النبذة التاسعة في كتب العهدين جعل مؤلف الأبحاث الفصل الثاني من البحث الأول في إثبات صحة التوراة والإنجيل عقليًّا، وتقرير هذا الدليل أن الله قادر حكيم فلا بد أن يضع دستورًا ويكتب شريعة لمخلوقاته العاقلة، كي تعلم نسبتها إلى خالقها وواجباتها نحوه، وواجبات بعضها نحو بعض، وتعرف مصير العالمين وقصاص العصاة وثواب الطائعين المؤمنين لئلا يكونوا فوضى لا وازع لهم ولا مشترع كالأنعام يدوس بعضهم بعضًا، وكالأسماك يأكل صغيرَها كبيرُها، ويفني الناس بعضهم بعضًا وتستوي الفضيلة والرذيلة، وهذا ما لا يرضى به القادر الحكيم، ثم قال: (فإذا لم يكن ذلك الدستور وتلك الشريعة هما التوراة والإنجيل، فقل لي بعيشك ما هما، هل يوجد كتاب قديم مقدس يفي بالغرض المقصود كالتوراة والانجيل؟ كلا لعمري) . (المنار) إننا لا نؤاخذ المؤلف على تقصيره في تقرير وجه الحاجة إلى الشريعة، إذ يعرف القراء هذا التقصير بمقابلته بما كتبناه وما سنكتبه في بيان الحاجة إلى الوحي من دروس الأمالي الدينية؛ ولكننا نذكِّره بأمور إذا تأملها ظهر له أن حجته داحضة. (١و٢) لماذا ترك الله البشر قبل التوراة ألوفًا من السنين لا نعلم عددها من غير شريعة إذا كان ذلك لا يرضيه؟ ولماذا لم تظهر حكمته هذه إلا في بني إسرائيل من عهد قريب، وكل الناس عبيده والعلة تقتضي العموم؟ هذان السؤالان يردان عليه، وعلى جميع اليهود والنصارى القائلين بقوله ولا يردان على المسلمين؛ لأن القرآن حل هذا الإشكال بقوله تعالى في الرسل: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} (غافر: ٧٨) فنحن نعتقد أن الله أرسل رسلاً في جميع الأمم التي استعدت بترقيها إلى فهم توحيده لا يعلم عددهم غيره تعالى. (٣) هل كان أهل الصين كالأنعام يدوس بعضهم بعضًا، أو كالسمك يأكل كبيرهم صغيرهم بلا وازع ولا رادع، أم كانوا أولي مدنية وفضائل قبل وجود بني إسرائيل وبعدهم؟ والتاريخ يدلنا على أنهم كانوا أرقى من بني إسرائيل في العلوم والمعارف والمدنية والنظام الذي تُحتاج الشريعة لأجلها، وكانوا أرقى من النصارى أيام لم يكن عند هؤلاء إلا الديانة التي بثها فيهم مقدسهم بولس، فما زادتهم إلا عداوة وبغضًا واختلافًا وتنازعًا وحربًا واغتيالاً في تلك العصور التي يسمونها المظلمة، وكان الصينيون في هدوء وسلام ووفاق ووئام، ما قيل في الصينيين يقال نحوه في الهنود، ولا يرد مثل هذا الإشكال على المسلمين؛ لأنهم بمقتضى هدى القرآن يجوزون أن يكون الله تعالى بعث في الصين والهند أنبياء أرشدوهم إلى ما كانوا فيه من السعادة، ثم طال عليهم الأمد، فمزجوا ديانتهم بالنزغات الوثنية الموروثة حتى حوَّلوها عن وجهها تحويلاً، كما نعتقد مثل ذلك في النصارى إذ لا شك أن ديانتهم في الأصل سماوية توحيدية، ثم حوَّلوها إلى عبادة البشر من المسيح وأمه وغيرهما. (٤) إن الأوروبيين قد استغنوا بالقوانين الوضعية عن شريعة التوراة، وبالآداب الفلسفية عن آدابها وآداب الإنجيل فطرحوا الزهادة، ونفضوا عن رؤوسهم غبار الذل، وقد نجحوا بهذا وارتقوا عما كانوا عليه أيام كانوا متمسكين بهذا الكتاب الذي يسمى (المقدَّس) فكيف تقول إنه لا يوجد غيره لهداية البشرية وتهذيب أخلاقهم، وهذا الواقع على خلافه، وهذا الإشكال لا يرد أيضًا على المسلمين؛ لأنهم يعتقدون أن اليهود والنصارى نسوا حظًّا مما ذُكِّروا به في الوحي وطرأ على الباقي التحريف والنسخ، فلم يعد صالحًا لهداية البشر، ويعتقدون أن الأوربيين أقرب الناس إلى دين الإسلام في أخلاقهم الحسنة كعزة النفس، وعلو الهمة والجد في العمل والصدق والأمانة والاهتداء بسنن الكون والاسترشاد بنواميس الفطرة، والأخذ بالدليل وغير ذلك، وأنهم كما اهتدوا إلى هذا بالبحث والتوسع في العلم سيهتدون كذلك إلى سائر ما جاء به الإسلام من العقائد والأخلاق والفضائل والأعمال. (٥) إن المسلمين قد ظهر فيهم كل ما ذكره في وجه الحاجة إلى الشريعة على أكمل وجه لم يعرف مثله في الكمال عند اليهود والنصارى، فعرفوا ما يجب لله تعالى، وما يجب من حقوق العباد وصلح بالدين حالهم، واجتمعت كلمتهم وتهذبت أخلاقهم، وسمت مدنيتهم في كل عصر بقدر تمسكهم به، والتاريخ شاهد عدل. (٦) إذا كانت التوراة قد بيَّنت كل ما ذكره من حاجة البشر إلى الشريعة فلماذا وُجد الإنجيل؟ وإذا كانت ناقصة فلماذا جعلها الله ناقصة لا تفي بالحاجة، وكيف يتم له الدليل بناء على هذا القول على إثبات التوراة والإنجيل بالعقل؟ وهذا الإشكال لا يرد على المسلمين المعتقدين بصحة أصل التوراة والإنجيل؛ لأنهم يقولون: إن كلاًّ منهما كان نافعًا في وقته، ثم عدت عواد اجتماعية ذهبت بالنفع والفائدة، فساءت حال القوم المنتمين إلى الكتابين، فجدَّد الله الشريعة بالإسلام على وجه فيه الإصلاح العام، فانقشع بنوره كل ظلام، وحفظ الله كتابه من التحريف والتبديل ليرجع إليه الذين يضلون السبيل. (٧) إذا كانت التوراة مشتملة على ما ذكره - كما تقدم - فلماذا تركها المسيحيون فعطلوا شرائعها، وضيَّعوا حدودها كما بيناه في بعض نبذ الرد السابقة. (٨) إذا كانت كتب العهد العتيق والعهد الجديد إلهية حقيقية، فلماذا وُجد فيها الاختلاف والتناقض والتهاتر ومصادمة العقل الذي لا يُفهم الدين ولا يُعرف إلا به، وقد تكلمنا على مصادمتها للعقل قليلاً في بعض النبذ الماضية، وسنبين بعد كل ما ادعيناه هنا تبيينًا. (٩) إذا كانت هذه الكتب إلهية وافية بما ذكره المصنِّف من حاجة الناس للشرائع، فلماذا وُجد فيها ما يُخل بذلك أصوله وفروعه، كتشبيه الله بخلقه ونسبة الفواحش إلى الأنبياء الذين هم أحق الناس وأولاهم بالاهتداء بالدين الذي تلقوه عنه سبحانه وتعالى، وغير ذلك مما ينافي الآداب الصحيحة كما ألمعنا من قبل، وسنزيد ذلك بيانًا، ونكتفي الآن بإشارات من لامية البوصيري رحمه الله تعالى، قال في شأن العهد العتيق وأهله: وكفاهم أن مثَّلوا معبودهم ... سبحانه بعباده تمثيلا وبأنهم دخلوا له في قبة ... إذ أزمعوا نحو الشام رحيلا وبأن (إسرائيل) صارع ربه ... فرمى به شكرًا لإسرائيلا وبأنهم سمعوا كلام إلههم ... وسبيلهم أن يسمعوا منقولا وبأنهم ضربوا ليسمع ربهم ... في الحرب بوقات لهم وطبولا وبأنه من أجل آدم وابنه ... ضرب اليدين ندامة وذهولا وبأن رب العالمين بدا له ... في خلق آدم يا له تجهيلا وبدا له في قوم نوح وانثنى ... أسِفًا يعضُّ بنانه مذهولا [١] وبأن إبراهيم حاول أكله ... خبزًا ورام لرجله تغسيلا [٢] وبأن أموال الطوائف حُللت ... لهموا ربًا وخيانة وغلولا وبأنهم لم يخرجوا من أرضهم ... فكأنما حسبوا الخروج دخولا لم ينتهوا عن قذف داود ولا ... لوط فكيف بقذفهم روبيلا [٣] وعزوا إلى يعقوب من أولاده ... ذكرًا من الفعل القبيح مهولا وإلى المسيح وأمه وكفى بها ... صدِّيقة حلت به وبتولا وأبيك ما أعطى يهوذا خاتمًا ... لزنى بمحصنة ولا منديلا [٤] لوَّوا بغير الحق ألسنة بما ... قالوه في (ليَّا) وفي راحيلا [٥] ودعوا سليمان النبي بكافر ... واستهونوا إفكًا عليه مقولا [٦] وجنوا على هارون بالعجل الذي ... نسبوا له تصويره تضليلا [٧] إلى أن قال: الله أكبر إن دين محمد ... وكتابه أقوى وأقوم قيلا طلعت به شمس الهداية للورى ... وأبى لها وصف الكمال أُفُولا والحق أبلج في شريعته التي ... جمعت فروعًا للهدى وأصولا لا تذكروا الكتب السوالف عنده ... طلع الصباح فأطفئ القنديلا درست معالمها ألا فاستخبروا ... عنها رسومًا قد عفت وطلولا ولا يخفى أن هذه المطاعن التي تنافي ما ذكره المصنِّف وغيره من الدليل على حاجة البشر إلى الشريعة ولا تليق بالوحي السماوي، لا ترد على المسلمين الذي يقولون بحقية التوراة والإنجيل لما بيَّناه في الجزء الخامس فراجعه. ((يتبع بمقال تالٍ))