للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: ابن القيم الجوزية


مكان الأسباب من الدين
فصل من مدارج السالكين
في رد ما قاله صاحب المنازل في باب التلبيس
قد عرفت أن هذا الباب مبناه على محو الأسباب، وعدم الالتفات إليها،
والوقوف معها، ولهذا سمى المُصَنِّف نصبها تلبيسًا، ونحن نقول: إن الدين هو
إثبات الأسباب، والوقوف معها، والنظر إليها، والالتفات إليها وإنه لا دِينَ إلا
بذلك كَمَا لا حقيقةَ إلا به، فالحقيقة والشريعة مبناهما على إثباتها لا على محوها،
ولا ننكر الوقوف معها؛ فإن الوقوف معها فرض على كل مسلم لا يتم إسلامه
وإيمانه إلا بذلك، والله تعالى أمرنا بالوقوف معها بمعنى أنا نثبت الحكم إذا وُجدت
وننفيه إذا عُدمت، ونستدل بها على حكمه الكوني، فوقوفنا معها بهذا الاعتبار هو
مقتضى الحقيقة والشريعة، وهل يمكن حيوانًا أن يعيش في هذه الدنيا إلا بوقوفه مع
الأسباب؟ فينتجع مساقط غيثها وموقع قطرها، ويرعى في خصبها دون جدبها،
ويسالمها ولا يحاربها، فكيف وتنفسه في الهواء بها، وتحركه بها، وسمعه وبصره
بها، وغذاؤه بها، ودواؤه بها، وهداه بها، وسعادته وفلاحه بها، وضلاله وشقاؤه
بالإعراض عنها وإلغائها، فأسعد الناس في الدارين أقومهم بالأسباب الموصلة إلى
مصالحهما، وأشقاهم في الدارين أشدهم تعطيلاً لأسبابهما، فالأسباب محل الأمر
والنهي، والثواب والعقاب، والنجاح والخسران، وبالأسباب عُرف الله، وبها عُبد
الله، وبها أُطيع الله، وبها تقرب إليه المتقربون، وبها نال أولياؤه رضاه وجواره
في جنته، وبها نصروا حزبه ودينه، وأقاموا دعوته، وبها أرسل رسله وشرع
شرائعه، وبها انقسم الناس إلى سعيد وشقي، ومهتد وغوي، فالوقوف معها
والالتفات إليها والنظر إليها هو الواجب شرعًا كما هو الواقع قدرًا.
ولا تكن ممن غلظ حجابه، وكثف طبعه فيقول: لا تقف معها وقوف من
يعتقد أنها مستقلة بالإحداث والتأثير، وأنها أرباب من دون الله، فإن وجدت أحدًا
يزعم ذلك أو يظن أنها أرباب وإله مع الله مستقلة بالإيجاد، أو أنها عون لله يحتاج
في فعله إليها، أو أنها شركاء له فشأنك به، فمزق أديمه وتقرب إلى الله بعداوته ما
استطعت، وإلا فما هذا النفي لما أثبته الله! والإلغاء لما اعتبره! والإهدار لما حققه!
والحط والوضع لما نصبه! والمحو لما كتبه! والعزل لما ولاه! ! فإن زعمت
أنك تعزلها عن رتبة الإلهية فسبحان الله! من ولَّاها هذه الرتبة حتى تجعل سعيك
في عزلها عنها.
ويا لله ما أجهل كثيرًا من أهل الكلام والتصوف، حيث لم يكن عندهم تحقيق
التوحيد إلا إلغاءها ومحوها وإهدارها بالكلية، وأنه لم يجعل الله في المخلوقات قوى
ولا طبائع ولا غرائز لها تأثير موجبة ما، ولا في النار حرارة ولا إحراق، ولا في
الدواء قوة مذهبة للداء، ولا في الخبز قوة مشبعة، ولا في الماء قوة مروية، ولا
في العين قوة باصرة، ولا في الأنف قوة شامَّة، ولا في السم قوة قاتلة، ولا في
الحديد قوة قاطعة، وأن الله لم يفعل شيئًا بشيء، ولا فعل شيئًا لأجل شيء، فهذا
غاية توحيدهم الذي يحومون حوله، ويبالغون في تقريره، فلعمر الله لقد أضحكوا
عليهم العقلاء، وأشمتوا بهم الأعداء، ونهجوا لأعداء الرسل طريق إساءة الظن بهم،
وجنوا على الإسلام والقرآن أعظم جناية، وقالوا نحن أنصار الله ورسوله
الموكلون بكسر أعداء الإسلام وأعداء الرسل، ولعمر الله لقد كسروا الدين وسلطوا
عليه المبطلين، وقد قيل " إياك ومصاحبة الجاهل فإنه يريد أن ينفعك فيضرك "
فقف مع الأسباب حيث أُمرت بالوقوف معها، وفارقها حيث أُمرت بمفارقتها، كما
فارقها الخليل وهو في تلك السفرة من المنجنيق (إلى النار) حيث عرض له
جبريل أقوى الأسباب، فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، ودُر معها حيث
دارت ناظرًا إلى مَنْ أَزِمّتها بيديه، والتفت إليها التفات العبد المأمور إلى تنفيذ ما
أمر به والتحديق نحوه، وارعها حق رعايتها، ولا تغب عنها، ولا تفن عنها، بل
انظر إليها وهي في رتبتها التي أنزلها الله إياها، واعلم أن غيبتك بمسببها عنها
نقص في عبوديتك، بل الكمال أن تشهد المعبود، وتشهد قيامك بعبوديته، وتشهد
أن قيامك به لا بك، ومنه لا منك، وبحوله وقوته لا بحولك وقوتك، ومتى خرجت
عن ذلك وقعت في انحرافين لا بد لك من أحدهما: إما أن تغيب بها عن المقصود
لذاته لضعف نظرك وغفلتك وقصور علمك ومعرفتك، وإما أن تغيب بالمقصود
عنها بحيث لا تلتفت إليها، والكمال أن يسلمك الله من الانحرافين؛ فتبقى عبدًا
ملاحظًا للعبودية ناظرًا إلى المعبود، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا
قوة إلا بالله.
((يتبع بمقال تالٍ))