للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

(٢٨) من الدكتور وارنجتون إلي الدكتور أراسم في ١٢ يوليه سنة - ١٨٥.
أبشرك أيها السيد العزيز بغلام جميل ولد لك في الساعة الثالثة من صباح هذا
اليوم بعد ما قاسته والدته من طول العناء وشديد الألم , ولقد كنت عشية أمس مشفقًا
من أن يحل بها مكروه لبعض علامات بدت عليها , ولكن قد أعانتنا قوة طبيعتها ,
وسلامة خلقها على النجاة من الخطر , وأصبحت صحتها من الجودة على ما كنا
نرجوه لها , أما الغلام فجل ما يبتغيه أن يعيش ليخلد به ذكرك , ويعلو بنباهته قدرك
ويعظم فخرك.
وهذه فرصة قد انتهزتها لمكاشفتك بما في قلبي لك من المنزلة الرفيعة ,
وما في نفسي من جواذب الميل إليك ورجائك في أن لا تضن بي على أي خدمة
يلزم لك أداؤها , وأن لا تكتم عني حاجة يعوزك قضاؤها , فإن قبلت هذا
الرجاء استوجبت خالص شكري لأنك بذلك تكون قد برهنت لي على أنك لم تنس
صديقك القديم , نحن معشر الإنكليز متهمون عندكم بأن فينا شيئًا من الانقباض عن
الناس والاحتراس في معاملتهم , ولكن ربما كنا خيرًا مما اشتهر عنا , وعلى كل
حال فإن لنا قلوبًا تعطف على البائسين وتكرم المنكوبين.
... ... ... صديقك المخلص. ...
(٢٩) من هيلانة إلي أراسم في ٢ أغسطس سنة- ١٨٥
لابد لي أن أقص عليك تاريخي فيما يسميه الإنكليز اعتكاف النُّفَساء، ملتزمة
في ذلك طريق الايجاز فأقول:
استأجرت ممرضة كما هي العادة هنا , وهي امرأة واسعة الخبرة في أمور
التمريض والولادة , أراك تقضي منها العجب لو سمعتها تتكلم في الطب والجراحة
والقيام على الأطفال وغير ذلك مما يدل على كثرة درايتها فيما يلزم لمهنتها ,
والظاهر أنه يوجد من هؤلاء القوابل في إنكلترا قبيلة بتمامها , ووظيفتهن في حق
الوالدات هي أن يرشدن من يكن منهن حديثات عهد بالولادة إلي ما يعود عليهن
وعلى أولادهن بالنفع , وينفذن ما يصفه الطبيب من طرق التداوي , وعندهن
بحسب ما يُسمع منهن عدة من المركبات الدوائية لمداواة بعض طوارئ العلل لا
يتخلف عنها الشفاء , أما قصصهن في هذا الموضوع , فإنها لا نفاد لها , وإني لو
اعتقدت صدق كلامهن في جميع الأطفال الذين يدعين أنهم نجَوا على أيديهن من
الموت لبطل عجبي من كون إنجلترا قد وجدت من أبنائها العدد الكافي لعمارة
إستراليا وزيلاندا الجديدة , وسائر مستعمراتها.
أما التي تقوم علي منهن , فهي - فوق ما تقدم من الصفات - امرأة بارعة
ذات فضل يظهر أن صفة الأمومة العامة قد صارت غريزة من غرائزها , وهي
قصيرة هيفاء تلوح عليها سمات الاستقامة وكرم النفس، شهدت في ماضيها كما يقال
أيامًا فإنها كانت زوجة لرجل كان ملاحظًا للأعمال في أحد مناجم كورنواي وقتل
بسبب اندكاك هذا المنجم فترملت من بعده , وقد رزقت هي أيضًا عدة أولاد فارقوها
من عهد بعيد , وتشتتوا في البر والبحر ابتغاء الرزق، اثنان منهم ملاحان صالحان
يصلانها حينًا بعد حين بصندوق من الشاي وقطعة نقد من الذهب , وقد عرض عليها
أن تكون ممرضة في مستشفي كبير فلم تقبل على ما في إبائها من المباينة لمصلحتها ,
وقالت: إني أفضل أن أتلقى الوافدين إلى الدنيا , وأرجو لهم حياة طويلة فيها على
توديع من يفارقها فراقًا أبديًّا.
كان الدكتور وارنجتون قد أوصى قبل سفره بأن يؤذَن بدنو ساعة الولادة، فلما
حان الوقت أُرسل إليه مكتوب فلم يلبث أن جاء من لوندرة على إثره قبل أن
يضربني الطلق وتنزل بي شدائد المخاض وأهواله , ومما يُحمد في خصال
الإنكليز أنهم إذا أسدوا إلى غيرهم معروفًا لا يمنون عليه , بل لا يظهرون له
قصدهم بذلك خدمته , أو إسداء المعروف إليه , وذلك إما أن يكون منهم رقة طبع
وكمال أدب أو كبرًا وترفعًا عن خدمة سواهم، يدلك على ما أقول أني لما شكرت هذا
الدكتور على مجيئه وتركه مرضاه في لوندرة كان جوابه لي أن قال: رويدك فإني
ما جئت من أجلك , وإنما جئت لزيارة زوجتي وأولادي , فهذا الجواب يعتبر
في رأينا معشر الفرنساويات دليلاً على قلة الظرف , ويعده كثير من الباريسيات
إهانة وتحقيرًا , أما أنا فلم أنظر إلا إلى قصد قائله , فهو جليل , فإنه على يقيني
بأن الغرض من مجيئه هو غير ما يقول قد أراد أن يقنعني بأن وجوده عندي إنما
كان اتفاقًا لا تعملاً فلا يد ولا منة له علي , أو أنه كان شيء من ذلك فلا ينبغي أن
يتمدح به أو أن يذكر.
ثم إنه لم يقف في تفضله علي عند حد مساعدتي بعلمه وحذقه في فن التوليد
على النجاة من الهلاك الذي كنت مشفقة من الوقوع فيه , بل إنه قد تكرم أيضًا بأن
محضني النصح شأن الصديق مع صديقته فيما يجب للمولود من ضروب العناية
فقال: (إني أخاطب الآن غَرة لا خبرة عندها فلا تدهش لما سألقيه عليها من
أفكاري , فإن أقل مزية لها أن أساسها التجربة والاختبار , قد نبه كثير من وصفائي
أفكار الناس في جميع البلدان إلى كثرة عدد الوفيات المريعة في الأطفال الحديثي
العهد بالولادة , ويمكن إرجاع هذه البلوى إلي جملة أسباب، كفاقة الوالدين وفساد
أخلاقهما وعدم كفاية أقواتهما , ولكني أعتقد أن أخص سبب يجب أن ينسب إليه
ذلك هو جهل الأمهات بما تجب عليهن رعايته في شأن أولادهن، فإن الاساءة في
بعض طرق العناية بالمواليد كاتخاذها في غير وقتها , أو الخطأ في تدبيرها لا تقل
عن إهمال شأنهم شؤمًا وسوء مغبة , وإني لست أقصد بهذا أنه يجب على الأمهات
أن يجرين على ما تقتضيه الفطرة جري عماية وغفلة , فإنهن إن يفعلن ذلك يعصين
الله (سبحانه) بتخليهن عن العقل الذي لم يهبه لهن إلا لمراقبة سير الفطرة في
مناهجها وإقامتها عليها إذا حادت عنها , وإنما أعني بذلك أن الاوهام والعادات
والمعارف الكاذبة هي أعدى أعداء المواليد فتجب محاربتها ومحو آثارها , وينبغي
أن تعتقدي أننا لسنا أسوا من غيرنا حالاً في تربية مواليدنا؛ لأن شعبنا يزداد زيادة
ظاهرة حتى إنه قد ضاقت عن سكناه أرجاء بلادنا وها نحن أولاء نرسله أفواجًا إلي
الأقطار السحيقة ليتوطنها ويستعمرها، ومن هذا تعلمين أن ازدياد الأجناس لا يكون
على نسبة عدد الأطفال المولودين , بل على نسبة عدد من يتخطاهم الموت منهم ,
وعندي أن هذه النتيجة الحسنة الداعية إلي الاغتباط في بلادنا ترجع إلي ثلاثة أمور
وهي: استعداد الدم الإنكليزي السكسوني للحياة , وانطباع نسائنا على حب بيوتهن
والعناية بها وما لذوي العقول المستضيئة بنور العرفان من علمائنا من التأثير في
نفوس العامة فإن كثيرًا من نطس الأطباء الطائري الصيت عندنا لم يأنفوا أن يقوموا
ببث الأفكار الصحيحة والآراء السديدة في فن القيام على المواليد بين
أفراد الشعب) .
ولم يكد الدكتور يفرغ من كلامه حتى باشر العمل بنفسه ورتب ما رآه غير
مرتب في غرفة نومي، من ذلك أنه وجد مهد (أميل) قد وضع خطأ تجاه الشباك
فغير وضعه وقال لي: (إني رأيت أطفالاً أصبحوا عميًا أو حولاً بسبب تعريضهم
بعد ولادتهم بأيام لضوء شديد) هذا وإني سأتحفك بنصائح أخرى وعيتها عن هذا
الرجل الفاضل لما رأيته فيها من كمال الحكمة والسداد , ولم أُخِل بشيء منها ,
وإني لا أرتاب في أنه قد تكلف من المشقة والتعب من أجلي ما لم يتكلفه لغيري من
النساء اللاتي يُدعى لتوليدهن , وعاملني كما يعامل الرجل زوجة صديقه , على أن
الناس قد أكدوا لي أن الأطباء المولدين هنا لا يرون أن عملهم قد تم بمجرد انتهاء
الولادة , بل يرشدون الوالدة بعد ذلك إلي جميع ما يلزمها في تربية وليدها اهـ.
(٣٠) من هيلانه إلي أراسم في ٣ أغسطس سنة - ١٨٥
كلما رددت النظر إلى (أميل) رأيت مثالك محققًا فيه ولا بد لي أيها
العزيز أراسم أن أحكي لك بهذه المناسبة حكاية طبق ذكرها الآفاق في البلد الذي
أسكنه، ذلك أن قسيسًا بروتستنتيًّا قاطنًا في جنوب إنكلترا وجد اتفاقًا في كورنواي
يومًا من الأيام فطلب أن يزور قصرًا عتيقًا جدًّا في ضيعة هناك كانت لأسلافه في
غابر الأزمان , ولذلك كان كثير الاهتمام برؤية أماكنها , فلما حل بها ملأه العجب ,
وأخذ منه الاندهاش كل مأخذ إذ رأى في الرواق المعلقة فيه صور أهل هذا البيت
السالفين صورة كأنها تمثله بذاته مرسومًا على قماش قديم لابسًا عُدة الحرب كما كانت
سُنة الناس في القرون الوسطى لا بملابسه السوداء التي يلبسها اليوم , وبينما هو يتأمل
في هذه الصورة وفيما يليها من الصور إذ وقع بصره على صورة أخرى زادته ارتياعًا
ودهشةً فتقهقر خطوتين إلي الوراء وهي صورة تمثل ابنه البكر , وهو في الثالثة
عشرة من عمره , وكان معه في هذا الرواق، فماذا تفتكر في هذه الصورة الوراثية؟
أما أنا فإني أكاد أفزع عند ما أفتكر في أن رجلاً من الأحياء يعرف نفسه وابنه في
شخصين مجهولين من أهله ماتا من عدة قرون.
فليت شعري هل نحن راجعون إلي الدنيا بعد الفناء كما روى لنا التاريخ ذلك
عمن يؤمنون بالرجعة والتناسخ؟ اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))