للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مسألة تحديد الزواج
بقانون ومسلك الحكومتين العثمانية والمصرية فيه

قد بيَّنا في الجزء السابق نص ما وضعته الحكومة العثمانية منذ سنين من
أحكام هذه المسألة في (قانون الأسرة - العائلة) وما بينته من مداركها , ووجه
الحاجة إليها , وأقوال الفقهاء المجتهدين فيها، ثم ما وضعته الحكومة المصرية هذه السنة في ذلك.
ومما يستحق الذكر في هذا المقام , أن بين المصريين وبين الترك , ومن
نشؤوا في مدارسهم من مسلمي الشعوب العثمانية المسلمة شبهًا , ظهر أثره في
الحكومتين.
المدارس العصرية في بلاد الفريقين: إما إفرنجية أو متفرنجة , وأكثر
المتعلمين فيها قد غلب على أرواحهم وعقولهم وأهوائهم وأذواقهم تشريع الإفرنج
ونظامهم وأدبهم وعاداتهم؛ لأنهم لا يتعلمون أصول الشريعة التي ينتمون إليها , ولا
الآداب الإسلامية التي كان عليها أسلافهم وبناة مجدهم، ولأن الذين لا يزالون
يتدارسون العلوم الشرعية في بلادهم تسقط قيمتهم وقيمة ما يتعلمونه من أنفس
الطبقات العليا فالوسطى عامًا بعد عام بجمودهم على التقليد الجاف , لما يقول
شيوخهم المتأخرون: إنه المعتمد أو المفتى به في المذهب. وإن كان مخالفًا لما عليه
سائر الأئمة المجتهدين , والعلماء الراسخين من أهل الملة - ومخالفًا لنص صريح
عن الشارع أيضًا.
وإنما يعتذرون عنه إذا احتج عليهم به بأنه لم يصح عند إمامهم وإن اتفق
حفاظ الحديث ونقلة السنة عليه - ومخالفًا لمصلحة المسلمين العامة في معايشهم أو
الدفاع عن أوطانهم - فبهذا صاروا حجة على أحكام الشريعة العادلة، وآداب
القرآن والسنة الكاملة، وفتنة للمتفرنجين , يصدونهم عن أصل الدين ويغرونهم
به. وصارت الحكومتان تنشئ المدارس؛ لتعليم نشء الأمة كل ما هو
أوربي بصبغته الأوربية , حتى أصول التشريع وأنواع القوانين , وتدخلها في
أعمالها ومحاكمها العسكرية والجنائية والتجارية والمدنية، وتتفصى من كل ما هو
شرعي إسلامي بالتدريج , وبضروب من التأويل والتلفيق مراعاة لتقاليد العامة
ونفوذ شيوخ الفقه في أنفسهم , حتى انتهتا في هذا الجيل إلى جعل أحكام الزواج
والطلاق , وما يتعلق بهما من أحكام النفقات والعدة وغيرهما قانونًا كسائر القوانين
وقد بينا ما في هذا من الجناية على الشريعة من قبل [١] , كما بينا مرارًا أن شيوخ
الفقه الجامدين على التقليد الجاف , هم الذين ألجؤا الحكومتين إلى ما ذكر , وأنهم
كانوا وما زالوا يأبون في كل بلد أن يسيروا في تعليم الشريعة ودراستها على
الطريقة الاستقلالية , فينظروا إليها في جملتها لا في كل مذهب على حدته , بحيث
يتعصب له فريق معين على سائر المذاهب , ويقارنوا بين ما استنبطه المجتهدون،
ويقيموا بينها ميزان التعادل والترجيح , الذي يتدارسون ألفاظه لذاته، كأنه منزل
للتعبد كالقرآن، أو لأجل أن يستعين به أهل كل مذهب على إبطال غيره أو توهينه.
ثم إنهم بعد هذا لا يقاومون الحكومة فيما يعتقدون أنها خالفت الشرع فيه , بل
أكثرهم يسكت عنها، وبعضهم يتأول لها، وبعضهم يفتيها فتاوى مبهمة , يتحرى
فيها أن يكون ما قاله صحيحًا في نفسه ومرضيًّا عندها , وإن لم ينطبق على واقعة
الفتوى وموضوعها , وهم يعلمون أنها تقنع به العامة بأنها لم تفعل إلا ما أفتاها به أكبر علماء الدين.
ولو أنهم سلكوا مسلك الاستقلال الصحيح , والنظر إلى جميع الأئمة
المجتهدين بعين واحدة , وجعلوا من قواعد الترجيح بين آرائهم الاجتهادية اختيار
أيسرها؛ عملاً بالقاعدة القطعية الثابتة بنص القرآن كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْر} (البقرة: ١٨٥) وقوله عز وجل: {مَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} (المائدة: ٦) {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَج} (الحج: ٧٨) وقوله صلى الله عليه وسلم: (يسروا ولا تعسروا،
وبشروا لا تنفروا) متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه. وفي رواية
(وسكنوا) بدل (وبشروا) وورد من حديث أبي موسى بالتثنية؛ أي: إن
النبي صلى الله عليه وسلم خاطبه هو ومعاذ - رضي الله عنهما - بذلك حين أرسلهما
عاملين إلى اليمن، وأمرهما بالاتفاق وهو متفق عليه أيضًا , وقالت عائشة - رضي
الله تعالى - عنها: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ
أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه. وهو متفق عليه واللفظ
لمسلم - لو سلكوا هذا المسلك , مع بقاء طوائف من طلاب الشريعة يتوسعون في فقه
كل مذهب - لأمكنهم جعل التشريع الإسلامي فوق كل تشريع , وكان عليه مدار
الأحكام في جميع البلاد الإسلامية، وكان لهم مندوحة عن التأويل والأخذ بالأقوال
الشاذة , والتفصي بفتوى مبهمة , يظنون أنهم يسلمون بها من إقرار الحكومة على
ما تخالف فيه الشريعة.
نعم: قد آن للعلماء أن يأخذوا بإيمانهم جميع أمور التشريع , ويبنوا ما هو
قطعي , لا مندوحة للمسلمين عنه , وما هو دون ذلك مما يجب الأخذ فيه بما هو
أيسر على الناس , ما لم يكن معصية لله تعالى , وقد دخلوا الآن في طور جديد ليس
فيه حاكم مستبد يرهقهم أو يعاقبهم إذا أظهروا ما عندهم , ولكن يجب أن يعلموا أنه
يستحيل أن يلتزم البشر في هذا العصر تقليد عالم واحد , فيما يعسر عليهم وينافي
مصالحهم. وهاهم أولاء قد خرجوا عن هذا في الحكومتين، ورجحوا على المذاهب
الأربعة في جملتها قولاً شاذًّا لأحد العلماء المتقدمين , بحجة أنه هو الأيسر والموافق
للمصلحة العامة ولمصلحة من يتحكم الأولياء بتزويجهم صغارًا، وما استخرجه
للحكومتين , من زوايا مسائل الخلاف إلا بعض هؤلاء الفقهاء، فلماذا لا يأخذون
الأمر بجملته في التشريع كله؟
وقد علم القراء مما نشرناه في الجزء السابق , أن ما قررته الحكومة العثمانية
في هذه المسألة أصح أحكامًا، وما دعموه به أحسن بيانًا، ولا يرد عليه من الطعن
ما يرد على ما قررته الحكومة المصرية من تحريم ما أحل الله وأجمع عليه
المسلمون، كتزويج البالغين بالفعل قبل السن المعينة , وعدم الاعتداد بنكاحهما وما
يترتب عليه من الأحكام الكثيرة وإن ولد لهما، وعدم سماع دعوى لأحدهما تتعلق
بهذه القضية في حال حياة الآخر ولا بعد موته لا في الطلاق والنفقة، ولا في
الإرث ولا في غير ذلك - وإباحتها للمحرم بالإجماع من العقد على المتزوجة لرجل
آخر بعد بلوغ السن المقررة - إلى غير ذلك، فالقانون العثماني اختار قولاً مشهورًا
من أقوال أئمة الفقهاء في سن البلوغ , وجعله مناط أهلية التعاقد في النكاح وغيره
وجعل لمن يدعي البلوغ بالفعل , فله أن يستأذن الحاكم الشرعي في الزواج إذا أراده،
وحتم على الحاكم أن يأذن له إذا رأى أن بنيته تطيق ذلك. فوقف عند حد منع
الضرر والضرار الممنوعين بنص الشارع، ولم يمنع من سماع أي دعوى تترتب
على نكاح لم يبلغ فيه أحد الزوجين تلك السن , لما في ذلك من المفاسد الكثيرة،
وتضييع الحقوق الكبيرة. ومن ادعى أن كل زواج قبل السن المحددة في القانون ,
فهو ضار كذبه الطب والحق الواقع، ومن ادعى أنه لا ضرر في شيء منه فهو
جاهل بالواقع أو مكابر.
ومن المغالطة أن يجعل الخلاف في هذا القانون دائرًا بين منع زواج الصغير
والصغيرة مطلقًا وإباحته مطلقًا. فإن بين الأمرين وسطًا لم ينقل عن أحد من العلماء
خلاف فيه , وهو من بلغ بالفعل في سن الخامسة عشرة أو السادسة عشرة أو
السابعة عشرة - وهو لا يصدق عليه وصف الصغر لغةً ولا شرعًا.
لم يبلغنا أن أحدًا من علماء الترك , ولا غيرهم من العثمانيين أنكر على
حكومتهم الأحكام التي جعلتها مواد قانونية لهذه المسألة , ولكن جميع أهل البصيرة
بالدين , يطعنون في دين رؤساء تلك الحكومة الاتحادية , ويحكمون بردتهم،
ويعتقدون أنهم يحاولون هدم هذه الشريعة الإلهية العادلة.
وأما علماء مصر من مدرسي الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي ومدرسة دار
العلوم والمحامين الشرعيين وغيرهم , فقد تجرؤوا في هذه المرة وانتقدوا هذا القانون
من وجوه عديدة وأنكروا على واضعي نصه , وعلى الشيخين الكبيرين - شيخ
الأزهر ومفتي الديار المصرية - إجازته , واقتصارهما على نقل قول الحنفية بجواز
تخصيص القضاء - ومنهم من أطلق القول في الإنكار وبالغ فيه , ومنهم من عرف
بعضًا وأنكر بعضًا، وقد حوم بعضهم حول مسألة الاجتهاد , وهل يدعيه واضعو
هذا القانون مطلقًا أو مقيدًا؟ وألم آخر بمسألة جعل الشرعية قانونًا , وهو ما سبقنا
إليه عند الأمر بتأليف اللجنة العلمية؛ لوضع قانون الأحكام الشخصية - فبدأنا
بإظهار إنكارنا للشيخ محمد بخيت أكبر أعضاء تلك اللجنة , وثنينا بوزير الحقانية،
ثم كتبنا ما كتبنا في المنار.
ولما كانت هذه المسألة مفتاحًا لمسائل ستتلوها من جنسها , وتكون موضوع
البحث والمناقشة في مجلس النواب المصري الذي سينعقد قريبًا رأينا من المفيد أن
ننشر أقوى ما اطلعنا عليه مما كتب في تأييد هذا القانون , وفي نقده والإنكار عليه؛
ليحفظ أو يسهل الرجوع إليه، والفريق الأول عندنا محصور في الشيخ محمد بك
الخضري - وهذا نص ما كتبه ونشره في جريدة الأهرام:
***
تحديد سن الزواج
للأستاذ الشيخ محمد بك الخضري من المفتشين للمدارس الأميرية [٢]
فاجأ الجمهور مرسوم جلالة الملك , بتحديد السن لزواج الصغير والصغيرة ,
حتى لو حصل الزواج قبل هذه السن لا تعترف به المحاكم الشرعية , ولا تبني
عليه شيئًا من آثار الزوجية , ولا يسمح لمن يباشرون عقود الزواج من
المأذونين والقضاة , أن يحرروا عقد زواج بين اثنين لم يبلغ أحدهما السن التي
قررها المرسوم لكل من الزوجين , فاجأهم ذلك فكان مجالاً للأحاديث والسمر،
واستفتاء المستفتين، وانتقاد المنتقدين، من علماء ومحامين، على صفحات الجرائد , وقد دعاني بعض من أحب إلى أن أكتب على صفحات الأهرام الغراء ,
ما يتضح به صبح هذا الأمر الخطير , قبل أن تتشعب الآراء، وتكثر الظنون.
***
زواج الصغير والصغيرة
مما كان موضوع خلاف بين فقهاء المسلمين , عقد زواج الصغيرة والصغير
فمنهم من أجازه , ومنهم من منعه , أما الذين أجازوه فهم جمهور الفقهاء , وهم بين
مضيق لدائرته وموسع لها , ولهم في ذلك ثلاثة مذاهب:
(الأول) رأي الفقيه المقدم أبي حنفية النعمان بن ثابت -رحمه الله - وهو
الذي توسع فيه توسعًا عظيمًا , حيث أجاز لكل ولي قرب أم بعد أن يتولى تزويج
الصغيرة والصغير , إلا أنه ميز الأب والجد بامتياز , وهو أن عقدهما نافذ لا خيار
فيه , بعد أن يبلغ ذلك الذي زوج وهو صغير ذكرًا أكان أم أنثى أما إن باشره
غيرهما من الأولياء من أخ أو عم أو ابن عم , فإنه يثبت فيه الخيار بعد البلوغ
بشروط وقيود , جعلت ذلك الحق في الغالب عديم الجدوى , وليس من غرضنا الآن
أن نتوسع في شرح تلك القيود.
(الثاني) رأي الفقيه المصري [٣] الكبير محمد بن إدريس الشافعي وهو أنه
لا يزوج الصغير والبكر الصغيرة إلا الأب أو الجد , وقيد حقهما في ذلك بقيود
تحفظ للصغير والصغيرة بعض حقوقهما.
(الثالث) رأي إمام دار الهجرة مالك بن أنس وهو أنه لا يباشر هذا العقد إلا
الأب وحده في حياته , ووصيه في التزويج بعد وفاته - احترم رحمه الله - إرادة
الأب حيًّا أو ميتًا.
وأما الذين منعوا تزويج الصغيرة والصغير قبل البلوغ , فقليل من الفقهاء ذكر
منهم صاحب المبسوط: بن شبرمة وأبا بكر بن الأصم. والأول فقيه من كبار فقهاء
الكوفة , وكان قاضيها في عصر الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - وقد ساق صاحب
المبسوط دليل هذا المذهب واضحًا مع مخالفته لمذهبه , كما هو شأن العلماء أمنة
العلم وسرج الهداية - قال - لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (النساء: ٦) : فلو جاز التزويج قبل البلوغ لم يكن لهذا فائدة. يلاحظ أن أئمة الفقهاء وكبار المفسرين قرروا أن كلمة النكاح , لم تأت في القرآن الكريم إلا بمعنى
العقد.
ولأن ثبوت الولاية على الصغير؛ لحاجة المولى عليه , حتى إن فيما لا
تتحقق فيه الحاجة لا تثبت الولاية كالتبرعات - ولا حاجة بهما إلى النكاح؛ لأن
مقصود النكاح طبعًا هو قضاء الشهوة - وشرعًا النسل - والصغر ينافيهما.
ثم هذا العقد يعقد للعمر ويلزمهما أحكامه بعد البلوغ , فلا يكون لأحد أن
يلزمهما ذلك؛ إذ لا ولاية لأحد عليهما بعد البلوغ.
هذا دليل المذهب المانع لزواج الصغيرة والصغير , احتج عليه أصحابه بدليل
منقول وهو إشارة الكتاب , وبدليل راجع إلى العلة التي شرعت من أجلها الولاية ,
وهي حاجة الصغير. فمتى انتفت الحاجة انتفى معلولها، وهي هنا منتفية. وبدليل
معقول وهو ما يترتب من الفساد على هذا العقد , وهو إلزام الصغير بعد بلوغه
أمرًا لم يلتزمه
لمن أجازوا تزويج الصغيرة والصغير - وهم جمهور الفقهاء - أدلة أخرى
وليس القراء في حاجة إلى أن نذكرها لهم؛ لأن الغرض أن نبين أن هناك مذهبًا
إسلاميًّا منع زواج الصغيرة والصغير , وحتم الانتظار إلى البلوغ , والذين رووا
هذا المذهب هم علماؤنا الذين نطمئن إليهم , يظهر أن الحكمة المصرية سمحت
لنفسها منذ أزمان , أنها إذا رأت في حكم من المذهب المعمول به ضررًا يلحق
الجمهور , أن تشير على جلالة الملك بتعديل هذا الحكم مستعينًا بآراء الآخرين من
الفقهاء , سواء أكانوا من أرباب المذاهب المعروفة , كما فعلت في الطلاق على
الغائب ومسائل أخرى , أم من غيرهم كما فعلت في هذه المسألة , وعدم الاعتراض
عليها فيما سبق شجعها على تحديد سن الزواج بعد أن علمت من أضرار تزويج
الصغار ما علمت.
وليس هناك مانع من التلفيق , كما صرح به كبار رجال الأصول , وفي
مقدمتهم: الكمال بن الهمام أشهر الأصوليين من الحنفية.
***
المنع وعدم سماع الدعوى
الحكومة متى تحققت من ضرر السير على حكم من الأحكام في المذهب
المعمول به , ليس في مقدورها أن تمنع من العمل على خلافه , والدليل على ذلك
أن المحاكم الشرعية تسير في أحكامها على الراجح من مذهب أبي حنيفة - رحمه
الله - وهناك أقوال لأصحابه تخالف ذلك الراجح ومذاهب أخرى تخالفه كذلك , فهل
في مقدور الحكومة أن تمنع زواجًا يعقد بين اثنين على مذهب الشافعي - رحمه الله -
وتقول للزوجين: تفرقا؛ لأن العقد بينكما ليس على الراجح من مذهب أبي حنيفة؟ !
كلا ليس ذلك في مقدورها , ما دام الزوجان راضيين , إنما الذي في مقدورها ألا
تعترف محاكمها بهذا العقد ولا بالآثار المترتبة عليه.
هب أن زوجًا قال لزوجه مُطَلِّقا: أنت بائن. وفي أثناء عدتها راجعها من
غير عقد جديد , فهل في وسع حكومة من حكومات العالم الإسلامي أن تقول للزوج
الذي عاد إلى معاشرة زوجه: لا تعد؛ لأن أبا حنيفة يعتبر هذا الطلاق بائنًا ولا عودة
إلا بعقد جديد؟ ! كلا ليس ذلك في وسع أحد , وإنما إذا تقدما للمحكمة لا تعتبرهما
زوجين , وإذا مات أحدهما لا تورث الآخر منه؛ لأن الزوجية في نظر المحكمة قد
انحلت ولم تعد - فما رآه بعض المحامين من أنه كان الأولى بالحكومة , أن تضع
عقوبة على من زوج ابنه أو ابنته في حال الصغر , رأي لم ينضج؛ إذ كيف يعتبر
مجرمًا من اتبع مذهبًا من مذاهب المسلمين في عمل من أعماله الشخصية ويجر إلى
المحاكم المدنية لتحكم عليه بالعقوبة؟ ! .
إن هذا المرسوم الكريم قد دعا إلى الابتعاد عن أمر فيه ضرر عظيم - كانت
هناك عقود تعقد , لا لمصلحة الصغيرة والصغير بل لمصالح آخرين , يريدون
الاستفادة من تقييد أحد الزوجين بالآخر , قبل أن تعرف إرادتهما أو إرادة أحدهما،
وكثير من المطلعين على أحوال الناس يقولون: إن عاقبة مثل هذا الزواج في
الغالب نكد على الزوجين جميعًا. وأكثر من ذلك أن ذوي الخبرة من الأطباء قرروا
لهذا الاجتماع أضرارًا , ليس شرحها بميسور على صفحات الجرائد , وقد سمعت
الكثير منها فآلمني سماعه , ولا طريق إلى تنفير الناس منه , وإبعادهم عنه إلا أن
يروا محاكمهم الشرعية تأبى أن تعترف به.
أما الاعتراض على ذلك , بما يوجد من تحريم حلال وإحلال حرام؛ فلا محل
له ما دامت هناك مذاهب مختلفة , وكثير من العقود يعتبرها أبو حنيفة - رحمه
الله- صحيحة , ويعتبرها الشافعي باطلة , ولكن القاضي يحكم بالصحة ويحل
الاجتماع , فهل يقوم الشافعي ويقول للمحكمة: قد أحللت ما حرم الله؟ كلا بل
متى حكم القاضي بأي مذهب أبيح له أن يقضي به - كان حكمه قاضيًا على كل
خلاف , وصارت الحادثة كأن فيها قولاً واحدًا , فإذا أباح ولي الأمر لقاضيه أن
يقضي بمذهب ابن شبرمة في زواج الصغيرة والصغير , فقضى حتى ببطلانه لم يعد
هناك خلاف بين الفقهاء في بطلانه , وهكذا الشأن في كل حكم لم يخالف كتابًا ولا
سنة , ومع هذا فإن المرسوم لم يكلف القاضي أن يحكم ببطلان الزواج , وليته فعل
فإن الجادة خير من بنيات الطريق.
ولا محل لقول كاتب في المقطم أمس: (فرأيت الشريعة برمتها لا تحظر ما
منعه القانون الملحق , ولا تمنع ما حرمت هاتان المادتان) فإنه إن أراد بالشريعة
بعض المذاهب الإسلامية , كان قوله صحيحًا , وليست الشريعة مذهبًا معينًا , وإذا
أراد بالشريعة إجماع المسلمين على حل ما يريد المرسوم الامتناع منه خطأه صاحب
المبسوط بما رواه واستدل عليه في الصفحة ٢١٢ من الجزء الرابع.
ليس للجمهور المصري بعد ذلك إلا أن يساعد حكومته , التي أرادت به خيرًا
فيمتنع من تلقاء نفسه عن عقد زواج، أحد طرفيه صغير أو صغيرة.
... ... ... ... ... ... ... محمد الخضري
***
زواج الصغير والصغيرة
رد للأستاذ الشيخ محمد بخيت أشهر علماء
الأزهر وفقهاء الحنفية
أرسله إلينا ونشر في بعض الجرائد اليومية , قد بدأه بمقدمة في حكم النكاح
(التزوج) واختلاف العلماء فيه, هل فرض أو واجب أو سنة على الأعيان أو
على الكفاية، وكونه بصرف النظر عن الخلاف تعتريه الأحكام , فيجب على من
خاف على نفسه الزنا ـ وبعد هذه المقدمة قال:
قد اطلعنا في جريدة الأهرام عدد ١٤٢٣١ الصادر في يوم الإثنين ١٧ ديسمبر
سنة ١٩٢٣ - جمادى الأولى سنة ١٣٤٢ على مقال مذيل بإمضاء الأستاذ الفاضل
الشيخ محمد الخضري , ومذكرة مذيلة بإمضاء علماء من أفاضل العلماء , وبعد أن
ذكروا مذاهب جمهور العلماء في تزويج الصغير والصغيرة , وأن ذلك جائز على
اختلاف بينهم فيمن يتولاه , ذكروا بعد ذلك مذهب الذين منعوا من زواج الصغير
والصغيرة وتزويجهما قبل البلوغ , وأن ذلك مذهب ابن شبرمة وأبي بكر الأصم ,
وأن دليل هذا المذهب قوله تعالى: {وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (النساء: ٦) إلى آخر ما ذكروه من الأدلة.
وأقول: إني أعتقد أن من البعيد أن يكون ذلك النقل صحيحًا وإن نسبه في
المبسوط لها , ولذلك قال صاحب البدائع: يحكى عن عثمان البتي وابن شبرمة أنهما
قالا: ليس لهما؛ أي: للأب والجد ولاية التزويج. ولم يستدل لهما بتلك الآية
بل استدل بالمعنى , فقول صاحب البدائع: يحكي دليل على ضعف النقل عن ابن
شبرمة ومن معه , وأن صاحب المبسوط وغيره ممن نقلوا هذا المذهب عمن
ذكروا إنما نقلوه؛ لإبطاله، بقطع النظر عن صحة النقل وعدمه , وأيضًا يبعد كل
البعد أن ابن شبرمة ومن ذكر معه , يستدلون بهذه الآية على منع زواج
الصغير والصغيرة وتزويجهما , ويقولون: إنه لو جاز لم يكن لهذا فائدة؛ وذلك لأن
الآية إنما سيقت لما يتعلق بأموال اليتامى الصغار , ولا دلالة فيها على منع تزويج
الصغير والصغيرة , لا بطريق العبارة ولا بطريق الإشارة , ولا بطريق آخر من
طرق الدلالات.
وإلى كافة العلماء بيان ذلك فنقول: قال تعالى في أول سورة النساء:
{وَآتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} (النساء: ٢) قال المفسرون جميعًا: فيما نعلم الخطاب
للأوصياء والأولياء , والمراد بإيتاء الأموال: إما تركها سالمة غير متعرض لها بسوء , وإما الإيتاء بالفعل , والمراد باليتامى: إما معناه اللغوي؛ فيشمل الكبار
والصغار فهو حقيقة في ذلك وارد على أصل اللغة , وإما مجاز باعتبار ما كان؛ لأن إيتاء المال بالفعل إنما يكون بعد البلوغ، ثم قال تعالى في تلك السورة:
{وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} (النساء: ٥) قال المفسرون: هذا رجوع إلى بيان
بقية الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى , وتفصيل ما أجمل فيما سبق من شرط إيتائها ,
وكيفيته إثر بيان الأحكام المتعلقة بالأنفس - أعني الزواج - , وبيان بعض
الحقوق المتعلقة بالأجنبيات , من حيث النفس ومن حيث المال استطرادًا؛ إذ
الخطاب كما يدل عليه كلام عكرمة للأولياء , وصرح هو وابن جبير بأن المراد من السفهاء: اليتامى , ومن أموالكم: أموالهم. ثم قال عز من قائل بعد ذلك:
{وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ} (النساء: ٦) الآية.
قال شيخ الإسلام [٤] : إن هذا شروع في تعيين وقت تسليم أموال اليتامى
إليهم وبيان شرطه بعد الأمر بإيتائها على الإطلاق , والنهي عنه عند كون أصحابها
سفهاء. وقال غيره: إن هذا رجوع إلى بيان الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى لا
شروع. وأيًّا كان فقد أطبق المفسرون على أن الابتلاء معناه الاختبار , وعلى أن
معنى الآية: واختبروا من عندكم من اليتامى بتتبع أحوالهم في الاهتداء إلى ضبط
الأموال , وحسن التصرف فيها , وجربوهم بما يليق بحالهم. غير أن أبا حنيفة قد
اقتصر في الاختبار على الاهتداء إلى ما ذكر.
وزاد الشافعي على هذا الاهتداء: الاهتداء إلى الصلاح في الدين , واتفق
الإمامان - رضي الله عنهما - على أن هذا الاختبار يكون قبل البلوغ. وظاهر الآية
يشهد لهما لما تدل عليه (حتى) التي هي للغاية , غير أنهما اختلفا في طريق الاختبار
فقال أبو حنيفة: يكون ذلك بإذن الولي أو الوصي لليتيم في أن يباشر البيع والشراء
مثلاً. وقال الشافعي: لا يكون بذلك بل يكون بدونه على حسب ما يليق بالحال بأن
يمرنه على كيفية البيع والشراء , حتى إذا جاء وقت البيع أو الشراء باشره الولي أو
الوصي؛ وذلك لأن الإذن في مباشرة البيع والشراء مثلاً يتوقف على دفع المال
لليتيم , ودفع المال إليه لا يكون إلا بعد البلوغ وإيناس الرشد والغرض الاختبار قبل
ذلك. وقال مالك: الاختبار يكون بعد البلوغ , وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا
النِّكَاحَ} (النساء: ٦) معناه - على ما اتفق عليه المفسرون - حتى إذا بلغوا الحلم
وحد البلوغ , سواء كان ذلك بالحيض والاحتلام، أو بالسن بالنظر إلى الصغيرة،
أو بالسن أو الاحتلام بالنظر إلى الصغير. ويستوي في ذلك المعنى أن يكون لفظ
النكاح في الآية بمعنى العقد , أو بمعنى الوطء , وإن قال الحنفية: إنه حقيقة في
الوطء. والشافعية: إنه حقيقة في العقد. وقد جاء بمعنى الوطء في قوله تعالى:
{وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِنَ النِّسَاءِ} (النساء: ٢٢) الآية. فلا وجه للقول بأنه
لم يجئ في القرآن إلا بمعنى العقد , وقالوا جميعًا: إن معنى قوله تعالى: {فَإِنْ
آنَسْتُم مِنْهُمْ رُشْداً} (النساء: ٦) الآية، إن أحسنتم أو تبينتم اهتداء إلى ضبط
الأموال , وحسن التصرف أو إلى ذلك , وصلاح في الدين على ما سبق من الخلاف ,
فادفعوا إلى اليتامى أموالهم عقب البلوغ بدون تأخير فحتى للابتداء وللغاية
و {إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (النساء: ٦) جملة شرطية , جعلت غاية للابتلاء ,
وفعل الشرط (بلغوا) وجوابه الشرطية الثانية , فكان دفع الأموال معلقًا على
شرطين: الوصول إلى حد البلوغ , وإيناس الرشد , ولذلك قال الفخر الرازي: لا
شك أن المراد من ابتلاء اليتامى المأمور به ابتلاؤهم فيما يتعلق بمصالح حفظ المال ,
وقد قال الله تعالى بعد ذلك الأمر: {فَإِنْ آنَستُم مِنهُمْ رُشْداً} (النساء: ٦)
فيجب أن يكون المراد: {فَإِنْ آنَستُم مِنهُمْ رُشْداً} (النساء: ٦) في ضبط
مصالحهم , فإنه إن لم يكن المراد ذلك تفكك النظم , ولم يبق للبعض تعلق بالبعض.
انتهى.
إذا علمت هذا تعلم أن الآية لا دلالة فيها على منع تزويج الصغير والصغيرة
قبل البلوغ , حتى يقال: لو جاز التزويج قبل البلوغ لم يكن لهذا فائدة , وما هو
الشيء الذي لا تكون له فائدة في هذا الآية , إذا جاز التزويج قبل البلوغ؟ وقد
علمت معناها الذي أطبق عليه المفسرون.
على أن هذا المذهب بعد كونه غير مدون , ولا أصحاب له يعتمد عليهم في
النقل مصادم لصريح قوله تعالى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِسَائِكُمْ إِنِ
ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} (الطلاق: ٤) قال صاحب
المبسوط: بين الله تعالى عدة الصغيرة وسبب العدة شرعًا هو النكاح، وذلك دليل
على تصور زواج الصغيرة.
ومصادم أيضًا لقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا
طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ} (النساء: ٣) فإن هذا القول إنما يتحقق إذا كان زواج
اليتيمة جائزًا. وقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي والبيهقي في سننه عن عروة ابن
الزبير أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن هذه الآية فقالت: يا ابن أختي، هذه
اليتيمة تكون في حجر وليها , يشركها في مالها , ويعجبه مالها وجمالها , فيريد أن
يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها , فيعطيها مثل ما يعطيها غيره , فنهوا أن
ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق , وأمروا أن
ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. فالمراد من اليتامى المتزوج بهن , والقرينة
على ذلك الجواب، فإنه صريح فيه , والربط يقتضيه. والمراد من النساء:
غير اليتامى , كما صرحت به الحميراء رضي الله عنها بدلالة المعنى عليه , وإشارة لفظ النساء إليه , وقد روى ابن جرير وابن المنذر وابن حاتم عن عائشة رضي الله عنها مثل ما رواه البخاري ومسلم والنسائي والبيهقي عن عروة، فهذا دليل على جواز تزويج اليتيمة.
وقد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت عمه حمزة من عمر بن سلمة
وهي صغيرة , وقد تزوج قدامة بن مظعون بنت الزبير يوم ولدت , وقال: إن مت
فهي خير ورثتي , وإن عشت فهي بنت الزبير. وزوج ابن عمر بنتًا له صغيرة
من عروة بن الزبير. وزوج عروة بن الزبير بنت أخيه , وهما صغيران.
ووهب رجل ابنته الصغيرة من عبد الله بن الحسن فأجاز ذلك علي رضي الله
عنه , وزوجت امرأة ابن مسعود بنتًا لها صغيرة ابنًا للمسيب بن نخبة، فأجاز ذلك
عبد الله.
قال في المبسوط: ولكن أبا بكر الأصم لم يسمع بهذه الأحاديث , ثم قال:
والمعنى فيه: إن النكاح من جملة المصالح وضعًا في حق الذكور والإناث جميعًا ,
وهو يشتمل على أغراض ومقاصد لا تتوفر إلا بين الأكفاء , والكفء لا يتفق في
كل وقت , فكانت الحاجة ماسة إلى إثبات الولاية للولي في صغرها؛ لأنه لو انتظر
بلوغها لفات ذلك الكفء ولم يوجد مثله , ولما كان هذا العقد يعقد للعمر بتحقق
الحاجة إلى ما هو من مقاصد هذا العقد , فتجعل تلك الحاجة كالمتحققة في الحال
بإثبات الولاية للولي. انتهى.
وبعد أن حكى صاحب البدائع أن لا خلاف في تزويج الأب والجد إلا بشيء
يحكى عن عثمان البتي وابن شبرمة - بهذا اللفظ الذي يفيد ضعف النقل عنهما كما
ذكرنا- استدل للقول بجواز تزويج الأب والجد للصغير والصغيرة بقوله تعالى:
{وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ} (النور: ٣٢) وقال: الأيم اسم للأنثى من بنات آدم
عليه السلام , كبيرة كانت أو صغيرة لا زوج لها , وكلمة (من) إن كانت للتبعيض
يكون هذا خطابًا للآباء , وإن كانت للجنس يكون خطابًا لجنس المؤمنين , وعموم
الخطاب يتناول الأب والجد , وأنكح الصديق - رضي الله عنه -عائشة وهي بنت
ست سنين , وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم , وزوج علي ابنته أم كلثوم
وهي صغيرة من عمر بن الخطاب، وزوج عبد الله بن عمر ابنته وهي صغيرة
عروة بن الزبير - وبه تبين أن قولهما خرج مخالفًا لإجماع الصحابة , فكان مردودًا.
وأما قولهما: إن حكم النكاح بقي بعد البلوغ. فنعم , ولكن بالإنكاح السابق لا بإنكاح
مبتدأ بعد البلوغ , وهذا جائز كما في البيع , فإن لهما ولاية بيع ما للصغير , وإن
كان حكم البيع وهو الملك يبقى بعد البلوغ لما قلنا، فكذا هذا اهـ.
وقال الكمال في فتح القدير بعد أن استدل على جواز زواج الصغير
والصغيرة بقوله تعالى: {وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} (الطلاق: ٤) : فبطل به منع ابن
شبرمة وأبي بكر بن الأصم , وتزويج أبي بكر لعائشة - رضي الله عنهما - وهي
بنت ست نص قريب من المتواتر. اهـ.
فكان هذا المذهب مذهبًا باطلاً مردودًا مخالفًا لصريح الكتاب والسنة والإجماع
فلا يجوز العمل به.
سلمنا صحة النقل عمن ذكروا , وأن المذهب مذهب صحيح يجوز العمل به
لكن أصحاب المذكرة والأستاذ الشيخ الخضري في مقاله لم يعملوا بهذا المذهب ,
ولا بغيره من مذاهب علماء المسلمين؛ وذلك لأن ابن شبرمة وعثمان وأبا بكر بن
الأصم إنما خالفوا على فرض صحة النقل عنهم في تزويج الصغير والصغيرة ,
قبل بلوغهما لا بالحيض ولا بالاحتلام ولا بالسن , ولا يوجد من علماء المسلمين
قاطبة من يقول: بأن بلوغ الصغير والصغيرة لا يكون إلا بالسن , بل الإجماع من
العلماء سلفًا وخلفًا إلى يومنا هذا قائم على أن البلوغ في الصغيرة إما بالحبل أو
بالحيض أو بالاحتلام , وفي الصغير إما بالإحبال أو الاحتلام أو السن , وأنه لا
يصار إلى اعتبار البلوغ بالسن إلا إذا انعدم الحبل والحيض والاحتلام في
الصغيرة، وانعدم الإحبال والاحتلام في الصغير , وأما إذا وجد شيء مما ذكر في
الصغير أو الصغيرة , فقد بلغت هي وبلغ هو النكاح؛ أي: حد بلوغ الحلم وصارا
مكلفين بإجماع المسلمين , فكان حصر بلوغ الصغير والصغيرة في كونه بالسن
ودعوى أنه أضبط - أمارة للبلوغ كما جاء في المذكرة , وفي مقال الأستاذ الشيخ
الخضري مخالف لكتاب الله وسنة رسول الله وإجماع السلمين , فالقرآن دال
والإجماع قائم على أن الصبي والصبية متى بلغا الحلم , بأن حاضت الصبية أو
احتلمت أو حبلت وكانت رشيدة وقت بلوغها , وجب تسليم أموالها إليها بدون تأخير ,
ولو كانت بنت تسع سنين , وكذلك الصبي إذا احتلم أو أحبل امرأته , وتبين رشده
وقت البلوغ وجب تسليم أمواله إليه , ولو كانت سنه ثنتي عشر سنة بدون تأخير ,
ولا اعتبار بالسن في هاتين الحالتين. وأما إذا لم تحض الصبية ولم تحتلم ولم تحبل ,
ولم يحتلم الصبي ولم يحبل امرأته كان بلوغهما حينئذ بالسن , وهو خمس عشر سنة
عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد وهي رواية عن أبي حنيفة , وعليها الفتوى عند
الحنفية , كما أن العادة الفاشية أن الصبي والصبية يصلحان للزواج وثمراته في هذه
المدة ولا يتأخران عنها.
وشاع عن الإمام الأعظم أن السن للصغير ثمان عشرة , وللصبية سبع عشرة
سنة. وعلى كل حال فاعتبار السن أمارة للبلوغ وحدًّا له متأخر بالإجماع , عن
اعتبار الحيض والاحتلام حدًّا للبلوغ وأمارة له , فلا يصار إليه إلا عند عدمهما , لا
فرق في ذلك بين أن يزوج الإنسان نفسه، أو يزوجه وليه بإذنه على اختلاف
المذاهب في تفصيل ذلك , وبين أن يملك التصرف في ماله ومتى بلغ بالسن على
اختلاف المذاهب , فإن كان رشيدًا وجب تسليم ماله إليه عقب بلوغه هذه السن ,
وإن كان سفيهًا وجب الحجر عليه على قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد ومن
وافقهم , ولا يحجر عليه عند أبي حنيفة بل يؤخر ماله إليه إلى أن تبلغ سنه خمسًا
وعشرين سنة , فإنْ بلغ تلك السن سلم إليه ماله على كل حال.
وأما ما أجاب به الأستاذ الفاضل الشيخ الخضري عن السؤال الرابع الذي هو:
ما الرأي فيمن يبلغ بعلامات البلوغ قبل هذه السن؟ بأنه لا يعلم تفصيلاً لمذهب
ابن شبرمة في ذلك- فنقول له:
إذا كنت لا تعلم تفصيلاً لمذهب ابن شبرمة فيمن يبلغ بعلامات البلوغ قبل هذه
السن , فلم يكن حد البلوغ معلومًا عند ابن شبرمة , فلا يعلم حد الصغر، فيكون
مذهبه مجهولاً عندنا , فلا يجوز الأخذ به ومع ذلك فمذهب ابن شبرمة وعثمان
البتي وأبي بكر بن الأصم لم يكن مدونًا , وليس له أصحاب نقلوه بطريق صحيح ,
وإنما علمناه مما ذكره بعض علماء المذاهب الأخرى، كصاحب المبسوط وصاحب
البدائع وصاحب الفتح , وهؤلاء قد ذكروه مجملاً , ومع ذلك فهؤلاء يصرحون بأن
هؤلاء العلماء الثلاثة لم يخالفوا إلا في تزويج الصغير والصغيرة قبل البلوغ،
وأطلقوا اعتمادًا على ما هو متفق عليه بين الجميع , من أن البلوغ كما يكون بالسن
يكون بغيرها قبل هذه السن , على ما نطق به الكتاب والسنة وعبارة المبسوط قال
بخلاف ما يقوله ابن شبرمة , وأبو بكر الأصم أنه لا يزوج الصغير والصغيرة حتى
يبلغا؛ لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (النساء: ٦) اهـ.
فكان المنع في هذا المذهب مقيدًا بالبلوغ بأي أمارة كانت , كما هو المراد من
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (النساء: ٦) على ما فصلناه , وقال في
البدائع: جملة الكلام فيه: إنه لا خلاف في أن للأب والجد ولاية النكاح , إلا شيئًا
يحكى عن عثمان البتي وابن شبرمة أنهما قالا: ليس لهما ولاية التزويج. واستدل
لهما بأن حكم الزواج إذا ثبت لا يقتصر على حال الصغر , بل يدوم ويبقى إلى ما
بعد البلوغ. إلى آخر ما استدل به لهما مما هو صريح في أن منعهما مقيد بحال
الصغر , وأما بعد البلوغ فلا خلاف لأحد في جواز التزويج والتزوج , وهل بمجرد
عدم علم الأستاذ الشيخ الخضري بتفصيل هذا المذهب فيمن يبلغ بعلامات البلوغ
قبل هذه السن , يثبت أن هناك خلافًا ومذهبًا في عدم اعتبار علامات البلوغ في هذه
السن , وإن لم ينقل العلماء خلافًا في ذلك خصوصًا مع الإجماع على أن التكليف
مرفوعٌ عن الصبي حتى يحتلم , وعن الصبية حتى تحيض.
وأما ما قاله في مقاله المنشور بجريدة الأهرام نمرة ١٤٢٣٦ , في يوم السبت
٢٢ ديسمبر سنة ١٩٢٣ من أن الأصوليين اشترطوا في العلل التي تناط بها
الأحكام أن تكون أوصافًا ظاهرة منضبطة , وعلامات البلوغ , وإنْ تكن منضبطة
ليست بظاهرة. إلى آخر ما قال [٥]- فنقول له: إن علامات البلوغ ظاهرة منضبطة،
منها الحيض والاحتلام والحبل والإحبال , وكما اعتبر الشارع هذه الأمارات في
البلوغ , فقد اعتبر الحيض أمارة في العدة في ذوات الحيض؛ لانقضائها وتعرف
براءة الرحم , حتى على القول بأن عدة ذوات الحيض بالأطهار؛ لأن الأطهار التي
تنقضي بها العدة إنما تعرف بالحيض , وكما اعتبر الشارع الحيض فيما ذكر قد
اعتبره واعتبر الاحتلام في توجه خطاب التكليف , وأجرى على كل بنت حاضت
أو احتلمت , وابن احتلم أحكام البالغين والمكلفين , فإن كان لدى حضرة الأستاذ علم
بأن في هذا خلافًا، فليدلنا على مذهب المخالف , وكذلك الشارع اعتبر الحبل علة؛
لإيقاف نصيب الحمل في الميراث , ولوجوب الحد على من حملت من الزنا , على
أن المثبت للحكم في مورد النص هو النص لا العلل , وأما ما في دعوى الحيض
من البلاء على الأزواج والزوجات , فهذا منشؤه عدم التزام الشرع والعمل به على
فرض أن الدعاوى تخالف الواقع قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ} (البقرة: ٢٢٨) , وبالجملة فارتكاب مخالفة الحكم لا
ينسخ الحكم.
ومن هذا تعلم أنه لا معنى لقول أصحاب المذكرة: (اتفق العلماء على بطلان
العقد إذا باشره غير مميز) إلخ. بل هو لغو من القول وخروج عن الموضوع ,
ولا علاقة له به؛ لأن الكلام ليس في مباشرة غير المميز عقد الزواج , ولا في
مباشرة المميز له , وإنما الكلام في مباشرة ولي الصغير والصغيرة تزويجهما حال
الصغر بلا فرق بين مميز وغير مميز , كما أنه لا معنى لقول أصحاب المذكرة.
(اتفقت كلمة الحنفية أنه بعد البلوغ لا جبر لأحد في عقد الزواج) . فإنه خروج عن
الموضوع أيضًا؛ لأن الكلام ليس في الجبر وعدم الجبر.
على أن قولهم فيها: (لأن البلوغ آية الرشد واستكمال العقل) . يهدم جميع ما
قصدوه من المقدمات التي ذكروها في المذكرة , ويبطل ما يريدون ترويجه بناء عليها
من جواز تحديد السن للزواج؛ وذلك لأنهم متى اعترفوا بأن البلوغ آية الرشد
واستكمال العقل , وكان البلوغ بإجماع المسلمين كما يكون بالسن - على التفصيل
الذي قدمناه عند عدم الحيض والاحتلام للصبية , وعدم الاحتلام للصبي - يكون
بالحيض والاحتلام متى بلغت تسع سنين , والاحتلام للصبي إذا بلغ ثنتي عشرة
سنة , ولو لم يبلغ كل منهما السن التي حددوها لزواجه , فكان تحديد السن بما حددوه للزواج مخالفًا للكتاب والسنة والإجماع , كما أن ما ذكروه بالمذكرة من
اختلاف العلماء على فرض صحة الخلاف في جواز تزويج الصغير والصغيرة قبل
البلوغ , لا ينبني عليه جواز تحديد السن التي حددوها للزواج؛ لأن الصغير أو
الصغيرة إذا بلغا بغير السن , فقد بلغا الحلم، وملك تزويج نفسه , إن كان ذكرًا , أو
تزويجها وليها جبرًا أو ندبًا إن كانت أنثى بكرًا أو ثيبًا.
كما أن قول أصحاب المذكرة: (إن من اللازم أن يناط سن الزواج بسن
الرشد بالنسبة لكل من الزوجين إلخ) . قول باطل؛ لأن ذلك يقتضي أن هناك شرعًا
سنًّا للزواج وسنًّا للرشد , بل إن الصبي والصبية متى بلغا الحلم بأي أمارة من
أمارات البلوغ , سواء كانت بأمارة السن أو بالأمارات الأخرى , التي تكون قبل
السن إن كان رشيدًا مهتديًا لضبط ماله؛ سلم إليه ما له , وإن لم يكن كذلك بأن كان
سفيهًا يحجر عليه أو لا يحجر على الخلاف السابق , وأما حد البلوغ فلا فرق فيه بين
الزواج وغيره.
وأما استدلال الأستاذ الخضري وأصحاب المذكرة لمذهب ابن شبرمة ومن
معه بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر) وقوله عليه الصلاة
والسلام: (لا يتم بعد الحلم) , فهو استدلال لا يرضاه صاحب المذهب المذكور , فإن
الحديث الأول يدل بمنطوقه على أن اليتيمة وهي التي لا أب لها لا تنكح حتى
تستأمر , على معنى: حتى تبلغ وتستأذن، كما يقول ذلك الشافعي. أو أن المراد
باليتيمة باعتبار ما كان , كما يقول ذلك أبو حنيفة , ويدل بمفهوم المخالفة على أن
الصغيرة التي لها أب ينكحها أبوها، كما أن الحديث الثاني يدل بمنطوقه على أن اليتم
ينتفي بعد الحلم ولو بالحيض أو بالاحتلام , ولو لم تبلغ البنت ست عشرة سنة ولا
الابن ثماني عشرة سنة , وقد ذكر صاحب المبسوط هذين الحديثين , وجعلهما دليلين
للإمام الشافعي - رضي الله عنه - على مذهبه من أنه لا يجوز لغير الأب والجد
تزويج الصغير والصغيرة , وأما الأب والجد فلهما تزويجهما عملاً في ذلك بمنطوق
الحديث ومفهومه المذكور.
فكيف يمكن الاستدلال بهذين الحديثين لمذهب ابن شبرمة ومن معه وهم
يمنعون تزويج الصغير والصغيرة مطلقًا؟ ولا أدري من أين نقلوا الاستدلال بهذين
الحديثين لمذهب المانعين لتزويج الصغير والصغيرة؟ وأما ما اشتمل عليه مقال
الأستاذ الشيخ الخضري والمذكرة , من التعاليل لهذا المذهب فليس شيء منها يصلح
دليلاً؛ وذلك لانحصار الدليل الشرعي في الكتاب والسنة والإجماع والقياس
الصحيح , وليس ما ذكروه من العلل واحدًا منها.
أما أنه ليس من الكتاب والسنة والإجماع فظاهر , وأما أنه ليس بقياس؛
فلأنهم لم يذكروا الأصل المقيس عليه من الكتاب أو السنة أو الإجماع , وعلى
فرض أنه قياس صحيح فهو في مقابلة الكتاب والسنة أو الإجماع , فلا يعول عليه
ولا يلتفت إليه.
وأما ما قالوه ترويجًا لتحديد سن الزواج: من أن الزواج في الصغر يترتب
عليه المفاسد التي ذكروها , ويضر بصحة الصغير والصغيرة. فغير مسلم؛ لأنه لم
يقل أحد من المسلمين بأن الزواج فيه مفسدة لا في وقت الصغر ولا في وقت الكبر.
والأطباء مختلفون في أن الأفضل التبكير بالزواج أو التأخير , واختلافهم يوجب
الشك في أقوالهم , على أنه لا يمكن لعاقل أن يقول: إن مجرد حصول عقد الزواج
يحصل به ضرر لصحة الصغير أو الصغيرة. وإنما الذي يتوهم أن يقال إنما هو
في الوطء، وأما العقد فلا يترتب عليه شيء أصلاً , فلا وجه لتجديد السن له،
على أنه لا وجه للقول لترتب الفساد أو الضرر بالصحة إذا كانت الصغيرة تشتهي،
وبلغت السن التي تطيق فيه الوطء , ولو لم تبلغ حد البلوغ في الشرع , فإنه لو كان
في ذلك أدنى مفسدة ما أمر الله به في كتابه , ورسوله في سنته , وأجمعت الأمة على
سنته أو إباحته {قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} (البقرة: ١٤٠) - {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} (الملك: ١٤) .
***
مسألة تخصيص القضاء
وأما ما رتبه أصحاب المذكرة على تلك المقدمات , التي أطالوا فيها بلا طائل ,
من أن المنصوص عليه شرعًا أن لولي الأمر ولاية تخصيص القضاء إلخ. ففضلاً
عن كون ذلك لا يتفرع على تلك المقدمات ولا ينبني عليها , ولا علاقة بينه وبينها؛
لأن كون ولي الأمر يملك التخصيص، معلوم للخاص والعام , ومبناه على وجوه
المصلحة التي تقتضيه على ما فصلناه بمحاضراتنا التي قرأناها بمدرسة الحقوق
الملكية في أوائل ديسمبر سنة ١٩١٩ , ونشرت بمجلة الأحكام الشرعية في ٢١ ديسمبر من تلك السنة في عدد ٣ , وجرى على ذلك العمل. وأصحاب المذكرة لم يبينوا فيها وجه المصلحة العامة , التي اقتضت هذا التخصيص , فإنه ليس معنى
التخصيص هو ما فهموه , من أن ولي الأمر يمنع جميع قضاته عن أن ينظروا
حادثة يخرجها عن اختصاصهم جميعًا , ولا ينصب لها قاضيًا يفصل الخصومات
فيها , كما هو الشأن فيما قضت به المذكرة , فإن جميع حوادث الزواج الذي يقع
قبل سن ست عشرة سنة للبنات أو ثماني عشرة سنة للبنين قد منع جميع قضاة مصر
عن أن ينظروا فيها , وقولهم في المادة: إلا بالأمر. لا يغني شيئًا , ولا يقتضي
نصب قاض بالفعل ينظر في تلك الحوادث , بل معنى تخصيص القضاء الذي
تقضيه المصلحة أن يقسم ولي الأمر جميع أماكن مملكته إلى دوائر متعددة , فيجعل
لكل دائرة محكمة تحكم في قضايا القاطنين بها في حوادثهم , ويقسم الحوادث
كذلك بين قضاة تلك المحاكم فيجعل ما يخرج من اختصاص هذا القاضي داخلاً
في اختصاص ذلك القاضي. وعلى هذا لا يوجد مكان في المملكة , أو حادثة
لرعايا ولي الأمر إلا ولها قاض يفصل فيها , خصوصًا إذا كانت تلك الحوادث
في الحقوق المشتركة بين كونها حق الله سبحانه وكونها حق العبد، كالزواج
والطلاق أو الحقوق الخالصة لله تعالى , فإن الزواج بما فيه من حقوق أحد
الزوجين على الآخر حق العباد , ولما يترتب عليه من الحل والحرمة من حقوق
الله تعالى , كما أن الطلاق من حقوق العباد من وجه , ومن حقوق الله من
وجه آخر؛ وذلك لأن الشأن في الحقوق المشتركة أو الخالصة لله تعالى , إنما
هو للحاكم وولي الأمر , فيجب أن يكون لها قاض يفصل فيها أو يفصل فيها ولي
الأمر بنفسه.
على أن التخصيص على فرض وجود المصلحة - وإن لم تظهر - إنما هو فيما
أضيف على المادة نمرة ١٠١ من قانون سنة ١٩١٠ , وأما ما أضيف على المادة
نمرة ٣٦٦ من ذلك القانون من أنه (لا يجوز مباشرة عقد الزواج ولا المصادقة
على الزواج المسند إلى ما قبل العمل بهذا القانون) فليس من التخصيص في شيء
بل هو نهي عن مباشرة عقد الزواج والمصادقة عليه مسندًا إلى ما قبل العمل بذلك
القانون؛ لأن كلا من المباشرة والمصادقة ليس من عمل القاضي , بل إن الذي
يباشر عقد الزواج أو يتصادق عليه إما الزوجان أو وكيلاهما , إن كانا بالغين بالسن
أو بغيره , أو وليهما إن كانا قاصرين، أو ولي القاصر ووكيل البالغ , وأما المأذون
فوظيفته تلقين صيغة العقد لمن يحتاج إلى التلقين , والكتابة في دفتر، وتحصيل ما
فرضته الحكومة من الرسوم , فعقد الزواج متى كان مستوفيًا أركانه وشروطه كان
صحيحًا شرعًا , حضر المأذون أو لم يحضر , كتب أو لم يكتب.
ففضلاً عن كون عقد الزواج أدنى مراتبه السنية المؤكدة , أو الإباحة التي ندب
الشارع إلى فعلها فهو من الأمور الخاصة لا من الأمور العامة , ولا يجوز النهي
عنه، كما لا يجوز نهي الإنسان عن بيع ملكه إذا كان عاقلاً بالغًا رشيدًا , ولم
يحجر عليه لدين , فضلاً عن أن تحديد سن الزواج والنهي عن مباشرة عقده قبل هذه
السن المحددة يقتضي تحريم الحلال , الذي ندب الشارع إليه وحض الناس إليه أو
تحريم السنة المؤكدة , وكلا الأمرين معصية بإجماع المسلمين.
أما قول حضرة الأستاذ الشيخ الخضري: (أما الاعتراض على ذلك بما
يوجد من تحريم حلال وإحلال حرام , فلا محل له ما دامت هناك مذاهب مختلفة)
فنقول له: يا حضرة الأستاذ، إن الخلاف - على فرض أنه خلاف معتبر - إنما هو في الصغير والصغيرة قبل البلوغ , وأما بعد البلوغ ولو قبل بلوغ السن
المحددة للصغير والصغيرة , فليس هناك مذاهب مختلفة , بل إجماع المسلمين وسنة
سيد المرسلين كلها متفقة على أن الصبية إذا بلغت , والصبي إذا بلغ الحلم بأي أمارة
كانت كان كل منهما بالغًا شرعًا , لا يخالف في زواجه أحد من العلماء , ولو لم تبلغ
البنت ست عشرة سنة والابن ثماني عشرة سنة , وقد صرح الفقهاء قاطبة بأن
البنت إذا بلغت تسع سنين , وادعت الحيض أو الاحتلام تصدق في ذلك , وكانت
بالغة شرعًا، وكذا الابن إذا بلغ ثنتي عشرة سنة وادعى الاحتلام صدق في ذلك ,
وكان بالغًا شرعًا , وإن وجدت أحدًا يخالف فيما قلنا فعليك بالبيان.
فلو فرضنا أن البنت إذا تزوجت بعد البلوغ زواجًا صحيحًا شرعًا , ولم تبلغ
تلك السن المحددة , أليست تلك البنت تحل شرعًا لهذا الزوج الذي تزوجها وتحرم
على غيره , ولا يحل لأحد غير هذا الزوج أن يتزوجها ما دامت في عصمته ,
ووطؤها حلال لهذا الزوج حرام على غيره؟ فلو فرضنا أنها مكثت مع هذا الزوج
مدة , ثم ادعى آخر بعد أن بلغت سنها ست عشرة سنة أنه تزوجها بنكاح صحيح
شرعي وادعاها الأول كذلك , أليس الحكم الشرعي يقتضي أن يحكم لأسبقهما
تاريخًا ولو كان زواجه بها قبل أن تبلغ السن المحددة؟ فإذن ماذا يصنع القاضي؟
أيحكم بمقتضى الشرع للأول , وقد كان زواجه بها قبل أن تبلغ السن المحددة
المذكورة ويخالف ما تحبذه من ذلك التخصيص أو ذلك النهي , وهو معزول
بمقتضى ذلك التخصيص عن أن يحكم بالزواج قبل بلوغ هذه السن؟ أو يحكم
للزوج الثاني وقد أمره الله أن يحكم للزوج الأول لا للثاني؛ لأن زواجه باطل
بالإجماع؟ أليس في ذلك تحريم الحلال وإحلال الحرام؟ وما قلناه في البنت إذا
بلغت تسع سنين وحاضت أو احتلمت وتزوجت , يقال أيضًا في الابن إذا بلغ ثنتي
عشرة سنة واحتلم وتزوج وأحبل زوجته , ثم جاء آخر يدعي أن تلك الزوجة
زوجته , وكان المدعي تبلغ سنه ثماني عشرة سنة , والأول لم يبلغ تلك السن ولم
تبلغ الزوجة أيضًا سن ست عشرة سنة , بل بلغت بغير السن. فماذا يصنع القاضي
أيحكم للسابق كما قضى به الشرع أم يحكم للثاني كما قضى به الرأي المخالف
للشرع؟
إني أعتقد - والله على ما أقول وكيل - أنك وأصحاب المذكرة لا تقولون
بجواز حكم القاضي للثاني , بل بوجوب الحكم للأول وأنكم لا تخالفون في هذا ولا
تستطيعون المخالفة فيه؛ لما في المخالفة من مخالفة الكتاب والسنة والإجماع , ولا
يسعني إزاء ما وقع إلا أن أقول كما قال صاحب الروض من أئمة الشافعي:
من قلد العلما وأقدم أعذرا ... وعلى الذي أفتى........
إلخ إلخ
هذه نصحيتنا نقدمها لأولياء الأمور وعامة المسلمين عسى الله أن يهدينا جميعًا
إلى سواء السبيل , ويغفر لنا خطايانا وهو حسبنا ونعم الوكيل.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد بخيت
... ... ... ... ... ... ... مفتي الديار المصرية سابقًا
(المنار)
لما شرعت الجرائد اليومية في نشر هذه الرسالة , كتب الشيخ محمد
الخضري بك مقالة ثانية؛ لتوضيح المقالة الأولى , والرد على بعض ما نشرته في
الرد عليه ولاسيما هذه الرسالة , وقد تضمنت هذه الرسالة الرد على أقوى ما كتبه،
ثم كتب صاحبها رسالة أخرى , استوفى فيها الرد عليه من الجهة الفقهية , وبقي في
رسالته الأخيرة مسائل أخرى مهمة تتعلق باجتهاد القضاة والحكام , وهو يرى
ويشايعه بعض من كتب في المسألة أن للملوك ورؤساء الحكومات في هذا العصر
مثل هذا الحق في الاجتهاد , وإلزام المسلمين العمل باجتهادهم في كل المعاملات
حتى ما يسمونه الأحكام الشخصية , وأن طاعتهم تجب في ذلك ...
وفي هذه المسألة بحث طويل، ونحن نعتقد أن الشريعة لا حياة لها ولا بقاء
لأحكامها في مثل مصر والترك إلا بالاجتهاد الصحيح , وأما انتحال الحكومات
للاجتهاد بغير ما لا يمكن بدونه من العلم بالكتاب والسنة وأصول الفقه فهو مفسدة
عظيمة في الدين والدنيا.
وههنا مسألة أخرى اختصر فيها وأوجز كل من كتب في هذا الموضوع ,
وهو ما ادعى واضعو مذكرتي القانون من الترك والمصريين من الضرر العظيم في
زواج من لم يبلغ السن التي حددوها , فقد بالغوا فيها على اختلاف الفريقين في
تحديد السن , وجعلها في أشد القطرين حرًّا - وهو المصري - أطول منها في
أشدهما بردًا - وهو التركي - مع العلم بأن البلوغ الطبيعي يكون أسرع في الأول
وأبطأ في الثاني غالبًا , وقد جعل الأستاذ الشيخ بخيت الضرر المدعى مشكوكًا فيه؛
بدليل اختلاف الأطباء فيه , وأشار إلى أن العبرة فيه بقوة البنية وطاقتها في
الأنثى البالغة على احتمال أعباء الحمل والولادة , فهذا الضرر خاص بمن لا
تطيق ذلك لا عام , فرب بالغة للسن التي ذكروها لا تطيقه، ورب غير بالغة إياها
وهي تطيقه. وقد راعى الترك هذا في قانونهم , ولا ندري ما هم فاعلون في
تنقيحه في هذا الطور الذي اشتد فيه التنازع الصريح بين الإسلام , والغلو في
التفرنج حتى إن كثيرًا منهم يطالبون حكومتهم بمنع تعدد الزوجات , على علمهم بأن نساءهم أضعاف رجالهم.
وأما الضررالاقتصادي في حال عجز الصغير عن الكسب الذي يمكنه من النفقة
التي يتوقف عليها تكوين الأسرة فالشرع الإسلامي يراعيه , كما يراعي منع الضرر
البدني فهو لا يشرع الزواج إلا للقادر على النفقة , بل التشريع الإسلامي مبني على
منع كل ضرر يجني به الإنسان على نفسه أو على غيره وفي الحديث: (لا
ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجه.
والقوانين الوضعية الأوربية تبيح لكل أحد أن يضر نفسه بالسكر والقمار
والزنا وغير ذلك , وإذا كان مدمن هذه الموبقات صاحب زوج وأولاد فإنه يجني
عليهم باقترافه إياها ما لا يذكر معه كل ما بالغوا فيه من زواج من دون السن التي
حددوها , ولا يزال كثير من الإفرنج يبكرون بالزواج , وقد قرأنا في هذه الأيام
مقالة في جريدة (السياسة) المصرية موضوعها (تبكير أهل أمريكا بالزواج) .
وقد وفَّى هذا الموضوع حقه من الوجهة الطبية وغيرها الدكتور محمد توفيق
صدقي الطبيب العالم الكاتب الشهير (رحمه الله تعالى) في المحاضرات التي كان
يلقيها في مدرسة دار الدعوة والإرشاد ونشرت في المنار , وطبعت على حدتها في
جزأين , ونشر هذا البحث في جريدة الأهرام ومما قاله: إن السن القانونية للزواج
في الشريعة الإنجليزية ١٤ للذكور و١٢ للإناث , وتعتبر زواج الأطفال القاصرين
صحيحًا إذا لم يطعن أحد الزوجين في العقد عند بلوغ السن , وعزا ذلك إلى
ص ٥٦ من كتاب (أصول الطب الشرعي) لمؤلفيه جاي وفرير الإنكليزيين
فليراجع البحث من شاء في المجلد ١٨ من المنار (ص ٣٦٦ م١٨) أو في الجزء
الأول من (دروس سنن الكائنات ص ١٤٣) .
وجملة القول أن القانون الذي هو محل بحثنا لم يترو في وضعه من الوجهة
الشرعية , ولا من الوجهات الطبية والاجتماعية , فيجب إلغاؤه وتأجيل مسألة سن
الزواج إلى أن ينظر مجلس نواب الأمة في قانون الأحكام الشخصية وحينئذ نعود
إلى الموضوع فنوفيه حقه إن شاء الله تعالى.