قد صدر الجزء الرابع من هذا المجلد، وهو في سيرة الخليفة الثالث عثمان بن عفان ومَنْ اشتهر من رجال دولته، وصفحاته ٢٢٠ وقد كان مصنفه (رفيق بك العظم) وعد بأن سيوجز القول في خلافة عثمان وعلي - رضي الله عنهما - تحاميًا للخوض في مسألة الخلافة ومثار الفتن في الأمة، فما زال به محبو التاريخ، وطلاب الحقائق من قراء كتابه حتى أرجعوه عن رأيه، وأقنعوه بوجوب بيان تلك الحوادث بعللها، وأسبابها، ونتائجها، ومعلولاتها؛ فأقدم على البحث بما نعهد فيه من الأدب، والإخلاص، والبعد عن التشيع والاعتساف، فجاء بمصاص الأخبار، واستخرج منها آيات العظة والاعتبار، ولم يأل جهدًا في حسن الاختيار، واستنباط الحكم والأعذار لعظماء الصحابة الأخيار. تصفحت جل ما كتبه في الفتنة التي أدت إلى قتل عثمان - رضي الله عنه- فرأيته قد حصر ما نقمه الناس من عثمان بحق في غلبة بني أمية على أمره حتى استبدوا بالأمر دونه، وافتاتوا عليه، وحملوه على الرجوع بما عاهد عليه المسلمين وتاب عنه في محفل كبراء المهاجرين، وبَيَّن أن أهل الرأي ورجال الشورى من الصحابة خافوا أن يجعلوا الخلافة أموية تقوم بالعصبية لا قرشية تقوم بالانتخاب والشورى الشرعية، وكشف الحجاب عما كان هناك من الجمعيات السرية التي تحرض الناس على التألب على الخليفة، وإلزامه بإبعاد دهاة بني أمية عنه، أو اعتزاله وخلع نفسه. وبَيَّن أنه لم يكن أحد من كبراء الصحابة وزعمائهم يعتقد أن الأمر يصل إلى ما وصل إليه، وأنهم يقتلون الخليفة ظلمًا، ولم يفعل فعلاً يبيح دمه، وانتحل لعثمان أحد عذرين في الاعتصام بقومه. أحدهما: أنه علم أن رجال الشورى الستة كل منهم يريد الخلافة لنفسه وله أنصار، فخاف أن يترك أنصاره الأقربين من بني أمية فيختلف القوم دونه ويتوثب عمال الأمصار عليه؛ فلا يجد له عاصمًا؛ لذلك ولاَّهم الأمصار وزاد استمساكه بهم حين سئل التخلي عنهم، وثانيهما: أن قومه استلانوا جانبه واستضعفوه فغلبوا على رأيه فيهم. أقول: إن الثاني هو الصواب ويدل عليه تعويله على تنحية مروان وذويه، وتصريحه في خطبته التي بكى فيها وأبكى الناس (وهي في ص ٧٩٧ من الكتاب) وفيها أن بني أمية قد استحوذوا على عثمان بعد ذلك، وملكوا جَنانه لكبر سنه وضعفه، فعذلوه واستذلوه وافتات عليه مروان بما افتات. يعلم كل من قرأ تاريخ المسلمين أن تألب الناس على عثمان لم يكن يرجى له صد إلا باعتزاله الخلافة، وخلع نفسه منها، أو بعزل مروان وغيره من دهاة بني أمية الذين غلبوا على أمره، وتقلدوا معظم أعماله، وقد علمت رأي المصنف في الأمر الثاني، وأما الأمر الأول، فقد ذكر أن لامتناع عثمان عنه أحد أسباب ثلاثة: ١- ضعف الإرادة الذي هو أثر كبر السن. ٢- الخوف أن يسجلوا عليه ما اتهموه به من الأحداث، وهو يعتقد أنه لم يستحل فيها محرم. ٣- العمل برأي مروان وأضرابه الذين كانوا يعلمون أن أمر الملك لا يتم لهم إلا بإراقة الدم. والثالث هو الصواب، وربما كان غيره داعمًا له، ولولاه لكان يمكن أن يقال إن امتناعه من اعتزال الخلافة مع تألب الناس عليه وحصرهم إياه، هو من قوة الإرادة لا من ضعفها. ومن فصول الكتاب التي تستحق أن ينبه عليها ويلفت إليها، فصل عقده لإثبات عدم تحامل رجال الشورى على علي - كرم الله وجهه - وبيان أن خلافة كل واحد من الراشدين جاءت في وقتها اللائق بها. ورأيت صديقي المؤلف قد أكثر القول بهذا الجزء في تقرير رأيه في الخلافة والحكومة الإسلامية، وبيان ضرر ما ينكره منها ويعده أصل البلاء، وعلة الضعف والشقاء، وهو أمر أن عدم توفر شروط الشورى والاختيار في البيعة بحيث كان شكل الخلافة وسطًا بين الشورى والاستبداد، أو بين الحكم المطلق والحكم المقيد إذ أناطوا بالخليفة جميع الأعمال، وثانيهما اصطباغ المسلمين في حياتهم السياسية بصبغة الدين وعدهم الخليفة رئيسًا دينيًّا. قراء المنار يعرفون رأيه في هذه المسألة، ولم ينسوا المناظرة التي كانت بينه وبين أحد علماء الهند في هذه المجلة. وأقول: إن هذه المسألة الكبيرة لم تنحل فيما كتبه فلا تزال في حاجة إلى تحرير، وكنا وعدنا بكتابة رأينا فيها بالتفصيل، ولما تسمح لنا الفرص بذلك. نقول هنا: إن ما جاء به الإسلام في ذلك، وما كان من انتخاب الخلفاء الراشدين، وسيرتهم يصدق عليه قول الإمام الغزالي في نظام الوجود العام (ليس في الإمكان أبدع مما كان) إلا ما كان من إصرار عثمان على إمساك مروان، وغيره من ذوي قرابته الذي نقم منهم المسلمون، ولقد يظهر للمؤرخ الذي وقف على نظام الحكومات النيابية في هذا العصر أنه كان ينبغي للراشدين أن يضعوا نظامًا مثله، وإذ لم يفعلوا فلنا أن نحكم بأن عملهم كان ناقصًا. ومثال هذا مثال من ينكر بعض مظاهر الوجود التي رأى من جنسها ما هو أحسن منها غافلاً عن إمكان ذلك وعدم إمكانه بحسب سنن الكون العامة. الحكومة النيابية المنتظمة القائمة على أساس الشورى، والاختيار لا تصل إليها الأمم إلا بعد أن تربى وتتعلم في مدرسة الحكومة الاستبدادية زمنًا طويلاً، فلم توضع حكومة نيابية منتظمة على وجه الأرض بمجرد الرأي والاستحسان من أفراد أسسوها وأقنعوا الأمة بأن فيها مصلحتها، فقامت بها وثبتت عليها اقتناعًا بقولهم وعملاً برأيهم. وإنما كان تأسيس الحكومات النيابية والجمهورية بما نعلم ويعلم صديقنا مؤلف أشهر مشاهير الإسلام، ثم كان تقدمها وثباتها بالتدريج بعد ارتقاء الأمم في العلوم والأعمال الاجتماعية بالتدريج أيضًا. كان يقول كما يقول بعض الناس: إنه كان ينبغي للمسلمين أن يتعلموا كيفية تأسيس الحكومة النيابية من جيرانهم الرومانيين، ثم هو يعتذر الآن عن الخلفاء الراشدين بأن الحكومات النيابية كانت بعيدة العهد يومئذ من مجاوريهم الرومانيين فلجأوا إلى إناطة كل شؤون الدولة السياسية والدينية بالخليفة (ص ٦٧٩) فيالله وللرومانيين هل كانت قوانينهم ومجالس شيوخهم ونوابهم عاصمة لهم من السقوط في هوة الاستبداد، ثم من تحويل الجمهورية إلى إمبراطورية. ألم يكن الأشراف هم أصحاب المجالس والحقوق، والعوام لا حقوق لهم؟ ألم يكن الدافع للملك (سرفيوس) المصلح إلى منح العوام جميع الحقوق الرومانية هو التخلص من أثرة الأشراف وظلمهم وشدة فرقه منهم؟ ألم يأت بعده الملك الطاغية (تاركان) بأشد ضروب الاستبداد تشويهًا، فأفسد كل ما كان أصلحه (سرفيوس) وكان يقتل كل من يتوسم فيه عدم الإخلاص له من أعضاء مجلس الشيوخ والأعيان، ويسخر الأهالي لأعماله الخاصة حتى كانت مظالمه العامة هي السبب في تأسيس الجمهورية سنة (٥١٠ ق م) ألم يحول (أغسطس قيصر) الجمهورية بعد استقرارها إلى إمبراطورية سنة (٢٨ ق م) أولم يحول نابليون الجمهورية الفرنسية إلى ملكية؟ ويفعل فعلته بمجلس النواب على أن شعب فرنسا كان أرقى من شعب رومية يومئذ؟ هل تأسست الجمهورية الرومانية كاملة؟ ألم يكن ضباط الجيش هم الذين ينتخبون النواب في الحكومة الجمهورية؟ ألم يكن هؤلاء الضباط وعسكرهم آلة في أيدي الأشراف المستبدين؟ ألم يقاوم الأشراف اقتراح (فوليرو) أن يكون الشعب هو الذي ينتخب نوابه حتى ثار الشعب ونال هذا الحق بالثورة سنة ٤٧١؟ هل نال الشعب بعد هذا حقوق المساواة إلا بالتدريج؛ إذ نال المساواة في الحقوق المدنية سنة ٤٥٠ ق م، والمساواة في الحقوق السياسية سنة ٣٩٧ والمساواة في الحقوق القضائية سنة ٣٢٩، ثم لم يتم له حق المساواة في الأعمال القضائية إلا بعد سنين، والمساواة في الدين سنة ٣٠٢ ق م؟ أولم تكن المساواة في جميع هذه الحقوق عامة في الحكومة الإسلامية من أول يوم لاصطباغها بصبغة الدين الذي يخضع المتدين لأحكامه عندما يسمعها؟ نعم، كل هذا مما لا ينكره عارف، ولولا أن كانت أركان الحكومة الإسلامية قائمة على أساس الدين لما استقام للمسلمين حكم ولما وجد ذلك العدل العام الذي لم تكتحل عين الزمان بمثله حتى اليوم؛ فإن الدولة الإنكليزية، التي هي أرقى الأمم الأوربية في حكوماتها وأقربها من العدل في مستعمراتها لا تساوي بين أبناء جلدتها في الحقوق، وبين الهنود بحيث تقتص من مثل اللورد كتشنر لرجل هندي كما أراد عمر أن يفعل بجبلة بن الأيهم ملك غسان، وكما ساوى بين علي ورجل من آحاد يهود، وكما أعد الصحابة من أحداث عثمان التي توجب خلعه عدم قتل عبيد الله بن عمر أمير المؤمنين بالهرمزان الفارسي الذي قتله لقيام القرينة عنده على إغرائه بقتل أبيه أمير المؤمنين، وإن استرضى عثمان ولي الدم بماله ... إلخ إلخ. وسنبين في مقال خاص بهذه المسألة كيف كان ما عمله الراشدون هو المتعين الذي لا يمكن أن يكون خير منه يومئذ، وكيف كان الفساد الذي طرأ على الحكومة الإسلامية فأضعف الأمة وزعزع الملة، محصورًا في هدم بني أمية للقواعد التي وضعها القرآن للحكومة الإسلامية، وأيدتها السنة، وهي إبطال العصبية الجنسية وجعل أمر المسلمين شورى بينهم، والإذن لأولي الأمر، وهم أهل الحل والعقد باستنباط الأحكام مجتمعين، وإيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقول والفعل. وجملة القول في هذا الجزء من كتاب أشهر مشاهير الإسلام أنه من أنفع الأجزاء، وأشدها عظة وتذكيرًا بحال سلفنا {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: ٢٦٩) وهو مطبوع طبعًا حسنًا على ورق أجود من ورق الأجزاء الأولى، وثمن النسخة منه ثمانية قروش صحيحة، وأجرة البريد قرش ونصف ويطلب من مكتبة المنار وغيرها.