(كيمياء السعادة) رسالة في علم النفس والأخلاق أو التصوف لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي طُبعت في مطبعة المنار عن نسخة خطية قديمة، وصححها بالمقابلة على نسخة خطية أخرى بدار الكتب المصرية ملتزم طبعها الشيخ إبراهيم إسماعيل خاطر، أحد المجاورين في الأزهر، وجعل ثمن النسخة الواحدة من الورق الجيد قرشًا صحيحًا ومن ورق متوسط نصف قرش، وكفى بعزوها إلى حجة الإسلام ترغيبًا فيها، وهي تُطلب من ملتزم طبعها، ومن إدارة مجلة المنار بمصر، وأجرة البريد مليمان. *** (كتاب اللؤلؤ المرصوع فيما لا أصل له أو بأصله موضوع) ألف الحفّاظ والمحدثون كتبًا كثيرة في الأحاديث الموضوعة التي عزيت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذبًا عمدًا أو جهلاً محضًا حتى إن المقلد لكل متقدم ليظن أنهم لم يدعوا لمتأخر مقالاً، ولم يتركوا له في التأليف مجالاً، ولكن من يتوجه إلى الإفادة بإخلاص قلب يفتح الله عليه ما يفيد به. فهذه الكتب المؤلفة في الموضوعات لا تكاد تجد لها قارئًا واحدًا في الألف من طلاب العلم. ونظن أن كتاب (اللؤلؤ المرصوع) الذي طبع في هذه الأيام سيكون حظه عند أهل هذا الزمن أكبر من حظ تلك الكتب؛ لأن مؤلفه هدى بإخلاصه فجمع فيه كثيرًا من الأحاديث الموضوعة التي تدور على ألسنة الناس وفي بعض الكتب ورتبها على حروف المعجم فكانت كتابًا تزيد صفحاته عن المائة. مؤلف الكتاب الشيخ محمد أبو المحاسن القاوقجي الطرابلسي أحد شيوخنا في الحديث. وكفى بذكر القاوقجي تعريفًا فإنه قد اشتهر بصلاحه في هذه البلاد وغيرها ومريدوه يعدون بالألوف رحمه الله تعالى رحمة واسعة. وقد طبع الكتاب على نفقة الحاج عبد الله العطار من مريدي المؤلف، وصححه الشيخ محمد كمال الدين القاوقجي الأزهري نجل المؤلف، وطبعت في آخره رسالة الحافظ الصغاني في الموضوعات. فنحث جميع القراء على مطالعته كيلا يغتروا بما اشتهر من تلك الأحاديث المكذوبة. *** (ديوان الكاشف) أحمد أفندي الكاشف شاعر قوي السليقة بعيد من الصنعة مشهور بما نُشر له من القصائد في الجرائد، وقد جمع شعره من سنة ١٣١٥ إلى سنة ١٣٢٠ وطبعه في ديوان سمّاه (ديوان الكاشف) وصدَّره بمقدمة في ترجمة نفسه بلغت ٣٠ صفحة، وبلغ الديوان بها ١٦٠ صفحة. وقد سلك في الترجمة مسلك الحرية فذكر ما يمدح وما يذم وباح بأسرار الخواطر والهواجس. ويعلم منها أنه كان موكولاً إلى نفسه، مسترشدًا بوجدانه وحسه، يُبتلى فيستسلم لدواعي الأحزان، ويتحمس فيسلك مسالك الشجعان، ويعشق فيسترسل في طاعة الغرام، ولم يصبر على مرارة التعليم، ولم يسلس قياده لنظار المدارس، فاكتفى ببعض المبادئ ورضي من ثمرة العلم والأدب بالشعر يوحيه الذوق وتنظمه السليقة. وهو دموي المزاج حادُّه محب للفخر والعلو ويرى أن الشعر كافٍ في رقي صاحبه إلى ذرى المعالي، وحسبانه في عداد النابغين، كتب ما كتب في مقدمته وشعر بأنه جاء فيها ما يعتذر منه فقال في آخرها: إن له ثلاثة أعذار: المرض وضيق الوقت وفقد النصير. افتتح الديوان بعد المقدمة بتقديمه إلى الله تعالى فقال: رب هذا شعري وهذا بياني ... شهدا لي بصحة الإيمانِ لي داعٍ من فطرتي قبل أن أَتْـ ... ـلُوَ كتابًا إلى اليقين هداني من يكن قام بالعقائد تقليـ ... ـدًا فإني استقمت بالبرهانِ مسلمًا عشت لا لإسلام أمي ... وأبي والأمير والسلطانِ أنا لو كنت ناشئًا ومقيمًا ... بين قوم من عابدي الأوثانِ لم أجد غير دين أحمد أولى ... باتباعٍ من سائر الأديانِ ثم قدمه إلى النبي بأبيات لا تشعر بالتقديم، ثم إلى أمير المؤمنين، ثم إلى مصر ثم إلى قومه، ثم إلى الشعراء. وجعل الديوان أبوابًا في مدح السلطان ومدح أمير مصر ومدح العظماء والإخوان. وفي السياسة والتاريخ ومن هذا الباب قصيدة في فتح السودان، وقصيدة في ذكر الثورة العرابية. وفي التربية والتعليم والأخلاق والآداب والحكم والفكاهات وفي الوطنية وفي الشكوى والعتاب، وفي الخصوصيات والأغراض، وفي حوادث الغرام، وفي المراثي والتعازي، وثمن النسخة من الديوان عشرة قروش في بلاد مصر و١٥ قرشًا في غيرها من البلاد، فعسى أن يلقى هذا الديوان من إقبال القراء ما تقر به عين الناظم. *** (فتح الأندلس) قصة تاريخية غرامية هي الحلقة السابعة من سلسلة (روايات تاريخ الإسلام) تتضمن تاريخ أسبانيا قبيل الفتح، ووصف أحوالها الإدارية والسياسية والدينية وعلاقة بعضها ببعض، وبسط عادات القوط والرومان هناك، والفرق بين طبقات الناس، وقدوم طارق بن زياد لفتحها، والسبب الذي دعاه إلى ذلك - إلى مقتل رودريك ملك القوط في واقعة وادي ليتة سنة ٩٣هـ (هذا ما لخص به الرواية مؤلفها جُرجي أفندي زيدان، وهي كما قال، رغب إلينا المؤلف في قراءة القصة قبل تقريظها حبًّا في النقد الذي لا يحبه إلا الواثق بحسن عمله، الراغب في تكميله فقرأناها بلذة عظيمة، وشهدنا له بحسن تصنيف القصص، فإن القارئ لا ينتهي من فصل من فصولها إلا بشوق يلح به، ويحفزه إلى قراءة ما بعده حتى ينتهي بالفصل الأخير. وننتقد عليه أن المقصود من القصة بيان تاريخ الإسلام كسوابقها، وليس فيها منه إلا ذكر الفتح بغاية الإيجاز. وانتقد غيرنا من نبهاء المسلمين على هذه القصص أنها تصوِّر للقارئ أن انتصار المسلمين في الفتوحات لم يكن إلا بسبب ما كان ألمَّ بالأمم التي فتحوا بلادها كالرومانيين والفرس والمصريين والبربر والقوط من فساد الأخلاق واختلاف المذاهب الدينية، وتفرق الكلمة. ويرى هؤلاء المنتقدون أن هذا غمْط لحقوق المسلمين وعدم اعتراف بشجاعتهم وعناية الله تعالى بهم حمل المؤلف عليهما التعصب الديني. ونحن ننكر عليهم هذا الرأي كتابة كما أنكرناه قولاً، فإن ما ذكره من فساد دين الأمم وأخلاقها وتفريق كلمتها هو السبب الأول في قهر أولئك الشراذم من المسلمين لتلك الأمم القوية العظيمة السلطان بل لولا ذلك الفساد العام لما أرسل الله تعالى ذلك المصلح العام كافة للناس بشيرًا ونذيرًا (صلى الله عليه وسلم) وأيده بعنايته فجمع له كلمة الأمة العربية التي لا يعرف لها التاريخ اجتماعًا، فأدبها وأدب بها - على بداوتها - أمم العلوم والمدنية، على أن المؤلف نوه بشجاعة العرب وفضلهم وعدلهم، ولم ينقصهم منه شيئًا. أما عبارة القصة فقد كنت أتوقع أن تكون خيرًا مما سبقها فإذا هي كغيرها في السلاسة، ولكن فيها كلمات وعبارات عامية لم أَرَ مثلها في كتابة قبلها للرصيف فجزمت بأنه متعمد ليسهل فهم كتابته على العوام، وعندي أن سلاسة عبارته كافية في الوصول إلى هذا المرام، وصحة العبارة لا تحول بين المعنى والأفهام. *** (فتاة غسان) قصة تاريخية غرامية أخرى لجرجي أفندي زيدان أيضًا كتب على ظهرها بعد ذكر اسمها (تشرح حال الإسلام من أول ظهوره إلى فتوح العراق والشام مع بسط عوائد العرب في آخر جاهليتهم وأول إسلامهم ووصف أخلاقهم وأزيائهم وسائر أحوالهم) أهدانا المؤلف نسخة من الجزء الأول منها طبع ثانية قبل إهداء (فتح الأندلس) ، فلم ننظر فيه؛ لأن وقتنا قصير، وعملنا كثير فلما طالعنا هذه إجابة لطلب المودة ساقتنا اللذة إلى مطالعة الأخرى، فكانت اللذة فيها لا تقل عن اللذة في أختها، وعبارتها أسلم من عبارتها، وفائدتها في التاريخ الإسلامي أكبر من فائدتها، وإن كانت لم تشرح حال الإسلام كما قال شرحًا، ولم تبسط عوائد العرب وأخلاقهم وسائر أحوالهم بسطًا، فإنه ذكر جملة صالحة من ذلك كان يجهلها السواد الأعظم من القراء لأن أكثرهم من العوام وإن تعلم الكثيرون منهم في المدارس الابتدائية فإن مدارس مصر لا حظ لها من تاريخ الإسلام. ولذلك كنت أناظر جماعة من أهل العلم يدعون أن قراءة هذه القصص ضارة وأدعي أنا أنها نافعة. يحتج هؤلاء بأن في هذه القصص أغلاطًا تاريخية حتى في الأمور المشهورة ومثل هذا لا يسلم منه كتاب، منها قوله: إن أمير العرب على فتح العراق هو (سعد بن مالك) وهو إغراب، وكان يُدْعَى سعد بن أبى وقاص وإن كان اسم أبيه مالكًا، ويعدون عليه مسائل كهذه جزئية منها ما يستند هو فيه إلى نقل صحيح كهذا أو ضعيف، فمن الأول قوله: إن أبا سفيان حيَّا هِرَقْل بقوله: (أبيت اللعن) وهم ينكرون ذلك محتجين بأنها تحية الحِمْيريين للملوك دون المُضريين، وله أن يحتج هو بإطلاق بعض علماء اللغة والتاريخ أنها تحية الملوك في الجاهلية. ومن الثاني نص كتاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى هرقل، فإنه نقلها عن (الأغاني) هكذا: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم. السلام على من اتبع الهدى، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن إثم الأكابر عليك) . والرواية الصحيحة في البخاري وغيره: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله (وفي رواية رسول الله) إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين (وفي رواية الأكارين - لا الأكابر - وكلاهما بمعنى الفلاحين، يريد: رعيته أهل الحرث) و {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: ٦٤) ، هذا هو نص الكتاب، ولا شك أن المؤلف قصر في اعتماده على كتاب أدبي دون كتب الحديث وكتب السير في أهم شيء من موضوع قصته. وذكر في آخر الكتاب صورة خاتم النبي صلى الله عليه وسلم نقلاً عن الواقدي وهي أن لفظ (محمد) في السطر الأعلى، ولفظ (رسول) في السطر الأوسط، ولفظ الجلالة (الله) في السطر الأدنى، والمشهور العكس، والواقدي يروي الموضوعات وقصته في فتوح الشام مملوءة بالكذب وهذه المسألة أهون من غيرها. أما ما ذكره مؤلف القصة عن أبي سفيان من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأبو سفيان لم يقلها، ولا هو ينقله عنه بالرواية، وإنما جمع المؤلف أقوالاً من الكتب، وألفها مع بعض آرائه وأسندها إلى أبي سفيان لأنهم يستجيزون ذلك في القصص؛ لأن العبرة عندهم بالمسائل لا بالرواية وإن سمى أهل العربية هذه القصص روايات كذبًا ومينًا والمعروف في الصحيح أن أبا سفيان لم يتجاوز أجوبة أسئلة هرقل. ومن المسائل الباطلة التي حكاها المؤلف عن أبي سفيان مسألة الغرانيق. رآها في الطبري، فنظمها في سلك الحكاية، وقال: إن أبا سفيان قال: إن محمدًا ذكر آلهتهم (أي بخير) فيما نزل عليه، ثم رجع عن ذلك (وأبدل هذه الفقرة بفقرة تزيدنا نفرة منه، فقال: (إن تلك إنما ألقاها الشيطان على لسانه) ، ثم ذكر آلهتنا بكل سوء فقال: (إنها أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) إلى غير ذلك مما زادنا نفورًا وبُعدًا) . هذه العبارة بين الهلالين منقولة من القصة بحروفها، وهي توهم أن جملة (إن تلك.. إلخ) مروية عن النبي عليه السلام، وذلك غير صحيح وفيها تحريف للآية الكريمة: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} (النجم: ٢٣) ... إلخ. والسبب في ذلك اعتياد القوم على التساهل في النقل، والاعتماد على المعنى الذين يفهمونه، ويحسبون هذا التساهل هينًا حتى في الأمور الدينية، وهو عند المسلمين عظيم. وقد نشرنا في المجلد الثالث من (المنار) مقالة طويلة للأستاذ الإمام يفند فيها مسألة الغرانيق ويبين بطلانها. وللمؤلف المسيحي العذر في تصديق مسألة ذكرها بعض علماء المسلمين، وسكت عليها فلم يكذبها، وهذه القصة وُضعت بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم تكن معروفة في عهده لمؤمن ولا لمشرك. *** (بشارة بَحيرا الراهب بالنبي صلى الله عليه وسلم وشبهتهم فيه) ومما أسنده المؤلف إلى أبي سفيان قوله: إن أبا طالب كان يصطحب محمدًا في أسفاره فينزل الديور (كذا) ، ويجالس الرهبان والعلماء، وذكر هنا أن بحيرا الراهب أنبأه بأمور كثيرة من مستقبل حياته وأوصى عمه أن يعتني به ويخاف عليه اليهود. وقوله: إن محمدًا كان إذا عاد من سفره يقضي معظم ساعات نهاره في الكعبة يحدث الناس، ويجادلهم ويطارحهم، ويُعجَبون لذكائه وقوة برهانه (قال) : فقد كان على صغر سنه ذكي الفؤاد واسع الاطلاع بما اكتسبه من مجالسة عمه ومخالطة الناس في أسفاره مع أنه أمي لا يعرف القراءة! ونقول: إن هذا غير صحيح فإنه ما كان معروفًا بالفصاحة، ولا بسعة الاطلاع، ولا كان يجادل الناس ولم يقل بالمجادلة جهلاء المسلمين الذين أرادوا أن يعظموه بأكثر مما عظمه الله تعالى به فوضعوا أحاديث واخترعوا حكايات جاءت بنقيض المطلوب منها قولهم عنه: (أنا أفصح مَن نطق بالضاد) قال المحدثون: إنه لا أصل له وقال شيخنا القاوقجي في (اللؤلؤ المرصوع) : والعجب من الجلال المحلّي ذكره في شرح جمع الجوامع من غير تنبيه، وكذا زكريا الأنصاري في شرح المقدمة الجزرية: أما قصة بحيرا الراهب فقد ذكرها أصحاب السير في البشارات بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونظموها في سمط الخوارق التي رووا أنها كانت محتفة بها ولكن النصارى نظموها في سلك آخر، فزعموا أن بحيرا كان معلمًا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعظموا من شأنه، ووسعوا دائرة رواية المسلمين في شأنه فأخذ صاحبنا جرجي أفندي زيدان خلاصة مما قرأه وسمعه من الفريقين وأودعها قصته هذه (فتاة غسان) ونوه بها في غيرها، وأنا أعتقد بما لي من حسن الظن فيه أنه كتب ما يعتقده وإن كان مخطئًا فيه، أوهمت عبارته الماضية أن أبا طالب كان يسافر بابن أخيه قبل النبوة كثيرًا فينزل الأديار ويجالس الرهبان والعلماء ... والصواب أنه لم يسافر مع عمه إلا مرة واحدة، وكان ابن تسع وكان سبب خروجه معه تعلقه به وحبه إياه لما كان يعامله به من الكرامة والإحسان، وفي هذه المرة رآه الراهب بحيرا وبشر ولم يره بعدها. وقد سافر مرة ثانية إلى الشام في عِير لخديجة مع غلامها ميسرة، وكان ابن ٢٥ سنة على الأرجح، وفي هذه المرة رآه نسطورا الراهب، ورأى من علامات النبوة ما أنطقه بأنه هو الذي بشر به المسيح وغيره من الأنبياء ولم ير بحيرا في هذه المرة. وقد ذكر المؤلف رأيه في بحيرا في الفصل الثامن من القصة وملخصه: (١) أن اسم بحيرا (يوحنا) عزا ذلك إلى الكِندي أي: إلى ذلك الكتاب الطاعن في الإسلام، المنسوب إلى رجل على عهد المأمون اسمه إسحق الكندي والكتاب لبعض المتأخرين لا شك عندي في ذلك. وفي السيرة الحلبية وغيرها أن اسمه جرجيس وقيل سرجيس. و (٢) أن سلمان الفارسي كان تلميذًا له نقل ذلك عن الدائرة ولم يُعرف في ترجمة سلمان عند المحدثين. و (٣) أنه كان على مذهب آريوس. و (٤) أنه كان عالمًا بالفلك والنجوم والطوالع وسائر علوم تلك الأيام. و (٥) أنه كان حسن الفراسة ولكنهم كانوا يعتقدون أنه ساحر. و (٦) أنه سافر في آخر عهده إلى مكان مجهول في جزيرة العرب ثم عُلم أن اليهود قتلوه غيلة. و (٧) أن المظنون في سبب ذهابه إلى بلاد العرب قصد الحجاز لحادثة جرت معه. ثم ذكر المؤلف في بيان هذه الحادثة قصة عن لسان راهب كان تلميذًا لبحيرا وملخصها: أن القوافل القادمة من بلاد العرب كانت تقف عند دير بحيرا بالقرب من مدينة بُصْرَى، وكان بحيرا يخرج إليهم ويعلِّمهم عبادة الله تعالى إذا كانوا وثنيين، وأنه كان يعتقد أن الله ظهر له في الرؤيا وأنبأه بأنه سيكون واسطة لهداية بني إسماعيل، ثم رأى في رؤيا أخرى: (أن فتى جميل المنظر شهمًا مولده ببرج الثور والزهرة مع قران المشتري وزُحل سيهدي بني إسماعيل إلى معرفة الله وأن به يقوى أمرهم ويشتد أزرهم وتجتمع كلمتهم فيذللون أبناء عمهم بني إسحق ويتسلطون عليهم مدة كما أشار إليه دانيال في نبوته وأنه يخرج من العرب اثنتا عشرة دولة) . ثم ذكر المؤلف بلسان الراهب أن قافلة جاءتهم من قريش فشاهد بحيرا فيهم غلامًا جميلاً علم أنه هو الذي بُشر به في المنام وأوصى به عمه أن يحذر عليه اليهود، (قال) : ثم كانوا كلما مروا بنا أقاموا عندنا كالعادة. أقول في هذه الحكاية أغلاط يبنى عليها أحكام فاسدة وهو لم يروها عن أحد وإنما استنبطها من قريحته ليصور فيها ما كان يعتقده في النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أنه اقتبس آراءً من ذلك الراهب في التوحيد وغير التوحيد وطفق يستعد لتحقيق بما بشره به، وكان يختلف إليه للاستفادة منه ثم إن الراهب بعد ذلك رحل إليه. وحاصل القول إن دين الإسلام بُني على معارف ذلك الراهب وبشارته. ويظهر أن المؤلف رجع عن هذا الرأي الذي يؤخذ من كلامه في بحيرا وصار يعتقد أن النبي عليه السلام لم يكن متصنعًا ولا متكلفًا؛ بل كان يعتقد في نفسه أنه مرسل من الله تعالى ويفهم هذا الرجوع مما كتبه بعد ذلك في الجزء الأول من (تاريخ تمدن الإسلام) . أما الأغلاط المهمة التي جاءت في حكايته المخترعة: فأحدها: قوله: إن كان يعلّم العرب الذين كانوا ينزلون بجوار الدير والصواب أنه ما كان يخرج إليهم ولا يكلمهم قال في السيرة الحلبية: (وكانت قريش كثيرًا ما تمر على بحيرا فلا يكلمهم حتى إن ذلك العام صنع لهم طعامًا كثيرًا، وقد كان رأى وهو بصومعته رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركب حين أقبلوا، وغمامة تظله من بين القوم ثم لما نزلوا في ظل شجرة نظر إلى الغمامة قد أظلت الشجرة وتهصرت - أي مالت - أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استظل تحتها.. ثم أرسل إليهم: قد صنعت لكم طعامًا يا معشر قريش، وأحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم وعبدكم وحركم. فقال له رجل منهم - لم أقف على اسم هذا الرجل -: يا بحيرا، إن لك اليوم شأنًا ما كنت تصنع هذا بنا وكنا نمر عليك كثيرًا فما شأنك اليوم؟ فقال: صدقت ... القصة) وفيها أن النبي لم يحضر معهم أولاً فسألهم عمن تخلف؛ لأنه لم يَرَ الغمامة على أحد منهم فقالوا له: ما تخلف عن طعامك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام وهو أحدث القوم سنًّا، فطلبه فجاء والغمامة فوقه. فلما أكل القوم وتفرّقوا قام إليه بحيرا فقال له: أسألك باللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسألني باللات والعزى شيئًا، فوالله ما أبغض شيئًا قط بغضهما، فقال بحيرا: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال له: سلني عما بدا لك، فجعل يسأله عن أشياء من حاله، من نومه وهيئته وأموره ويخبره فيوافق ما عنده من صفته أي صفة النبي المبعوث آخر الزمان، وذكر أنه أوصى به عمّه، وليس في رواية من الروايات أنه علَّمهم في تلك الدعوة أو غيرها شيئًا أو دعاهم إلى توحيد أو غيره. ثانيها: خبر الرؤيا والنظر في النجوم وقد علمت أن سبب البشارة به في الرواية المأثورة هو ما رآه من النعوت والآيات، وما كان يحفظ من البشارات، فالرؤيا المنامية دعوى اختراعية. وبناء البشارة على معرفته بالتنجيم حكاية خرافية فإن قالوا: إنهم لا يسلمون بما في الرواية الإسلامية من تظليل السحابة والشجرة نقول سواء علينا أرددتم هذا وحده أم رددتم الرواية من أصلها وأرحتمونا من ذكر بحيرا الذي عظمتم أمره، وهو واحد من ألوف كانوا يعتقدون بأن نبيًّا يُبعث من آل إسماعيل كما بشرت التوراة والإنجيل. ثالثها: قوله: وأقام الركب عندنا مدة، ورابعها: قوله: ثم كانوا كلما مروا بنا أقاموا عندنا كالعادة، وكلاهما غير صحيح كما علمت. وجملة القول أنه لا توجد شبهة ما على أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم رأى بحيرا غير تلك المرة، ولا توجد شبهة ما على أنه استفاد منه علمًا يُذكر، أو حكمًا يُؤثر، وماذا عسى يستفيد ابن تسع من مجلس جلسه إلى عالِم؟ ! وكيف يصدق عاقل أن ذلك الغلام يخزن هذه العلوم زمنًا يزيد على ثلاثين سنة ثم يفيضها على الناس بحكمة باهرة وسياسة عالية؟ ! وكيف عجز الراهب مفيض العلوم عن هداية رجل واحد كالراهب الذي يحكي عنه في القصة، وقدر ذلك الغلام المستفيض على هداية الشعوب والقبائل وقلب نظام العالم بتطهيره من الشرك والوثنية والظلم والتهتك في الشهوات؟ ! إن في ذلك لآياتٍ. وإنما أطنبت في قصة بحيرا إطنابًا ما كان يتسع له تقريظ قصة؛ لأنني كنت أسمع من رهبان هذا الزمان وبعض عوام النصارى كلامًا كثيرًا في دعوى تعليمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما كنت أظن أن خواصهم يحفلون بذلك حتى رأيت في هذه القصص ما رأيت، ولا أزال أعتقد أن رصيفنا الفاضل جرجي أفندي زيدان ليس له قصد شيء يحمله على كتابة ما لا يعتقد. وأقول: إنه لا يجوز لمسلم أن يثق بغير العلماء الراسخين من أهل الدين في نقل الأمور الدينية؛ إذ لا يعرف الصحيح المعتمد عليه غيرهم.