب عاداتها وتلطيف إحساسها وتنبيهها إلى خيرها لتجتلبه، وإلى ما يخشى من الشر فتجتنبه، فالأدباء في الحقيقة هم ساسة أخلاق الأمم، بل هم أجنحتها، تطير بهم إلى ذروة فلاحها، فإنهم بما يعلمون من طرق التفهيم يمكنهم أن يقربوا إلى العقول ما يبعد عن إدراكها، ويسهلوا على الأذهان ما يعسر عليها النظر فيه، ويعبروا عن المعنى الواحد بالطرق المختلفة، فتستفيد منه العامة، ولا تنكره الخاصة، فيأخذون على الظالم ظلمه ويعظونه بسوء عواقب الظلم، وينكرون على الفاجر فجوره، ويحذرونه مَغَبّة الفجور، حتى يردّوا كلاعن غَيّه بما يروضون من طبعه بدون أن يقولوا له: إنك ظالم أو فاجر. وإذا رأوا في أمتهم عوائد يأباها سليم الذوق، أو وجدوا منها أخلاقًا وأعمالاً لا تنطبق على شريعة الفضل، وقوانين الشرع، عمدوا إلى تغيير العوائد، وتطهير الأعراق، وأخذوا في ذلك سبلاً متنوعة في إنشاءاتهم، تارة بالقصص والحكايات التي تمثل شناعة الرذيلة وبهاء الفضيلة وما آل إليه أمر المتدنسين بالأولى وما ارتقَى إليه حال المتحلّين بالثانية، وتارة بقريض الشعر، يخيلون فيه ما يحرك الهمم ويبعث الأفكار وينبه خواطر الكمال، وإحساسات الشرف الصحيح، لا بما يوقظ الشهوة ويقوي الغرور ويخرج الأنفس عن أطوارها، والأخذ به من وجهه، والدخول إليه من بابه هو الذي صعدت به الهند الأولى إلى أوج المجد، وبلغ به العرب أقصَى غايات الرفعة، وهو الذي وصل بالأمم الأوربية إلى ما وصلوا إليه مما لا يخفى على ذي بصيرة، وإنا لنأسف على ما نراه من أدباء المسلمين وشعرائهم، فإنهم يقصرون منشآتهم وأشعارهم على ما يكوّن عد الصفات، إما مذمومة أو محمودة، ونسبتها إلى شخص يريدون مدحه أو ذمه، ويحصرون رواياتهم في حكايات مضحكة وقصص هزيلة وبعض تواريخ ماضية، بدون أن يلاحظوا تأثير ما يكتبون وما ينقلون في أفكار الأمة وأطوارها، ورجاؤنا فيهم أن يسلكوا مسالك أدباء الأمم المتقدمة أو المعاصرة لهم، حتى يكون للأمة الإسلامية نصيب من فوائد ذكائهم وفطنتهم، وسعة بيانهم، وطلاقة ألسنتهم، وأن يأخذوا في منشآتهم وأشعارهم طريقاً ينهضون فيه الهمم الخوامد، ويحركون القلوب الجوامد، ويحيون مكارم الشيم، ويوردون الأمة موارد سابقيها من الأمم، وإننا نرى بداية هذا المنهج الحميد في بلادنا ونسأل الله حسن ختامه) . اهـ. ونحن أيضاً نقول: إن بعض أهل بلادنا قد انتهج هذا المنهج، كما أومأنا إلى ذلك عند تشبيه حالتنا الأدبية الحاضرة {بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} (سبأ: ١٦) فقد عنينا بالسدر القليل - الذي هو من الثمار الطيبة -: بعض الأفاضل من ذوي الأدب الصحيح. وثمرات أدواحهم ظاهرة في جنات الجرائد والمصنفات الحديثة النافعة، ومنها يُعلم أن الترقي في المنشور أكثر منه في المنظوم، ويدخل في المنظوم فن الأغاني، وهو من مهذبات الأمم، ولم يترق في بلادنا، بل هو في حالة ضارة غير نافعة؛ لأنه مقصور على العشق والغرام. وسنتكلم على الشعر والشعراء في العدد الآتي إن شاء الله، وندع الكلام على الأغاني لفرصة أخرى، والله الموفق.