للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عمر خيري أفندي زغلول


كان يا ما كان
(٥)
ثم انصرفت السيارة، واضعة طول العمر في صندوقها، فمرت بالببغاء في
طريقها، فقالت له: هل أنت في جوع؟ فقال: نعم، وإنه لجوع ديقوع دهقوع،
وكان في يدها نموذج بضاعتها، فنفحته به لساعتها، فحسبه طعامًا، فالتهمه التهامًا،
ومن ذلك الحين صار الببغاء يعيش ثلاثمائة سنين، وفي إثر ذلك جاءت السيارة
الخامسة لتبيع الشرف والفخر، والكمال ورفعة القدر، فسألها الناس عن الثمن،
فقالت: هو خدمة الوطن، والقيام بالأعمال المهمة التي ترتقي بها الأمة، أو دفع
العدو عن البلاد، وتخليصها من ذل الاستبداد أو الاستعباد، أو اكتشاف حقيقة
علمية، أو اختراع آلة صناعية، فقالوا لها: إن الشرف والكمال يشترى عندنا
بالمال؛ لأنه إما رتبة أو وسام، أو منصب من مناصب الحكام، ولا يتوقف شيء
من ذلك على سلوك تلك المسالك التي تعود بالإسعاد على الأمة والبلاد، فقالت
السيارة: ما سمي الوسام بهذا الاسم إلا لأنه علامة ووسم على أعمال عظيمة،
يقوم بها أصحاب العزيمة، ولو كان الشرف في التحلي بالمعادن والجواهر، أو
التزين بالملبوس الفاخر لكانت الغانيات من ربات الحجال أفضل وأشرف من عظماء
الرجال كالفلاسفة والحكماء، والعلماء والصلحاء، ولتسنى لبعض الأغنياء المترفين
أن يكون أعلى شرفًا من الملوك الفاتحين، بل ومن النبيين والمرسلين، وأما الألقاب
الشريفة التي يتهافت عليها أرباب العقول السخيفة، كصاحب السماحة والسيادة، أو
صاحب الدولة أو السعادة، فهي كلام إذا لم يطابق الواقع بأن يكون أصحابها
ينابيع المصالح والمنافع، فهي على كونها عرضًا يتلاشى في الهواء، جديرة بأن
تدل على السخرية والاستهزاء، كوصف النذل الجبان بأوصاف الشجعان، وكإطلاق
ألقاب أكابر العلماء على سفلة الجهلاء، فقالوا لها: إن الشرف والمجد ما قوبل
صاحبه بالتعظيم والحمد، ولا يتشرط عندنا أن يطابق مدحه الواقع ولا أن يكون
مظهرًا للمنافع، فخير للمرء أن يؤذي فيُكرم ويُعان، من أن ينفع فيؤذَى ويُهان،
فقالت: أما وقد فسدت هكذا الطباع، وتغيرت كما ذكرتم الأوضاع، فقد بطل الدليل
والمدلول، وظهرت العلة والمعلول، وتبين أنه لم يبق من شرف لهذه الوسامات،
ولا لأكسية التشريفات، بل ربما دلت على خسة ذويها، وسخافة رأي الراغبين فيها،
وأرى من الفضيلة التنائي عنها، وتطهير صندوقي منها، ثم ألقتها وتخلت،
وأذنت لربها وولت، فتهافت لالتقاطها الأشرار، تهافت الفراش على النار، فكان
الشرف بهذه الأشياء من نصيب هؤلاء، وما أصاب بعض الكرام من رتبة أو
وسام، فإنما كان بالمصادفة والاتفاق، لا لكونه من أهل الاستحقاق.
((يتبع بمقال تالٍ))